
الأمة المسلمة لها شخصية مستقلة بما خصها الله به من الخصائص في نبيها الذي أرسل إليها، وكتابها الذي أنزل عليها، والشرع الذي كلفت به، وبما اختصها الله به من الخاتمية لدينها الخالد المحفوظ من التحريف والضياع، وصلاحيته لكل زمان ومكان، بما يجعل المسلم مطالبا بالتمسك بهذا الدين، والاعتزاز بالانتماء إليه، ومفارقة السبل كلها، والحذر من الذوبان الذي يبدد كل هذه الخصائص.
وهذا الأمر في القرآن الكريم الكريم والسنة النبوية في غاية الوضوح والتأكيد؛ لتحذير الأمة من دروب اليهود والنصارى وما حصل عندهم من الغلو والتفريط والتحريف، ونقف عند نص نبوي ظاهره الخبر ومقتضاه التحذير والتأكيد على هذا المعنى.
في الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه» قلنا يا رسول الله: اليهود، والنصارى قال: «فمن» !
لم يكن مقصود النبي صلى الله عليه وسلم مجرد الإخبار بحصول ذلك في الأمة، والاسترسال في ذكر الحوادث والحكايات، بل هو تحذير شديد، وإنذار مبكر للأمة أن لا تضيع شخصيتها وخصائصها بهذه التبعية الخاسرة، وهو بمثابة تشخيص للداء الذي سيصيب الأمة، حتى يستشعر العقلاء وأهل الفطر السليمة للخطورة، وأن لا تشغلهم التفاصيل عن المشهد العام، والحقيقة الكلية التي صورها النبي صلى الله عليه وسلم بمشهد محسوس يستفيق به الغافل وينتبه له كل أحد.
بلاغة التشبيه النبوي:
المعنى الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم تصويره هو شدة المتابعة للأمم والحرص على التشبه بهم حتى لو سلكوا طرق الرذائل، وسقطوا في الوحل، واختاروا الضيق، فلن تترددوا في متابعتهم رغم ما في ذلك من الضيق والقذارة، فشبه ذلك بدخول جحر الضب، قال العيني في عمدة القاري: ووجه التخصيص بجحر الضب، لشدة ضيقه ورداءته، ومع ذلك فإنهم لاقتفائهم آثارهم واتباعهم طرائقهم لو دخلوا في مثل هذا الضيق الرديء لوافقوهم. انتهى
تحقق الخبر النبوي:
لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن حال الأمة في آخر الزمن، وما يكون عليه الناس من ضياع وانحراف واتباع للمحدثات، ولكن المتأمل يرى أن معظم ذلك قد حصل ويحصل، ولذلك جاء هذا الإنذار النبوي المبكر.
قال ابن بطال: أعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور والبدع والأهواء كما وقع للأمم قبلهم. انتهى. قال العيني 855هـ في تعليقه على كلام ابن بطال: قد وقع معظم ما ذكره خصوصا في الديار المصرية وخصوصا في ملوكها وعلمائها وقضاتها. انتهى. فالعيني وغيره من الشراح كانوا يرون أن الخبر النبوي قد تحقق في أزمانهم، وأن الزمن لن يأتي إلا بزيادة ذلك واتساعه، أما أصل الخبر فقد وقع ولا شك في ذلك.
وجوه التبعية التي حدثت:
ورد الخبر النبوي على سبيل الإطلاق "لتتبعن" ولم يحدد لنا النص النبوي مجالات الاتباع التي ستكون، والقاعدة أن حذف المتعلق يفيد العموم، فيتسع المعنى ليشمل اتباعهم في عقائدهم، وأخلاقياتهم، وأنماط حياتهم، والتشبه بهم في كل شيء مما يختصون به لا على سبيل التعلم والاستفادة مما يصلح لنا من أمورهم فحسب، وإنما على سبيل التبعية المطلقة، والتقليد الأعمى في مضايق الأمور وسيئ العادات، ومنكرات الأخلاق، والواقع يؤكد هذا الإطلاق، وهو شاهد على أن الأمة تحاكي الثقافات الغالبة وهي مغمضة عيناها عن عيوب تلك الثقافات، وسقوط قيمها المادية، وعدم صلاحيتها للبشر فضلا عن كونها تقدم نموذجا بشريا سويا، وإنما أوجب ذلك هو التفوق العسكري الذي حظي به غير المسلمين، مما جعل جمهور المسلمين يشعرون بالانبهار أو ما يسميه مالك بن نبي "مركب النقص"، قال ابن خلدون في مقدمته مفسرا هذه الحالة: إن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، والسّبب في ذلك أنّ النّفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها. انتهى.
وجه الإعجاز في الحديث:
حين قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث كان الذي بين يديه من أمثال أبي بكر وعمر وبقية الصحابة الكرام، وهم على يقين تام بهذا الدين، وكانوا تبعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في ظواهرهم وبواطنهم، وكانوا أحرص ما يكونون على مفارقة سبل اليهود والنصارى، مستمسكين بدينهم عن رضا ومحبة، ومع ذلك كان يلقي عليهم مثل هذا التحذير، ولا يوجد لهذه التبعية أي بوادر تمكنهم من تصور هذا الحال، غير أنه صلى الله عليه وسلم يخبر عن وحي أوحاه الله إليه، فهو بالنسبة إليهم غيب مستور، وهو اليوم واقع مشهود لا يماري فيه أحد، وهي معجزة نبوية كسائر المغيبات التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم ووقعت كما أخبر.