اختلفوا في المسائل الشرعية الفرعية ، هل يجوز التقليد فيها أم لا ؟
فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يجوز مطلقا .
قال القرافي : مذهب مالك ، وجمهور العلماء : وجوب الاجتهاد ، وإبطال التقليد ، وادعى الإجماع على النهي عن التقليد . ابن حزم
قال : ونقل عن مالك أنه قال : أنا بشر أخطئ وأصيب ، فانظروا في رأيي ، فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به ، وما لم يوافق فاتركوه . وقال عند موته : وددت أني ضربت بكل مسألة تكلمت فيها برأي سوطا ، على أنه لا صبر لي على السياط .
قال : فهاهنا ابن حزم مالك ينهى عن التقليد ، وكذلك ، الشافعي وأبو حنيفة وقد روى المزني عن في أول مختصره أنه لم يزل ينهى عن تقليده ، وتقليد غيره انتهى . الشافعي
وقد ذكرت نصوص الأئمة الأربعة المصرحة بالنهي عن التقليد في الرسالة التي سميتها القول المفيد في حكم التقليد فلا نطول المقام بذكر ذلك وبهذا تعلم أن إن لم يكن إجماعا ، فهو مذهب الجمهور ، ويؤيد هذا ما سيأتي في المسألة التي بعد هذه ، من حكاية الإجماع على عدم جواز تقليد الأموات ، وكذلك ما [ ص: 761 ] سيأتي من أن عمل المجتهد برأيه إنما هو رخصة له ، عند عدم الدليل ، ولا يجوز لغيره أن يعمل به بالإجماع ، فهذان الإجماعان يجتثان التقليد من أصله ، فالعجب من كثير من أهل الأصول ، حيث لم يحكوا هذا القول إلا عن بعض المنع من التقليد المعتزلة .
وقابل مذهب القائلين بعدم الجواز بعض الحشوية وقال : يجب مطلقا ، ويحرم النظر ، وهؤلاء لم يقنعوا بما هم فيه من الجهل ، حتى أوجبوه على أنفسهم ، وعلى غيرهم ، فإن التقليد جهل وليس بعلم .
( والمذهب الثالث ) : التفصيل ، وهو أنه يجب على العامي ، ويحرم على المجتهد ، وبهذا قال كثير من أتباع الأئمة الأربعة ، ولا يخفاك أنه إنما يعتبر في الخلاف أقوال المجتهدين ، وهؤلاء هم مقلدون ، فليسوا ممن يعتبر خلافه ، ولا سيما وأئمتهم الأربعة يمنعونهم من تقليدهم وتقليد غيرهم ، وقد تعسفوا ، فحملوا كلام أئمتهم هؤلاء على أنهم أرادوا المجتهدين من الناس ، لا المقلدين فيالله العجب .
وأعجب من هذا أن بعض المتأخرين ممن صنف في الأصول نسب هذا القول إلى الأكثر ، وجعل الحجة لهم الإجماع على عدم الإنكار على المقلدين ، فإن أراد إجماع خير القرون ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، فتلك دعوى باطلة فإنه لا تقليد فيهم ألبتة ، ولا عرفوا التقليد ولا سمعوا به بل كان المقصر منهم يسأل العالم عن المسألة التي تعرض له فيفتيه بالنصوص التي يعرفها من الكتاب والسنة ، وهذا ليس من التقليد في شيء بل هو من باب طلب حكم الله في المسألة ، والسؤال عن الحجة الشرعية .
وقد عرفت في أول هذا الفصل أن ، وليس المراد بما احتج به الموجبون للتقليد ، والمجوزون له من قوله - سبحانه - : التقليد إنما هو العمل بالرأي لا بالرواية فاسألوا أهل الذكر إلا السؤال عن حكم الله في المسألة ، لا عن آراء الرجال ، هذا على تسليم أنها واردة في عموم السؤال ، كما زعموا ، وليس الأمر كذلك بل هي واردة في أمر خاص ، وهو السؤال عن كون أنبياء الله رجالا ، كما يفيده أول الآية وآخرها حيث قال : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر [ ص: 762 ] وإن أراد إجماع الأئمة الأربعة ، فقد عرفت أنهم قالوا بالمنع من التقليد ، ولم يزل في عصرهم من ينكر ذلك ، وإن أراد إجماع من بعدهم ، فوجود المنكرين لذلك منذ ذلك الوقت إلى هذه الغاية معلوم بكل من يعرف أقوال أهل العلم ، وقد عرفت مما نقلناه سابقا أن المنع قول الجمهور ، إذ لم يكن إجماعا ، وإن أراد إجماع المقلدين للأئمة الأربعة خاصة ، فقد عرفت مما قدمنا في مقصد الإجماع أنه لا اعتبار بأقوال المقلدين في شيء ، فضلا عن أن ينعقد بهم إجماع .
[ ص: 763 ] والحاصل أنه لم يأت من جوز التقليد ، فضلا عمن أوجبه ، بحجة ينبغي الاشتغال بجوابها قط ، ولم نؤمر برد شرائع الله - سبحانه - إلى آراء الرجال ، بل أمرنا بما قاله - سبحانه - : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول أي كتاب الله وسنة رسوله ، وقد كان - صلى الله عليه وآله وسلم - يأمر من يرسله من أصحابه بالحكم بكتاب الله ، فإن لم يجد فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فإن لم يجد فبما يظهر له من الرأي كما في حديث معاذ .
وأما ما ذكروه من استبعاد أن يفهم المقصرون نصوص الشرع ، وجعلوا ذلك مسوغا للتقليد ، فليس الأمر كما ذكروه ، فهاهنا واسطة بين الاجتهاد والتقليد ، وهو سؤال الجاهل للعالم عن الشرع فيما يعرض له ، لا عن رأيه البحت واجتهاده المحض ، وعلى [ ص: 764 ] هذا كان عمل المقصرين من الصحابة والتابعين ، وتابعيهم ، ومن لم يسعه ما وسع أهل هذه القرون الثلاثة ، الذين هم خير قرون هذه الأمة على الإطلاق ، فلا وسع الله عليه ، وقد ذم الله - تعالى - المقلدين في كتابه العزيز في كثير من الآيات إنا وجدنا آباءنا على أمة اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل وأمثال هذه الآيات ، ومن أراد استيفاء هذا البحث على التمام ، فليرجع إلى الرسالة التي قدمت الإشارة إليها ، وإلى المؤلف الذي سميته " أدب الطلب ومنتهى الأرب " وما أحسن ما حكاه الزركشي في البحر عن المزني أنه قال : يقال لمن حكم بالتقليد هل لك من حجة ، فإن قال : نعم أبطل التقليد ؛ لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد ، وإن قال : بغير علم ، قيل : له فلم أرقت الدماء ، وأبحت الفروج والأموال ؟ وقد حرم الله ذلك إلا بحجة ، فإن قال : أنا أعلم أني أصبت ، وإن لم أعرف الحجة ؛ لأن معلمي من كبار العلماء ، قيل له : تقليد معلم معلمك أولى من تقليد معلمك ؛ لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عنك ، فإن قال : نعم ، ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه ، ثم كذلك حتى ينتهي إلى العالم من الصحابة ، فإن أبى ذلك نقض قوله وقيل : له كيف يجوز تقليد من هو أصغر وأقل علما ، ولا يجوز تقليد من هو أكبر وأغزر علما ؟ وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه حذر من زلة العالم .
وعن أنه قال : " ابن مسعود لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن ، وإن كفر كفر ، فإنه لا أسوة في الشر " انتهى .
( قلت ) : تتميما لهذا الكلام : وعند أن ينتهى إلى العالم من الصحابة يقال له : هذا الصحابي أخذ علمه من أعلم البشر ، المرسل من الله - تعالى ، إلى عباده ، المعصوم من الخطأ في أقواله ، وأفعاله ، فتقليده أولى من تقليد الصحابي ، الذي لم يصل إليه إلا شعبة من شعب علومه وليس له من العصمة شيء ، ولم يجعل الله - سبحانه - قوله ، ولا [ ص: 765 ] فعله ، ولا اجتهاده حجة على أحد من الناس .
واعلم : أنه لا خلاف في أن رأي المجتهد ، عند عدم الدليل ، إنما هو رخصة له ، يجوز له العمل بها عند فقد الدليل ، ولا يجوز لغيره العمل بها بحال من الأحوال ، ولهذا نهى كبار الأئمة عن تقليدهم ، وتقليد غيرهم ، وقد عرفت ( من تحقيق ) حال المقلد أنه إنما يأخذ بالرأي ، لا بالرواية ، ويتمسك بمحض الاجتهاد غير مطالب بحجة ، فمن قال : إن رأي المجتهد يجوز لغيره التمسك به ، ويسوغ له أن يعمل به ، فيما كلفه الله ، فقد جعل هذا المجتهد صاحب شرع ، ولم يجعل الله ذلك لأحد من هذه الأمة ، بعد نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا يتمكن كامل ولا مقصر أن يحتج على هذا بحجة قط .
وأما مجرد الدعاوى والمجازفات في شرع الله - تعالى ، فليست بشيء ولو جازت الأمور الشرعية بمجرد الدعاوى ، لادعى من شاء ما شاء ، وقال من شاء بما شاء .