الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        [ ص: 115 ] باب كيف فعل ربك بأصحاب الفيل في السنة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان قبله من أمر تبع، على سبيل الاختصار

                                        أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق بن يسار، قال: " ثم إن تبعا أقبل حتى نزل على المدينة، فنزل بوادي قباء، فحفر فيها بئرا، فهي اليوم تدعى بئر الملك.

                                        قال: وبالمدينة إذ ذاك يهود، والأوس والخزرج، فنصبوا له، فقاتلوه، فجعلوا يقاتلونه بالنهار، فإذا أمسى أرسلوا إليه بالضيافة إلى أصحابه، فلما فعلوا به ذلك ليالي استحيا , فأرسل إليهم يريد صلحهم، فخرج إليه رجل من الأوس يقال له: أحيحة بن الجلاح، وخرج إليه من يهود بنيامين القرظي، فقال له أحيحة بن الجلاح: أيها الملك، نحن قومك.

                                        وقال بنيامين: أيها الملك، هذه بلدة لا تقدر أن تدخلها لو جهدت بجميع جهدك.

                                        فقال: ولم؟ قال: لأنها منزل نبي من الأنبياء، يبعثه [ ص: 116 ] الله تعالى من قريش، وجاء تبعا مخبر أخبره عن اليمن أنه بعث عليها نار تحرق كل ما مرت به، فخرج سريعا، وخرج معه نفر من يهود، فيهم بنيامين وغيره.

                                        وذكر شعرا، وقال فيه:


                                        ألقى إلي نصيحة كي أزدجر عن قرية محجوزة بمحمد

                                        قال: ثم خرج يسير، حتى إذا كان بالدف من جمدان من مكة على ليلتين، أتاه أناس من هذيل بن مدركة وتلك منازلهم , فقالوا: أيها الملك، ألا ندلك على بيت مملوء ذهبا وياقوتا وزبرجدا، تصيبه وتعطينا منه؟ قال: بلى فقالوا: هو بيت بمكة.

                                        فراح تبع وهو مجمع لهدم البيت، فبعث الله تعالى عليه ريحا فقفعت يديه ورجليه، وشنجت جسده، فأرسل إلى من كان معه من يهود، فقال: ويحكم ما هذا الذي أصابني؟ فقالوا: أحدثت شيئا، قال: وما أحدثت؟ فقالوا: أحدثت نفسك بشيء؟ قال: نعم.

                                        فذكر ما أجمع عليه من هدم البيت وإصابة ما فيه.

                                        قالوا: ذلك بيت الله الحرام ومن أراده هلك.

                                        قال: ويحكم وما المخرج مما دخلت فيه؟ قالوا: تحدث نفسك أن تطوف به وتكسوه، وتهدي له.

                                        فحدث نفسه بذلك، فأطلقه الله تعالى، ثم سار حتى دخل مكة، فطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، فأري في المنام أن يكسو البيت، فكساه، وذكر الحديث في نحره بمكة، وإطعامه الناس، ثم رجوعه إلى اليمن، وقتله، وخروج ابنه دوس إلى قيصر، واستغاثته به فيما فعل قومه بأبيه [ ص: 117 ] ، وأن قيصر كتب إلى النجاشي ملك الحبشة، وأن النجاشي بعث معه ستين ألفا، واستعمل عليهم روزبة حتى قاتلوا حمير قتلة أبيه، ودخلوا صنعاء، فملكوها، وملكوا اليمن.

                                        وكان في أصحاب روزبة رجل يقال له: أبرهة بن الأشرم، وهو أبو يكسوم، فقال لروزبة: أنا أولى بهذا الأمر منك، وقتله مكرا، وأرضى النجاشي، ثم إنه بنى كعبة باليمن، وجعل فيها قبابا من ذهب، وأمر أهل مملكته بالحج بها، يضاهي بذلك البيت الحرام، وأن رجلا من بني ملكان بن كنانة، وهو من الحمس خرج حتى قدم اليمن , فدخلها فنظر إليها , ثم قعد فيها - يعني لحاجة الإنسان - فدخلها أبرهة، فوجد تلك العذرة فيها فقال: من اجترأ علي بهذا؟ فقال له أصحابه: أيها الملك، هذا رجل من أهل ذلك البيت الذي يحجه العرب.

                                        قال: فعلي اجترأ بهذا؟ ونصرانيتي لأهدمن ذلك البيت، ولنخربنه حتى لا يحجه حاج أبدا.

                                        فدعا بالفيل وأذن في قومه بالخروج، ورحل ومن اتبعه من أهل اليمن، وكان أكثر من تبعه منهم عك، والأشعريون وخثعم، فخرجوا يرتجزون:


                                        إن البلد لبلد مأكول     تأكله عك والأشعريون والفيل

                                        قال: ثم خرج يسير، حتى إذا كان ببعض طريقه، بعث رجلا من بني سليم ليدعو الناس إلى حج بيته الذي بناه، فتلقاه أيضا رجل من الحمس من بني كنانة، فقتله، فازداد بذلك لما بلغه حنقا وجرأة، وأحث السير [ ص: 118 ] والانطلاق وطلب من أهل الطائف دليلا، فبعثوا معه رجلا من هذيل يقال له: نفيل، فخرج بهم يهديهم، حتى إذا كانوا بالمغمس نزلوا المغمس من مكة على ستة أميال، فبعثوا مقدماتهم إلى مكة، فخرجت قريش متفرقين عباديد في رؤوس الجبال، وقالوا: لا طاقة لنا بقتال هؤلاء القوم.

                                        فلم يبق بمكة أحد إلا عبد المطلب بن هاشم، أقام على سقايته، وغيره شيبة بن عثمان بن عبد الدار، أقام على حجابة البيت.

                                        فجعل عبد المطلب، يأخذ بعضادتي الباب، ثم يقول:


                                        لاهم إن العبد يمـ     ـنع رحله فامنع حلالك
                                        لا يغلبوا بصليبهم     ومحالهم عدوا محالك
                                        [ ص: 119 ] إن كنت تاركهم وكعـ     ـبتنا فأمر ما بدا لك

                                        يقول؛ أي شيء ما بدا لك لم تكن تفعله بنا.

                                        ثم إن مقدمات أبرهة أصابت نعما لقريش، فأصابت فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، فلما بلغه ذلك خرج حتى انتهى إلى القوم، وكان حاجب أبرهة رجلا من الأشعريين، وكانت له بعبد المطلب معرفة قبل ذلك، فلما انتهى إليه عبد المطلب، قال الأشعري: ما حاجتك؟ قال: حاجتي أن تستأذن لي على الملك.

                                        فدخل عليه حاجبه، فقال له: أيها الملك، جاءك سيد قريش الذي يطعم إنسها في السهل، ووحشها في الجبل.

                                        فقال: ائذن له.

                                        وكان عبد المطلب رجلا جسيما جميلا، فأذن له، فدخل عليه، فلما أن رآه أبو يكسوم أعظمه أن يجلسه تحته، وكره أن يجلس معه على سريره، فنزل من سريره، فجلس على الأرض، وأجلس عبد المطلب معه، ثم قال: ما حاجتك؟ قال: حاجتي مائتا بعير أصابتها لي مقدمتك.

                                        فقال أبو يكسوم: والله لقد رأيتك فأعجبتني، ثم تكلمت فزهدت فيك فقال له: ولم أيها الملك؟ قال: لأني جئت إلى بيت هو منعتكم من العرب، وفضلكم في الناس، وشرفكم عليهم، ودينكم الذي تعبدون، فجئت لأكسره، وأصيبت لك مائتا بعير، فسألتك عن حاجتك، فكلمتني في إبلك [ ص: 120 ] ، ولم تطلب إلي في بيتكم فقال له عبد المطلب: أيها الملك، إنما أكلمك في مالي، ولهذا البيت رب هو يمنعه، لست أنا منه في شيء.

                                        فراع ذلك أبا يكسوم، وأمر برد إبل عبد المطلب عليه.

                                        ثم رجع وأمست ليلتهم تلك ليلة كالحة نجومها، كأنها تكلمهم كلاما لاقترابها منهم، فأحست أنفسهم بالعذاب، وخرج دليلهم حتى دخل الحرم وتركهم، وقالم الأشعريون وخثعم، فكسروا رماحهم وسيوفهم، وبرئوا إلى الله تعالى أن يعينوا على هدم البيت، فباتوا كذلك بأخبث ليلة، ثم أدلجوا بسحر، فبعثوا فيلهم يريدون أن يصبحوا بمكة، فوجهوه إلى مكة، فربض، فضربوه، فتمرغ، فلم يزالوا كذلك حتى كادوا أن يصبحوا، ثم إنهم أقبلوا على الفيل، فقالوا: لك الله، ألا يوجهك إلى مكة، فجعلوا يقسمون له، ويحرك أذنيه، فأخذ عليهم، حتى إذا أكثروا من أنفسهم انبعث، فوجهوه إلى اليمن راجعا، فتوجه يهرول، فعطفوه حين رأوه منطلقا، حتى إذا ردوه إلى مكانه الأول، ربض، وتمرغ، فلما رأوا ذلك أقسموا له، وجعل يحرك أذنيه، فأخذ عليهم، حتى إذا أكثروا، انبعث، فوجهوه إلى اليمن، فتوجه يهرول، فلما رأوا ذلك ردوه، فرجع بهم، حتى إذا كان في مكانه الأول، ربض، فضربوه، فتمرغ، فلم يزالوا كذلك يعالجوه حتى كان مع طلوع الشمس طلعت عليهم الطير معها، وطلعت عليهم طير من البحر أمثال اليحاميم سود، فجعلت ترميهم، وكل طائر في منقاره حجر، وفي رجليه [ ص: 121 ] حجران، فإذا رمت بتلك مضت، وطلعت أخرى.

                                        فلا يقع حجر من حجارتهم تلك على بطن إلا خرقه، ولا عظم إلا أوهاه وثقبه.

                                        وثاب أبو يكسوم راجعا قد أصابته بعض الحجارة، فجعل كلما قدم أرضا انقطع منه فيها إرب، حتى إذا انتهى إلى اليمن ولم يبق منه شيء إلا باده، فلما قدمها انصدع صدره، وانشق بطنه، وهلك.

                                        ولم يصب من خثعم والأشعريين أحد.

                                        وذكر ما قالوا في ذلك من الشعر، قال: وقال عبد المطلب وهو يرتجز، ويدعو على الحبشة، ويقول:


                                        يا رب لا أرجو لهم سواكا     يا رب فامنع منهم حماكا
                                        إن عدو البيت من عاداكا     إنهم لن يقهروا قواكا

                                        قلت: كذا قال محمد بن إسحاق بن يسار في شأن عبد المطلب وأبرهة .

                                        وقد حدثنا محمد بن عبد الله الحافظ، إملاء، قال: حدثنا أبو زكريا العنبري، قال: حدثنا محمد بن عبد السلام، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا جرير، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس، قال [ ص: 122 ] : " أقبل أصحاب الفيل، حتى إذا دنوا من مكة استقبلهم عبد المطلب، فقال لملكهم: ما جاء بك إلينا؟ ألا بعثت فنأتيك بكل شيء أردت؟ فقال: أخبرت بهذا البيت الذي لا يدخله أحد إلا أمن، فجئت أخيف أهله، فقال: إنا نأتيك بكل شيء تريد، فارجع.

                                        فأبى إلا أن يدخله، وانطلق يسير نحوه، وتخلف عبد المطلب، فقام على جبل، فقال: لا أشهد مهلك هذا البيت وأهله. ثم قال:


                                        اللهم إن لكل إله     حلالا فامنع حلالك
                                        لا يغلبن محالهم     أبدا محالك
                                        اللهم فإن فعلت     فأمر ما بدا لك

                                        فأقبلت مثل السحابة من نحو البحر حتى أظلتهم طير أبابيل التي قال الله تبارك وتعالى: ترميهم بحجارة من سجيل قال: فجعل الفيل يعج عجا فجعلهم كعصف مأكول وعندي في هذا قصة أخرى طويلة بإسناد منقطع، وفيما ذكرنا فيما قصدناه كفاية.

                                        التالي السابق


                                        الخدمات العلمية