[ ص: 807 ] اعلم أنا قد قدمنا في أول هذا الكتاب الخلاف في كون العقل حاكما أو لا ، وذكرنا أنه لا خلاف في أن بعض الأشياء يدركها العقل ، ويحكم فيها ، كصفات الكمال ، والنقص ، وملاءمة الغرض ، ومنافرته .
وأحكام العقل باعتبار مدركاته تنقسم إلى خمسة أحكام ، كما انقسمت
nindex.php?page=treesubj&link=20491الأحكام الشرعية إلى خمسة أقسام :
( الأول ) : الوجوب ، كقضاء الدين .
( والثاني ) : التحريم ، كالظلم .
( والثالث ) : الندب ، كالإحسان .
( والرابع ) : الكراهة ، كسوء الأخلاق .
( والخامس ) : الإباحة ، كتصرف المالك في ملكه .
وهاهنا مسألتان
المسألة الأولى
هل
nindex.php?page=treesubj&link=32217الأصل فيما وقع فيه الخلاف ، ولم يرد فيه دليل يخصه أو يخص نوعه ؛ الإباحة أو المنع أو الوقف ؟ [ ص: 808 ] فذهب جماعة من الفقهاء ، وجماعة من الشافعية ،
nindex.php?page=showalam&ids=16991ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم ونسبه بعض المتأخرين إلى الجمهور إلى أن الأصل الإباحة .
وذهب الجمهور إلى أنه لا يعلم حكم الشيء إلا بدليل يخصه ، أو يخص نوعه ، فإذا لم يوجد دليل كذلك فالأصل المنع .
وذهب
الأشعري ،
وأبو بكر الصيرفي ، وبعض الشافعية ، إلى الوقف بمعنى لا يدري هل هناك حكم أم لا ؟
وصرح
الرازي في المحصول : أن الأصل في المنافع الإذن ، وفي المضار المنع .
احتج الأولون بقوله - تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق فإنه - سبحانه - أنكر على من حرم ذلك ، فوجب أن لا تثبت حرمته ، وإذا لم تثبت حرمته امتنع ثبوت الحرمة في فرد من أفراده ؛ لأن المطلق جزء من المقيد ، فلو ثبتت الحرمة في فرد من أفراده ، لثبتت الحرمة في زينة الله ، وفي الطيبات من الرزق ، وإذا انتفت الحرمة بالكلية ثبتت الإباحة .
واحتجوا أيضا بقوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=4أحل لكم الطيبات وليس المراد من الطيب الحلال ، وإلا لزم التكرار ، فوجب تفسيره بما يستطاب طبعا ، وذلك يقتضي حل المنافع بأسرها .
واحتجوا أيضا بقوله - تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=29خلق لكم ما في الأرض جميعا واللام تقتضي الاختصاص بما فيه منفعة .
واحتجوا - أيضا - بقوله - تعالى - ) :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=145قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة الآية ، فجعل الأصل الإباحة ، والتحريم مستثنى .
وبقوله - سبحانه :
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=13وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه .
[ ص: 809 ] وبما ثبت في الصحيحين وغيرهما ، من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=37سعد بن أبي وقاص عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10338186إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء فحرم ( على السائل ) من أجل مسألته .
وبما أخرجه
الترمذي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=23سلمان الفارسي قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10338187سئل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن السمن ، والخبز ، والفراء ، قال : الحلال ما أحله الله في كتابه ، والحرام ما حرمه الله في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه .
واحتجوا أيضا بأنه انتفاع بما لا ضرر فيه على المالك قطعا ، ولا على المنتفع ، فوجب أن لا يمتنع ، كالاستضاءة بضوء السراج ، والاستظلال بظل الجدار .
ولا يرد على هذا الدليل ما قيل : من أنه يقتضي إباحة كل المحرمات ؛ لأن فاعلها ينتفع بها ، ولا ضرر فيها على المالك ، ويقتضي سقوط التكاليف بأسرها .
ووجه عدم وروده أنه قد وقع الاحتراز عنه بقوله : ولا على المنتفع ، ولا انتفاع بالمحرمات ، وبترك الواجبات لضرره ضررا ظاهرا ؛ لأن الله - سبحانه - قد بين حكمها ،
[ ص: 810 ] وليس النزاع في ذلك ، إنما النزاع فيما لم يبين حكمه ببيان يخصه أو يخص نوعه .
واحتجوا أيضا بأنه - سبحانه - إما أن يكون خلقه لهذه الأعيان لحكمة ، أو لغير حكمة ، والثاني باطل ؛ لقوله - تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=38وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=115أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا والعبث لا يجوز على الحكمة ، فثبت أنها مخلوقة لحكمة ، ولا تخلو هذه الحكمة إما أن تكون ؛ لعود النفع إليه - سبحانه - أو إلينا ، والأول باطل ؛ لاستحالة الانتفاع عليه - عز وجل ، فثبت أنه إنما خلقها ؛ لينتفع بها المحتاجون إليها ، وإذا كان كذلك كان نفع المحتاج مطلوب الحصول أينما كان ، فإن منع منه فإنما هو يمنع منه ؛ لرجوع ضرره إلى المحتاج إليه ، وذلك بأن ينهى الله عنه ، فثبت أن الأصل في المنافع الإباحة .
وقد احتج القائلون بأن الأصل المنع بمثل قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=119وقد فصل لكم ما حرم عليكم وهذا خارج عن محل النزاع ، فإن النزاع إنما هو فيما لم ينص على حكمه ، أو حكم نوعه ، وأما ما قد فصل وبين حكمه ، فهو كما بينه بلا خلاف .
واحتجوا أيضا بقوله - تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=116ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام قالوا : فأخبر الله - سبحانه - أن التحريم والتحليل ليس إلينا ، وإنما هو إليه فلا نعلم الحلال والحرام إلا بإذنه .
ويجاب عن هذا : بأن القائلين بأصالة الإباحة لم يقولوا بذلك من جهة أنفسهم ، بل قالوه بالدليل الذي استدلوا به من كتاب الله وسنة رسوله ، كما تقدم ، فلا ترد هذه الآية عليهم ، ولا تعلق لها بمحل النزاع .
واستدل بعضهم بالحديث الصحيح الثابت في دواوين الإسلام عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10338160الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات والمؤمنون وقافون عند الشبهات الحديث .
قال : فأرشد - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى ترك ما بين الحلال والحرام ، ولم يجعل
[ ص: 811 ] الأصل فيه أحدهما .
ولا يخفاك أن هذا الحديث لا يدل على مطلوبهم من أن الأصل المنع .
فإن استدل به القائلون بالوقف فيجاب عنه : بأن الله - سبحانه - قد بين حكم ما سكت عنه بأنه حلال بما سبق من الأدلة ، وليس المراد بقوله : " وبينهما أمور مشتبهات " إلا ما لم يدل الدليل على أنه حلال طلق ، أو حرام واضح ، بل تنازعه أمران ، أحدهما يدل على إلحاقه بالحلال ، والآخر يدل على إلحاقه بالحرام ، كما يقع ذلك عند تعارض الأدلة . أما ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه ، كما تقدم في حديث
سلمان وقد أوضحنا الكلام على هذا الحديث في رسالة مستقلة ، فليرجع إليها .
واستدلوا أيضا بالحديث الصحيح وهو قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10338188إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام الحديث .
ويجاب عنه : بأنه خارج عن محل النزاع ؛ لأنه خاص بالأموال التي قد صارت مملوكة لمالكيها ، ولا خلاف في تحريمها على الغير ، وإنما النزاع في الأعيان التي خلقها الله لعباده ، ولم تصر في ملك أحد منهم ، وذلك كالحيوانات التي لم ينص الله - عز وجل - على تحريمها ، إلا بدليل عام ولا خاص ، وكالنباتات التي تنبتها الأرض ، ما لم يدل دليل على تحريمها ، ولا كانت مما يضر مستعمله بل مما ينفعه .
[ ص: 807 ] اعْلَمْ أَنَّا قَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ الْخِلَافَ فِي كَوْنِ الْعَقْلِ حَاكِمًا أَوْ لَا ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ يُدْرِكُهَا الْعَقْلُ ، وَيَحْكُمُ فِيهَا ، كَصِفَاتِ الْكَمَالِ ، وَالنَّقْصِ ، وَمُلَاءَمَةِ الْغَرَضِ ، وَمُنَافَرَتِهِ .
وَأَحْكَامُ الْعَقْلِ بِاعْتِبَارِ مُدْرَكَاتِهِ تَنْقَسِمُ إِلَى خَمْسَةِ أَحْكَامٍ ، كَمَا انْقَسَمَتِ
nindex.php?page=treesubj&link=20491الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ :
( الْأَوَّلُ ) : الْوُجُوبُ ، كَقَضَاءِ الدَّيْنِ .
( وَالثَّانِي ) : التَّحْرِيمُ ، كَالظُّلْمِ .
( وَالثَّالِثُ ) : النَّدْبُ ، كَالْإِحْسَانِ .
( وَالرَّابِعُ ) : الْكَرَاهَةُ ، كَسُوءِ الْأَخْلَاقِ .
( وَالْخَامِسُ ) : الْإِبَاحَةُ ، كَتَصَرُّفِ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ .
وَهَاهُنَا مَسْأَلَتَانِ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
هَلِ
nindex.php?page=treesubj&link=32217الْأَصْلُ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ دَلِيلٌ يَخُصُّهُ أَوْ يَخُصُّ نَوْعَهُ ؛ الْإِبَاحَةُ أَوِ الْمَنْعُ أَوِ الْوَقْفُ ؟ [ ص: 808 ] فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ،
nindex.php?page=showalam&ids=16991وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَنَسَبَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إِلَى الْجُمْهُورِ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ .
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ حُكْمُ الشَّيْءِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَخُصُّهُ ، أَوْ يَخُصُّ نَوْعَهُ ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ كَذَلِكَ فَالْأَصْلُ الْمَنْعُ .
وَذَهَبَ
الْأَشْعَرِيُّ ،
وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ ، إِلَى الْوَقْفِ بِمَعْنَى لَا يَدْرِي هَلْ هُنَاكَ حُكْمٌ أَمْ لَا ؟
وَصَرَّحَ
الرَّازِيُّ فِي الْمَحْصُولِ : أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِذْنُ ، وَفِي الْمَضَارِّ الْمَنْعُ .
احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَنْكَرَ عَلَى مَنْ حَرَّمَ ذَلِكَ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَثْبُتَ حُرْمَتُهُ ، وَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ حُرْمَتُهُ امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ فِي فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ جُزْءٌ مِنَ الْمُقَيَّدِ ، فَلَوْ ثَبَتَتِ الْحُرْمَةُ فِي فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ ، لَثَبَتَتِ الْحُرْمَةُ فِي زِينَةِ اللَّهِ ، وَفِي الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ، وَإِذَا انْتَفَتِ الْحُرْمَةُ بِالْكُلِّيَّةِ ثَبَتَتِ الْإِبَاحَةُ .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=4أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الطَّيِّبِ الْحَلَالُ ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّكْرَارُ ، فَوَجَبَ تَفْسِيرُهُ بِمَا يُسْتَطَابُ طَبْعًا ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي حَلَّ الْمَنَافِعِ بِأَسْرِهَا .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=29خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَاللَّامُ تَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ .
وَاحْتَجُّوا - أَيْضًا - بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - ) :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=145قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً الْآيَةَ ، فَجَعَلَ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةَ ، وَالتَّحْرِيمَ مُسْتَثْنًى .
وَبِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=13وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ .
[ ص: 809 ] وَبِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا ، مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=37سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10338186إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَحُرِّمَ ( عَلَى السَّائِلِ ) مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ .
وَبِمَا أَخْرَجَهُ
التِّرْمِذِيُّ ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وَابْنُ مَاجَهْ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=23سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10338187سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عَنِ السَّمْنِ ، وَالْخُبْزِ ، وَالْفِرَاءِ ، قَالَ : الْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَالِكِ قَطْعًا ، وَلَا عَلَى الْمُنْتَفِعِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ ، كَالِاسْتِضَاءَةِ بِضَوْءِ السِّرَاجِ ، وَالِاسْتِظْلَالِ بِظِلِّ الْجِدَارِ .
وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ مَا قِيلَ : مِنْ أَنَّهُ يَقْتَضِي إِبَاحَةَ كُلِّ الْمُحَرَّمَاتِ ؛ لِأَنَّ فَاعِلَهَا يَنْتَفِعُ بِهَا ، وَلَا ضَرَرَ فِيهَا عَلَى الْمَالِكِ ، وَيَقْتَضِي سُقُوطَ التَّكَالِيفِ بِأَسْرِهَا .
وَوَجْهُ عَدَمِ وُرُودِهِ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : وَلَا عَلَى الْمُنْتَفِعِ ، وَلَا انْتِفَاعَ بِالْمُحَرَّمَاتِ ، وَبِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ لِضَرَرِهِ ضَرَرًا ظَاهِرًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - قَدْ بَيَّنَ حُكْمَهَا ،
[ ص: 810 ] وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ ، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا لَمْ يُبَيَّنْ حُكْمُهُ بِبَيَانٍ يَخُصُّهُ أَوْ يَخُصُّ نَوْعَهُ .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ لِهَذِهِ الْأَعْيَانِ لِحِكْمَةٍ ، أَوْ لِغَيْرِ حِكْمَةٍ ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ ؛ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=38وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=115أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَالْعَبَثُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْحِكْمَةِ ، فَثَبَتَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِحِكْمَةٍ ، وَلَا تَخْلُو هَذِهِ الْحِكْمَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ ؛ لِعَوْدِ النَّفْعِ إِلَيْهِ - سُبْحَانَهُ - أَوْ إِلَيْنَا ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ ؛ لِاسْتِحَالَةِ الِانْتِفَاعِ عَلَيْهِ - عَزَّ وَجَلَّ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِنَّمَا خَلَقَهَا ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهَا الْمُحْتَاجُونَ إِلَيْهَا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ نَفْعُ الْمُحْتَاجِ مَطْلُوبَ الْحُصُولِ أَيْنَمَا كَانَ ، فَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ فَإِنَّمَا هُوَ يُمْنَعُ مِنْهُ ؛ لِرُجُوعِ ضَرَرِهِ إِلَى الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْهَى اللَّهُ عَنْهُ ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ .
وَقَدِ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَصْلَ الْمَنْعُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=119وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وَهَذَا خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ ، فَإِنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَمْ يُنَصَّ عَلَى حُكْمِهِ ، أَوْ حُكْمِ نَوْعِهِ ، وَأَمَّا مَا قَدْ فُصِّلَ وَبُيِّنَ حُكْمُهُ ، فَهُوَ كَمَا بَيَّنَهُ بِلَا خِلَافٍ .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=116وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ قَالُوا : فَأَخْبَرَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ لَيْسَ إِلَيْنَا ، وَإِنَّمَا هُوَ إِلَيْهِ فَلَا نَعْلَمُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ إِلَّا بِإِذْنِهِ .
وَيُجَابُ عَنْ هَذَا : بِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَصَالَةِ الْإِبَاحَةِ لَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ ، بَلْ قَالُوهُ بِالدَّلِيلِ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، فَلَا تَرُدُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْهِمْ ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَحَلِّ النِّزَاعِ .
وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ فِي دَوَاوِينَ الْإِسْلَامِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10338160الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ وَالْمُؤْمِنُونَ وَقَّافُونَ عِنْدَ الشُّبْهَاتِ الْحَدِيثَ .
قَالَ : فَأَرْشَدَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إِلَى تَرْكِ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، وَلَمْ يَجْعَلِ
[ ص: 811 ] الْأَصْلَ فِيهِ أَحَدَهُمَا .
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ الْمَنْعُ .
فَإِنِ اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْوَقْفِ فَيُجَابُ عَنْهُ : بِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - قَدْ بَيَّنَ حُكْمَ مَا سَكَتَ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَلَالٌ بِمَا سَبَقَ مِنَ الْأَدِلَّةِ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : " وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ " إِلَّا مَا لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَلَالٌ طَلْقٌ ، أَوْ حَرَامٌ وَاضِحٌ ، بَلْ تَنَازَعَهُ أَمْرَانِ ، أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى إِلْحَاقِهِ بِالْحَلَالِ ، وَالْآخَرُ يَدُلُّ عَلَى إِلْحَاقِهِ بِالْحَرَامِ ، كَمَا يَقَعُ ذَلِكَ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ . أَمَّا مَا سَكَتَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ
سَلْمَانَ وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ ، فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهَا .
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10338188إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ الْحَدِيثَ .
وَيُجَابُ عَنْهُ : بِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ ؛ لِأَنَّهُ خَاصٌّ بِالْأَمْوَالِ الَّتِي قَدْ صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِمَالِكِيهَا ، وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَى الْغَيْرِ ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْأَعْيَانِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ ، وَلَمْ تَصِرْ فِي مِلْكِ أَحَدٍ مِنْهُمْ ، وَذَلِكَ كَالْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَمْ يَنُصَّ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَى تَحْرِيمِهَا ، إِلَّا بِدَلِيلٍ عَامٍّ وَلَا خَاصٍّ ، وَكَالنَّبَاتَاتِ الَّتِي تُنْبِتُهَا الْأَرْضُ ، مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهَا ، وَلَا كَانَتْ مِمَّا يَضُرُّ مُسْتَعْمِلَهُ بَلْ مِمَّا يَنْفَعُهُ .