ذكر اختلاف أهل العلم في مما يقع عليه الذكاة من الأنعام والحيوان الانتفاع بجلود الميتة
قال اختلف أهل العلم في الانتفاع بجلود الميتة قبل الدباغ وبعده، فنهت طائفة عن الانتفاع به قبل الدباغ وبعده، وممن قال بهذا القول أبو بكر: أحمد بن حنبل.
وقال "كتب إلينا زيد بن وهب: أنه بلغني أنكم بأرض يلبسون ثيابا يقال لها الفراء، فانظروا ما (حله) من ميتة" . عمر بن الخطاب:
844 - من حديث بندار، عن محمد بن جعفر، قال: ثنا عن شعبة، عبد الملك بن ميسرة، عن زيد بن وهب.
845 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم، عن عن عبد الرزاق، قال: أخبرني مولى ابن جريج عن لابن عمر، أن القاسم بن محمد بن أبي بكر، محمد بن الأشعث " كلم في أن يتخذ لها لحافا من الفراء، فقالت: إنه ميتة، عائشة ولست بلابسة شيء من الميتة. قال: فنحن نصنع لك لحافا مما يدبغ، وكرهت أن تلبس من الميتة " .
846 - كتب إلي محمد بن نصر، ثنا أبنا إسحاق بن راهويه، عن ابن أبي عدي، الأشعث، عن محمد قال: "كان ممن يكره الصلاة في الجلد إذا لم يكن ذكيا: عمر، وابن عمر، وعمران بن حصين، وأسير بن جابر" . [ ص: 394 ] وعائشة،
847 - حدثنا ، ثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو النعمان، عن حماد بن زيد، ابن عون، عن مجاهد، أن " رأى على رجل فروا فقال: لو علمت أن هذا ذكي، لسرني أن يكون لي مثله. ابن عمر:
قال: وقد احتج بعض القائلين بهذا القول أن الله حرم الميتة في كتابه تحريما عاما، لم يخص منها شيئا دون شيء فقال: جل وعز ( حرمت عليكم الميتة ) ، وكان يقع على اللحم والجلد؛ لأنه لم يخص شيئا دون شيء، وليس لأحد أن يخص من ذلك شيئا إلا بكتاب أو سنة لا معارض لها، والأخبار في ذلك مختلفة في أسانيدها ومتونها، ففي حديث تحريم الميتة عن معمر، عن الزهري، عبيد الله بن عبد الله، عن أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على شاة لمولاة ابن عباس فقال: " ألا استمتعتم بإهابها، لميمونة ولم يذكر الدباغ في حديثه .
وفي حديث عن مالك الزهري: "هلا استنفعتم بجلدها"، ولم يذكر الدباغ .
واختلفوا في إسناد هذا الحديث، فقال عن ابن جريج، عطاء، عن ابن [ ص: 395 ] عباس، عن . ميمونة
وروي عن عن الشعبي، عكرمة، عن ، عن ابن عباس وقال سودة، عن أبو عوانة، سماك، عن عكرمة، عن : ماتت شاة ابن عباس لسودة.
فلما اختلف في إسناد هذا الحديث، وفي متنه لم يثبت به حجة، ثم لو لم يختلف الحديث على ما ذكرناه وكان حديثا واحدا، لكان خبر ابن عكيم ناسخا له؛ لأنه قال في حديثه: جاءنا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب، مع أن هذا القول قد روي عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كرهوا ذلك .
واحتج ببعض ما ذكرناه أحمد بن حنبل.
واحتج بعضهم بحجة أخرى من جهة النظر، وقال: ليس يخلو بجلد أن يكون حيا بحياة الشاة، أو ميتا بموتها، فإن كان كذلك فحكمه كحكم اللحم لا سبيل، أو يكون لا حياة فيه، ولا موت، فإن كان كذلك فأكله مباح، ولا معنى لرخصة، وفي امتناع الجميع أن يبيحوا دليل على أنه ميت بموت الشاة، ولما أباحوا أكل جلد الشاة المذكاة إذا أشرفت، دل ذلك على أن الجلد يحيى بحياة الشاة ويموت بموتها [ ص: 396 ] أكل جلد الميتة
وقد أجمعوا على أن لا سبيل إلى أن تباح الميتة لغير المضطر بحال، وإن عولج بكل علاج، وطبب بكل حيلة، فإن الجلد كذلك لا سبيل إلى نقله عن حاله بوجه من الوجوه.
وأباحت طائفة بعد الدباغ وحرمت الانتفاع بها قبل الدباغ، وذلك مثل جلود الأنعام، وما يقع عليه الذكاة وهي حية، هذا قول أكثر أهل العلم. الانتفاع بجلود الميتة
848 - وحدثنا عن إسحاق، عن عبد الرزاق، ، عن الثوري ثعلبة، عن أبي وائل، عن عمر: " أنه سئل عن مستقة، فقال: طهورها دباغها " .
849 - حدثنا يحيى بن محمد، نا الحجبي، نا عن أبو عوانة، منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، قال: " عن المساتق، فقالت: أرجو أن يكون دباغها طهورها عائشة " . [ ص: 397 ] سئلت
850 - حدثنا إبراهيم بن الحارث، ثنا يحيى بن أبي بكير الكوفي، ثنا عن زهير بن معاوية، أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ، قال: ابن عباس وإذا مات منها شيء، فلا تعطوا الأجير منها شيئا، واكسوا منها عباء لكم، فإن دباغها طهورها، وبيعوا إن شئتم" . "لا تشتروا ألبان الغنم في ضروعها، ولا أصوافها على ظهورها،
851 - حدثنا أبو أحمد، ثنا يعلى، ثنا صدقة بن مثنى، عن جده رباح بن الحارث، قال: كان " يقري ناسا من أهل ابن مسعود الكوفة في المسجد الأكبر فدعا لهم بشراب، ثم قال: هذا في سقاء من منيحة كانت لنا فماتت. . قالوا: يا صاحب رسول الله، أتسقينا في الميتة، فقال: ذكاتها دباغها "
852 - حدثنا أبو أحمد، ثنا جعفر، أبنا مسلم، عن مجاهد، عن ، عن ابن عباس علي قال: "ذكاة الجلود دباغها".
قال وممن رأى أن جلود ما يقع عليه الذكاة إذا مات منها [ ص: 398 ] شيء قبل أن يذكى فيدبغ، أن الدباغ يطهره أبو بكر: عطاء بن أبي رباح، وإبراهيم النخعي، والشعبي ، والحسن البصري، وقتادة، ويحيى الأنصاري، وسعيد بن جبير.
وبه قال ،الأوزاعي والليث بن سعد، وأهل وسفيان الثوري، الكوفة، وابن المبارك، والشافعي، وإسحاق بن راهويه.
وقد روينا غير ما ذكرناه أقاويل غيرها خلاف ما ذكرناه فمن ذلك ما رواه هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم أنه كان يقول: "ينتفع بجلود الميتة إذا دبغت، ولا تباع"، ولا نعلم أحدا، وافق على هذا القول. النخعي
وقد حكى عن ابن وهب، أنه سئل مالك قال: لا، وقال: إنما أذن في الاستمتاع به، ولا أرى أن يصلى فيه. هل يصلى في جلد الميتة إذا دبغ،
وروي عن الحسن: "أنه كان لا يرى بالصلاة في كل شيء دبغ بأسا" .
853 - حدثنا موسى، عن محمد بن عبد الأعلى، عن جابر، عن الأشعث، عن الحسن . [ ص: 399 ]
قال وظاهر هذا القول يلزم أن أبو بكر: ولا نعلم أحدا يقول ذلك في جلود الخنازير، ومن ذلك ما رويناه عن يصلى في جلود الخنازير والكلاب إذا دبغت، وقد ذكرناه في أول الكتاب أنه كان ينكر الدباغ ، ويقول: يستمتع به على كل حال مع أنا قد روينا من حديث الزهري، الوليد بن الوليد الدمشقي عن عن الأوزاعي، أن دباغها طهورها. الزهري
وقد روينا عن رواية غير الرواية الأولى: " أنه سئل عن النخعي قال: يبيعها ويلبسها إذا دبغها " . الرجل يموت له الإبل والبقر والغنم فيدبغ جلودها،
854 - حدثنا ثنا علي بن الحسن، عبد الله بن الوليد، عن سفيان، عن حماد، قال: سألت إبراهيم .
قال وقد احتج بعض أصحابنا ممن يقول بما ذكرناه عن جمل أهل العلم أن الله جل وعز حرم الميتة في كتابه، فكان ذلك واقعا على اللحم والجلد جميعا، إلا أن يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر يدل على خصوصية شيء منه، فلما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص في أبو بكر: وجب استثناء ذلك من جملة التحريم، وبقي الجلد قبل الدباغ على جملة التحريم. جلد الشاة الميتة بعد الدباغ
وذكر هذا القائل الأخبار التي ذكرناها في أول الكتاب: حديث عن ابن جريج، عطاء، عن . وحديث ابن عباس عن الشعبي، عكرمة. عن والزهري عبيد الله، وقال: هذه الأخبار ثابتة [ ص: 400 ] ، فإن قيل: قد اختلفوا فيه. قيل: ليس الاختلاف مما يوهن الخبر، وليس يخلو ذلك من أحد معنيين، إما أن يكون سمع ذلك من ابن عباس ميمونة وسودة جميعا؛ لأن كل من روى ما ذكرناه عن عن ابن عباس أو ميمونة ثقة يجب قبول حديثه، فيحتمل أن يكون سودة، سمع الحديث منهما، فإن كان ذلك فهو ابن عباس ثابت لا يدفع له أن يكون ذلك ثابتا عن أحدهما، فأيهما كان فهو مقبول لا معنى لرده، وأيهما كان يخبره يجب قبوله. وقال: فأما خبر ابن وعلة عن فليس مما يجوز أن يقابل به خبر ابن عباس عبيد الله بن عبد الله، ولا عطاء، ولا عكرمة إذا خالفوه؛ لأن هؤلاء حفاظ أصحاب ، مع أن رواية ابن عباس ابن وعلة ليست بخلاف لرواية هؤلاء، قد يجوز أن يكون قد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ابن عباس مختصرا، ويكون قد سمع من "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" ميمونة، وسودة، أو إحداهما قصة الشاة، وليس في رواية ابن وعلة قصة الشاة، ولا في حديث هؤلاء اللفظ الذي في رواية ابن وعلة، فيجوز أن يكونا حديثين محفوظين، كل واحد منهما غير صاحبه، فإن قالوا: ليس في رواية عن معمر ذكر الدباغ، قيل له: قد روى هذا الحديث الزهري ابن عيينة، وعقيل، والزبيدي، وهؤلاء من ثقات أصحاب وقد ذكروا الدباغ في حديثهم، والحافظ إذا زاد في الحديث شيئا فزيادته مقبولة. الزهري،
فإن قال قائل: كيف يجوز أن يكون الدباغ في حديث يرخص [ ص: 401 ] في جلود الميتة قبل الدباغ وبعده، قيل قد اختلف فيه عن الزهري والكراهية ثبتت عندنا عنه، وأقل ذلك أن تكون الروايتان متكافئتين، فلا يجوز أن يثبت عليه واحدة منهما، وإذا لم يثبت عليه واحدة منهما سقط قول الزهري، ويثبت تحريم الزهري، باتفاق أهل العلم، إذ لا نعلم أحدا أرخص في ذلك إلا ما اختلف فيه عن الانتفاع بجلد الميتة قبل الدباغ . الزهري
قال وقد ذكرنا عن أبو بكر: عن ابن المبارك، أنه قال: إذا جاءك عن رجل حديثان مختلفان لا تدري الناسخ منهما من المنسوخ، ولا الأول من الآخر، فلم يجئك عنه شيء . حماد بن سلمة
قال ولو لم يرو عن أبو بكر: هذا الحديث لكان في رواية الزهري عمرو بن دينار، عن وابن جريج، عطاء، عن ، عن ابن عباس وحديثه، عن ميمونة، عكرمة، عن كفاية ومقنع. ابن عباس
فإن قيل: فإن ثبت هذا فحديث ابن عكيم ناسخ له. قيل: إن ابن عكيم لم يسمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، وليست له صحبة، إنما روى ذلك عن مشيخة من جهينة، لم يسمهم ولم يدر من هم، ولا يجوز دفع خبر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بخبر مشيخة لا يعرفون [ ص: 402 ]
وذكر حديث صدقة بن خالد، وقد ذكرناه فيما مضى، قال: ومع هذا فلو كان خبر ابن عكيم ثابتا لاحتمل أن لا يكون مخالفا للأخبار التي ذكرناها؛ لأن تلك الأخبار فيها إذن النبي صلى الله عليه وسلم بالانتفاع بجلد الشاة الميتة بعد الدباغ، فلا يكون مخالفا للأخبار التي ذكرناها، وإذا أمكن لنا أن تكون الأخبار مختلفة، وأمكن استعمالها فاستعمالها أولى بنا من أن نجعلها متضادة، فيستعمل خبر ابن عكيم في النهي عن استعمال جلود الميتة قبل الدباغ، ويستعمل خبر ، وغيره في الانتفاع بجلود الميتة بعد الدباغ. [ ص: 403 ] ابن عباس
وقال آخر: وقد يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جعل دباغ الميتة طهورها قبل موته بأقل من شهر، ولا يكون خبر ابن عكيم لو ثبت ناسخا له، على أن خبر ابن عكيم غير ثابت؛ لأنه لم يخبر من حامل الكتاب إليهم، ولا من قرأ الكتاب عليهم، والحديث عن مشيخة لا يعرفون.
واعترض معترض من احتجوا بها، فزعم أن الانتفاع بجلود الميتة قبل الدباغ جائز بافتراش وجلوس عليه، بعد أن يكون المستعمل من ذلك يابسا، لا يكون رطبا ينجس الطاهر بمماسة الرطب منه.
واحتج بظاهر خبر عن الزهري، عبيد الله بن عبد الله، عن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما حرم أكلها". ابن عباس
واحتج بأن ما لم يحرم معفو عنه، وذكر قول الله جل وعز: ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) إلى قوله: ( عفا الله عنها ) ، قال: فمن حظر ومنع من الانتفاع بجلود الميتة في غير باب الأكل فقد حظر ما هو مباح، قال: وقد أجمع أهل العلم على أن بأن يلبس ويتدفأ به جائز، وفي إجازتهم دليل على إباحة الانتفاع بالأهب النجسة، وأن الذي حرم منه الأكل على ظاهر الحديث [ ص: 404 ] الانتفاع بالثوب النجس
وقال بعض من عارض هذا القائل: لو وجب استعمال ظاهر خبر إنما حرم أكلها لجاز بيع جلد الشاة قبل أن يدبغ، أو جازت هبته، فلما منع الجميع من ذلك دل على أن خبر الزهري، إنما روي على الاختصار، والأخبار التي ذكرناها في أول هذا الباب مفسرة لذلك الخبر ومبينة معناه. الزهري