اختلفوا في
nindex.php?page=treesubj&link=22302المسائل الشرعية الفرعية ، هل يجوز التقليد فيها أم لا ؟
فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يجوز مطلقا .
قال
القرافي : مذهب
مالك ، وجمهور العلماء : وجوب الاجتهاد ، وإبطال التقليد ، وادعى
nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم الإجماع على النهي عن التقليد .
قال : ونقل عن
مالك أنه قال : أنا بشر أخطئ وأصيب ، فانظروا في رأيي ، فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به ، وما لم يوافق فاتركوه . وقال عند موته : وددت أني ضربت بكل مسألة تكلمت فيها برأي سوطا ، على أنه لا صبر لي على السياط .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13064ابن حزم : فهاهنا
مالك ينهى عن التقليد ، وكذلك
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ،
وأبو حنيفة وقد روى
المزني عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في أول مختصره أنه لم يزل ينهى عن تقليده ، وتقليد غيره انتهى .
وقد ذكرت نصوص الأئمة الأربعة المصرحة بالنهي عن التقليد في الرسالة التي سميتها القول المفيد في حكم التقليد فلا نطول المقام بذكر ذلك وبهذا تعلم أن
nindex.php?page=treesubj&link=22311المنع من التقليد إن لم يكن إجماعا ، فهو مذهب الجمهور ، ويؤيد هذا ما سيأتي في المسألة التي بعد هذه ، من حكاية الإجماع على عدم جواز تقليد الأموات ، وكذلك ما
[ ص: 761 ] سيأتي من أن عمل المجتهد برأيه إنما هو رخصة له ، عند عدم الدليل ، ولا يجوز لغيره أن يعمل به بالإجماع ، فهذان الإجماعان يجتثان التقليد من أصله ، فالعجب من كثير من أهل الأصول ، حيث لم يحكوا هذا القول إلا عن بعض
المعتزلة .
وقابل مذهب القائلين بعدم الجواز بعض الحشوية وقال : يجب مطلقا ، ويحرم النظر ، وهؤلاء لم يقنعوا بما هم فيه من الجهل ، حتى أوجبوه على أنفسهم ، وعلى غيرهم ، فإن التقليد جهل وليس بعلم .
( والمذهب الثالث ) : التفصيل ، وهو أنه يجب على العامي ، ويحرم على المجتهد ، وبهذا قال كثير من أتباع الأئمة الأربعة ، ولا يخفاك أنه إنما يعتبر في الخلاف أقوال المجتهدين ، وهؤلاء هم مقلدون ، فليسوا ممن يعتبر خلافه ، ولا سيما وأئمتهم الأربعة يمنعونهم من تقليدهم وتقليد غيرهم ، وقد تعسفوا ، فحملوا كلام أئمتهم هؤلاء على أنهم أرادوا المجتهدين من الناس ، لا المقلدين فيالله العجب .
وأعجب من هذا أن بعض المتأخرين ممن صنف في الأصول نسب هذا القول إلى الأكثر ، وجعل الحجة لهم الإجماع على عدم الإنكار على المقلدين ، فإن أراد إجماع خير القرون ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، فتلك دعوى باطلة فإنه لا تقليد فيهم ألبتة ، ولا عرفوا التقليد ولا سمعوا به بل كان المقصر منهم يسأل العالم عن المسألة التي تعرض له فيفتيه بالنصوص التي يعرفها من الكتاب والسنة ، وهذا ليس من التقليد في شيء بل هو من باب طلب حكم الله في المسألة ، والسؤال عن الحجة الشرعية .
وقد عرفت في أول هذا الفصل أن
nindex.php?page=treesubj&link=22297التقليد إنما هو العمل بالرأي لا بالرواية ، وليس المراد بما احتج به الموجبون للتقليد ، والمجوزون له من قوله - سبحانه - :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=43فاسألوا أهل الذكر إلا السؤال عن حكم الله في المسألة ، لا عن آراء الرجال ، هذا على تسليم أنها واردة في عموم السؤال ، كما زعموا ، وليس الأمر كذلك بل هي واردة في أمر خاص ، وهو السؤال عن كون أنبياء الله رجالا ، كما يفيده أول الآية وآخرها حيث قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=43وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=184بالبينات والزبر [ ص: 762 ] وإن أراد إجماع الأئمة الأربعة ، فقد عرفت أنهم قالوا بالمنع من التقليد ، ولم يزل في عصرهم من ينكر ذلك ، وإن أراد إجماع من بعدهم ، فوجود المنكرين لذلك منذ ذلك الوقت إلى هذه الغاية معلوم بكل من يعرف أقوال أهل العلم ، وقد عرفت مما نقلناه سابقا أن المنع قول الجمهور ، إذ لم يكن إجماعا ، وإن أراد إجماع المقلدين للأئمة الأربعة خاصة ، فقد عرفت مما قدمنا في مقصد الإجماع أنه لا اعتبار بأقوال المقلدين في شيء ، فضلا عن أن ينعقد بهم إجماع .
[ ص: 763 ] والحاصل أنه لم يأت من جوز التقليد ، فضلا عمن أوجبه ، بحجة ينبغي الاشتغال بجوابها قط ، ولم نؤمر برد شرائع الله - سبحانه - إلى آراء الرجال ، بل أمرنا بما قاله - سبحانه - :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=59فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول أي كتاب الله وسنة رسوله ، وقد كان - صلى الله عليه وآله وسلم - يأمر من يرسله من أصحابه بالحكم بكتاب الله ، فإن لم يجد فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فإن لم يجد فبما يظهر له من الرأي كما في حديث
معاذ .
وأما ما ذكروه من استبعاد أن يفهم المقصرون نصوص الشرع ، وجعلوا ذلك مسوغا للتقليد ، فليس الأمر كما ذكروه ، فهاهنا واسطة بين الاجتهاد والتقليد ، وهو سؤال الجاهل للعالم عن الشرع فيما يعرض له ، لا عن رأيه البحت واجتهاده المحض ، وعلى
[ ص: 764 ] هذا كان عمل المقصرين من الصحابة والتابعين ، وتابعيهم ، ومن لم يسعه ما وسع أهل هذه القرون الثلاثة ، الذين هم خير قرون هذه الأمة على الإطلاق ، فلا وسع الله عليه ، وقد ذم الله - تعالى - المقلدين في كتابه العزيز في كثير من الآيات
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=22إنا وجدنا آباءنا على أمة nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=31اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ،
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=67إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل وأمثال هذه الآيات ، ومن أراد استيفاء هذا البحث على التمام ، فليرجع إلى الرسالة التي قدمت الإشارة إليها ، وإلى المؤلف الذي سميته " أدب الطلب ومنتهى الأرب " وما أحسن ما حكاه
الزركشي في البحر عن
المزني أنه قال : يقال لمن حكم بالتقليد هل لك من حجة ، فإن قال : نعم أبطل التقليد ؛ لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد ، وإن قال : بغير علم ، قيل : له فلم أرقت الدماء ، وأبحت الفروج والأموال ؟ وقد حرم الله ذلك إلا بحجة ، فإن قال : أنا أعلم أني أصبت ، وإن لم أعرف الحجة ؛ لأن معلمي من كبار العلماء ، قيل له : تقليد معلم معلمك أولى من تقليد معلمك ؛ لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عنك ، فإن قال : نعم ، ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه ، ثم كذلك حتى ينتهي إلى العالم من الصحابة ، فإن أبى ذلك نقض قوله وقيل : له كيف يجوز تقليد من هو أصغر وأقل علما ، ولا يجوز تقليد من هو أكبر وأغزر علما ؟ وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه حذر من زلة العالم .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود أنه قال : "
لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن ، وإن كفر كفر ، فإنه لا أسوة في الشر " انتهى .
( قلت ) : تتميما لهذا الكلام : وعند أن ينتهى إلى العالم من الصحابة يقال له : هذا الصحابي أخذ علمه من أعلم البشر ، المرسل من الله - تعالى ، إلى عباده ، المعصوم من الخطأ في أقواله ، وأفعاله ، فتقليده أولى من تقليد الصحابي ، الذي لم يصل إليه إلا شعبة من شعب علومه وليس له من العصمة شيء ، ولم يجعل الله - سبحانه - قوله ، ولا
[ ص: 765 ] فعله ، ولا اجتهاده حجة على أحد من الناس .
واعلم : أنه لا خلاف في أن رأي المجتهد ، عند عدم الدليل ، إنما هو رخصة له ، يجوز له العمل بها عند فقد الدليل ، ولا يجوز لغيره العمل بها بحال من الأحوال ، ولهذا نهى كبار الأئمة عن تقليدهم ، وتقليد غيرهم ، وقد عرفت ( من تحقيق ) حال المقلد أنه إنما يأخذ بالرأي ، لا بالرواية ، ويتمسك بمحض الاجتهاد غير مطالب بحجة ، فمن قال : إن رأي المجتهد يجوز لغيره التمسك به ، ويسوغ له أن يعمل به ، فيما كلفه الله ، فقد جعل هذا المجتهد صاحب شرع ، ولم يجعل الله ذلك لأحد من هذه الأمة ، بعد نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا يتمكن كامل ولا مقصر أن يحتج على هذا بحجة قط .
وأما مجرد الدعاوى والمجازفات في شرع الله - تعالى ، فليست بشيء ولو جازت الأمور الشرعية بمجرد الدعاوى ، لادعى من شاء ما شاء ، وقال من شاء بما شاء .
اخْتَلَفُوا فِي
nindex.php?page=treesubj&link=22302الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ ، هَلْ يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهَا أَمْ لَا ؟
فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا .
قَالَ
الْقَرَافِيُّ : مَذْهَبُ
مَالِكٍ ، وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ : وُجُوبُ الِاجْتِهَادِ ، وَإِبْطَالُ التَّقْلِيدِ ، وَادَّعَى
nindex.php?page=showalam&ids=13064ابْنُ حَزْمٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى النَّهْيِ عَنِ التَّقْلِيدِ .
قَالَ : وَنُقِلَ عَنْ
مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : أَنَا بَشَرٌ أُخْطِئُ وَأُصِيبُ ، فَانْظُرُوا فِي رَأْيِي ، فَمَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَخُذُوا بِهِ ، وَمَا لَمْ يُوَافِقْ فَاتْرُكُوهُ . وَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ : وَدِدْتُ أَنِّي ضُرِبْتُ بِكُلِّ مَسْأَلَةٍ تَكَلَّمْتُ فِيهَا بِرَأْيٍ سَوْطًا ، عَلَى أَنَّهُ لَا صَبْرَ لِي عَلَى السِّيَاطِ .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13064ابْنُ حَزْمٍ : فَهَاهُنَا
مَالِكٌ يَنْهَى عَنِ التَّقْلِيدِ ، وَكَذَلِكَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ ،
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَقَدْ رَوَى
الْمُزَنِيُّ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ فِي أَوَّلِ مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَنْهَى عَنْ تَقْلِيدِهِ ، وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ انْتَهَى .
وَقَدْ ذَكَرْتُ نُصُوصَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْمُصَرِّحَةَ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّقْلِيدِ فِي الرِّسَالَةِ الَّتِي سَمَّيْتُهَا الْقَوْلَ الْمُفِيدَ فِي حُكْمِ التَّقْلِيدِ فَلَا نُطَوِّلُ الْمُقَامَ بِذِكْرِ ذَلِكَ وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=22311الْمَنْعَ مِنَ التَّقْلِيدِ إِنْ لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا ، فَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا سَيَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ ، مِنْ حِكَايَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْأَمْوَاتِ ، وَكَذَلِكَ مَا
[ ص: 761 ] سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ عَمَلَ الْمُجْتَهِدِ بِرَأْيِهِ إِنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ لَهُ ، عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ ، فَهَذَانِ الْإِجْمَاعَانِ يَجْتَثَّانِ التَّقْلِيدَ مِنْ أَصْلِهِ ، فَالْعَجَبُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ ، حَيْثُ لَمْ يَحْكُوا هَذَا الْقَوْلَ إِلَّا عَنْ بَعْضِ
الْمُعْتَزِلَةِ .
وَقَابَلَ مَذْهَبَ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ بَعْضُ الْحَشْوِيَّةِ وَقَالَ : يَجِبُ مُطْلَقًا ، وَيَحْرُمُ النَّظَرُ ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَقْنَعُوا بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَهْلِ ، حَتَّى أَوْجَبُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَعَلَى غَيْرِهِمْ ، فَإِنَّ التَّقْلِيدَ جَهْلٌ وَلَيْسَ بِعِلْمٍ .
( وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ ) : التَّفْصِيلُ ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ ، وَبِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْخِلَافِ أَقْوَالُ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ مُقَلِّدُونَ ، فَلَيْسُوا مِمَّنْ يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ ، وَلَا سِيَّمَا وَأَئِمَّتُهُمُ الْأَرْبَعَةُ يَمْنَعُونَهُمْ مِنْ تَقْلِيدِهِمْ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِمْ ، وَقَدْ تَعَسَّفُوا ، فَحَمَلُوا كَلَامَ أَئِمَّتِهِمْ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ النَّاسِ ، لَا الْمُقَلِّدِينَ فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ .
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي الْأُصُولِ نَسَبَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى الْأَكْثَرِ ، وَجَعَلَ الْحُجَّةَ لَهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ ، فَإِنْ أَرَادَ إِجْمَاعَ خَيْرِ الْقُرُونِ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، فَتِلْكَ دَعْوَى بَاطِلَةٌ فَإِنَّهُ لَا تَقْلِيدَ فِيهِمْ أَلْبَتَّةَ ، وَلَا عَرَفُوا التَّقْلِيدَ وَلَا سَمِعُوا بِهِ بَلْ كَانَ الْمُقَصِّرُ مِنْهُمْ يَسْأَلُ الْعَالِمَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ فَيُفْتِيهِ بِالنُّصُوصِ الَّتِي يَعْرِفُهَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَهَذَا لَيْسَ مِنَ التَّقْلِيدِ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ طَلَبِ حُكْمِ اللَّهِ فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَالسُّؤَالِ عَنِ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ .
وَقَدْ عَرَفْتَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=22297التَّقْلِيدَ إِنَّمَا هُوَ الْعَمَلُ بِالرَّأْيِ لَا بِالرِّوَايَةِ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمَا احْتَجَّ بِهِ الْمُوجِبُونَ لِلتَّقْلِيدِ ، وَالْمُجَوِّزُونَ لَهُ مِنْ قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ - :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=43فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِلَّا السُّؤَالَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ فِي الْمَسْأَلَةِ ، لَا عَنْ آرَاءِ الرِّجَالِ ، هَذَا عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهَا وَارِدَةٌ فِي عُمُومِ السُّؤَالِ ، كَمَا زَعَمُوا ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ وَارِدَةٌ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ ، وَهُوَ السُّؤَالُ عَنْ كَوْنِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ رِجَالًا ، كَمَا يُفِيدُهُ أَوَّلُ الْآيَةِ وَآخِرُهَا حَيْثُ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=43وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=184بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ [ ص: 762 ] وَإِنْ أَرَادَ إِجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ، فَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُمْ قَالُوا بِالْمَنْعِ مِنَ التَّقْلِيدِ ، وَلَمْ يَزَلْ فِي عَصْرِهِمْ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ ، وَإِنْ أَرَادَ إِجْمَاعَ مَنْ بَعْدَهُمْ ، فَوُجُودُ الْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ مُنْذُ ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ مَعْلُومٌ بِكُلِّ مَنْ يَعْرِفُ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَقَدْ عَرَفْتَ مِمَّا نَقَلْنَاهُ سَابِقًا أَنَّ الْمَنْعَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، إِذْ لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا ، وَإِنْ أَرَادَ إِجْمَاعَ الْمُقَلِّدِينَ لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ خَاصَّةً ، فَقَدْ عَرَفْتَ مِمَّا قَدَّمْنَا فِي مَقْصِدِ الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِأَقْوَالِ الْمُقَلِّدِينَ فِي شَيْءٍ ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَنْعَقِدَ بِهِمْ إِجْمَاعٌ .
[ ص: 763 ] وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ مَنْ جَوَّزَ التَّقْلِيدَ ، فَضْلًا عَمَّنْ أَوْجَبَهُ ، بِحُجَّةٍ يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِجَوَابِهَا قَطُّ ، وَلَمْ نُؤْمَرْ بِرَدِّ شَرَائِعِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - إِلَى آرَاءِ الرِّجَالِ ، بَلْ أُمِرْنَا بِمَا قَالَهُ - سُبْحَانَهُ - :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=59فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أَيْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ مَنْ يُرْسِلُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالْحُكْمِ بِكِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنَ الرَّأْيِ كَمَا فِي حَدِيثِ
مُعَاذٍ .
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ اسْتِبْعَادِ أَنْ يَفْهَمَ الْمُقَصِّرُونَ نُصُوصَ الشَّرْعِ ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مُسَوِّغًا لِلتَّقْلِيدِ ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرُوهُ ، فَهَاهُنَا وَاسِطَةٌ بَيْنَ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ ، وَهُوَ سُؤَالُ الْجَاهِلِ لِلْعَالِمِ عَنِ الشَّرْعِ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُ ، لَا عَنْ رَأْيِهِ الْبَحْتِ وَاجْتِهَادِهِ الْمَحْضِ ، وَعَلَى
[ ص: 764 ] هَذَا كَانَ عَمَلُ الْمُقَصِّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَتَابِعِيهِمْ ، وَمَنْ لَمْ يَسَعْهُ مَا وَسِعَ أَهْلَ هَذِهِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ ، الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، فَلَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ - تَعَالَى - الْمُقَلِّدِينَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=22إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=31اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=67إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ وَأَمْثَالَ هَذِهِ الْآيَاتِ ، وَمَنْ أَرَادَ اسْتِيفَاءَ هَذَا الْبَحْثِ عَلَى التَّمَامِ ، فَلْيَرْجِعْ إِلَى الرِّسَالَةِ الَّتِي قَدَّمْتُ الْإِشَارَةَ إِلَيْهَا ، وَإِلَى الْمُؤَلَّفِ الَّذِي سَمَّيْتُهُ " أَدَبَ الطَّلَبِ وَمُنْتَهَى الْأَرَبِ " وَمَا أَحْسَنَ مَا حَكَاهُ
الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبَحْرِ عَنِ
الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ : يُقَالُ لِمَنْ حَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ هَلْ لَكَ مِنْ حُجَّةٍ ، فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ أَبْطَلَ التَّقْلِيدَ ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَا التَّقْلِيدُ ، وَإِنْ قَالَ : بِغَيْرِ عِلْمٍ ، قِيلَ : لَهُ فَلِمَ أَرَقْتَ الدِّمَاءَ ، وَأَبَحْتَ الْفُرُوجَ وَالْأَمْوَالَ ؟ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِحُجَّةٍ ، فَإِنْ قَالَ : أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي أَصَبْتُ ، وَإِنْ لَمْ أَعْرِفِ الْحُجَّةَ ؛ لِأَنَّ مُعَلِّمِي مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ ، قِيلَ لَهُ : تَقْلِيدُ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِكَ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ مُعَلِّمِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَنْكَ ، فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ ، تَرَكَ تَقْلِيدَ مُعَلِّمِهِ إِلَى تَقْلِيدِ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِهِ ، ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْعَالِمِ مِنَ الصَّحَابَةِ ، فَإِنْ أَبَى ذَلِكَ نُقِضَ قَوْلُهُ وَقِيلَ : لَهُ كَيْفَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَصْغَرُ وَأَقَلُّ عِلْمًا ، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ وَأَغْزَرُ عِلْمًا ؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ حَذَّرَ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ .
وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : "
لَا يُقَلِّدَنَّ أَحَدُكُمْ دِينَهُ رَجُلًا إِنْ آمَنَ آمَنَ ، وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ ، فَإِنَّهُ لَا أُسْوَةَ فِي الشَّرِّ " انْتَهَى .
( قُلْتُ ) : تَتْمِيمًا لِهَذَا الْكَلَامِ : وَعِنْدَ أَنْ يُنْتَهَى إِلَى الْعَالِمِ مِنَ الصَّحَابَةِ يُقَالُ لَهُ : هَذَا الصَّحَابِيُّ أَخَذَ عِلْمَهُ مِنْ أَعْلَمِ الْبَشَرِ ، الْمُرْسَلِ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى ، إِلَى عِبَادِهِ ، الْمَعْصُومِ مِنَ الْخَطَأِ فِي أَقْوَالِهِ ، وَأَفْعَالِهِ ، فَتَقْلِيدُهُ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ ، الَّذِي لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ إِلَّا شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ عُلُومِهِ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْعِصْمَةِ شَيْءٌ ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - قَوْلَهُ ، وَلَا
[ ص: 765 ] فِعْلَهُ ، وَلَا اجْتِهَادَهُ حُجَّةً عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ .
وَاعْلَمْ : أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ رَأْيَ الْمُجْتَهِدِ ، عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ ، إِنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ لَهُ ، يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِهَا عِنْدَ فَقْدِ الدَّلِيلِ ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْعَمَلُ بِهَا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ ، وَلِهَذَا نَهَى كِبَارُ الْأَئِمَّةِ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ ، وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِمْ ، وَقَدْ عَرَفْتَ ( مِنْ تَحْقِيقِ ) حَالِ الْمُقَلِّدِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَأْخُذُ بِالرَّأْيِ ، لَا بِالرِّوَايَةِ ، وَيَتَمَسَّكُ بِمَحْضِ الِاجْتِهَادِ غَيْرُ مُطَالِبٍ بِحُجَّةٍ ، فَمَنْ قَالَ : إِنَّ رَأْيَ الْمُجْتَهِدِ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ التَّمَسُّكُ بِهِ ، وَيَسُوغُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ ، فِيمَا كَلَّفَهُ اللَّهُ ، فَقَدْ جَعَلَ هَذَا الْمُجْتَهِدَ صَاحِبَ شَرْعٍ ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، بَعْدَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَتَمَكَّنُ كَامِلٌ وَلَا مُقَصِّرٌ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى هَذَا بِحُجَّةٍ قَطُّ .
وَأَمَّا مُجَرَّدُ الدَّعَاوَى وَالْمُجَازَفَاتِ فِي شَرْعِ اللَّهِ - تَعَالَى ، فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ وَلَوْ جَازَتِ الْأُمُورُ الشَّرْعِيَّةُ بِمُجَرَّدِ الدَّعَاوَى ، لَادَّعَى مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ ، وَقَالَ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ .