المسألة الثانية
إذا ثبت أن
nindex.php?page=treesubj&link=21052صيغة ( افعل ) ظاهرة في الطلب والاقتضاء ، فالفعل المطلوب لا بد وأن يكون فعله راجحا على تركه : فإن كان ممتنع الترك . كان واجبا ، وإن لم يكن ممتنع الترك ، فإما أن يكون ترجحه لمصلحة أخروية ، فهو المندوب ، وإما لمصلحة دنيوية ، فهو الإرشاد .
وقد اختلف الأصوليون ، فمنهم من قال : إنه مشترك بين الكل
[1] وهو مذهب
الشيعة ، ومنهم من قال إنه لا دلالة له على الوجوب والندب بخصوصه ، وإنما هو حقيقة في القدر المشترك بينهما ، وهو ترجيح الفعل على الترك
[2]
ومنهم من قال : إنه حقيقة في الوجوب ، مجاز فيما عداه ، وهذا هو مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رضي الله عنه ، والفقهاء وجماعة من المتكلمين ،
كأبي الحسين البصري ، وهو قول
الجباشي في أحد قوليه .
ومنهم من قال : إنه حقيقة من الندب ، وهو مذهب
أبي هاشم وكثير من المتكلمين من
المعتزلة وغيرهم ، وجماعة من الفقهاء وهو أيضا منقول عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله تعالى .
[ ص: 145 ] ومنهم من توقف ، وهو مذهب
الأشعري رحمه الله ، ومن تابعه من أصحابه ،
كالقاضي أبي بكر [3] nindex.php?page=showalam&ids=14847والغزالي وغيرهما وهو الأصح .
وذلك لأن وضعه مشتركا
[4] أو حقيقة في البعض ، مجازا في البعض ، إما أن يكون مدركه عقليا أو نقليا .
الأول : محال ، إذ العقول لا مدخل لها في المنقول ، لا ضرورة ولا نظرا ، والثاني : فإما أن يكون قطعيا أو ظنيا ، والقطعي غير متحقق فيما نحن فيه ، والظني إنما ينفع أن لو كان إثبات مثل هذه المسألة ، مما يقنع فيه بالظن ، وهو غير مسلم
[5] فلم يبق غير التوقف .
فإن قيل : ما ذكرتموه مبني على أن مدار مثل هذه المسألة على القطع ، وهو غير مسلم ولا في شيء من اللغات ، وإن سلمنا ذلك ، لكن ما المانع أن يكون المدرك لا عقليا محضا ولا نقليا محضا ، بل هو مركب منهما ، كما يأتي تحقيقه ، وإن سلمنا الحصر فيما ذكرتموه ، غير أنه لازم عليكم في القول بالوقف أيضا ، فإن العقل لا يقتضيه ، والنقل القطعي غير متحقق فيه ، والظن إنما يكتفى به أن لو كانت المسألة ظنية ، فما هو جوابكم عنه في القول بالوقف يكون جوابا لخصومكم فيما ذهبوا إليه على اختلاف مذاهبهم .
قلت : أما إنكار القطع في اللغات على الإطلاق يفضي إلى إنكار القطع في جميع الأحكام الشرعية ؛ لأن مبناها على الخطاب بالألفاظ اللغوية ومعقولها ، وذلك كفر صراح ، والقول بأن ما ذكرتموه مبني على أن مدار ما نحن فيه على القطع .
قلنا : نحن في هذه المسألة غير متعرضين لنفي ولا إثبات بل نحن متوقفون ، فمن رام إثبات اللغة فيما نحن فيه بطريق ظني أمكن أن يقال له متى يكتفى بذلك فيما نحن فيه ، أإذا كان شرط إثباته القطع أم لا ؟ ولا بد عند توجه التقسيم من تنزيل الكلام على الممنوع أو المسلم ، وكل واحد منهما متعذر لما سبق :
[ ص: 146 ] قولهم : ما المانع من كونه مركبا من العقل والنقل : قلنا : لأن ما ذكرناه من التقسيم في النقلي ، ثابت هاهنا كان مستقلا أو غير مستقل ، والقطع لا سبيل إليه وإن كان ظنيا ، فالمركب منه ومن العقلي يكون ظنيا ، سواء كان العقلي ظنيا أو قطعيا .
قولهم : ما ذكرتموه لازم عليكم في الوقف ، قلنا : ليس كذلك ; لأن الواقف غير حاكم ، بل هو ساكت عن الحكم
[6] والساكت عن الحكم ، لا يفتقر إلى دليل ، فلا يكون ما ذكروه لازما علينا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
إِذَا ثَبَتَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=21052صِيغَةَ ( افْعَلْ ) ظَاهِرَةٌ فِي الطَّلَبِ وَالِاقْتِضَاءِ ، فَالْفِعْلُ الْمَطْلُوبُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ رَاجِحًا عَلَى تَرْكِهِ : فَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعَ التَّرْكِ . كَانَ وَاجِبًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعَ التَّرْكِ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَرَجُّحُهُ لِمَصْلَحَةٍ أُخْرَوِيَّةٍ ، فَهُوَ الْمَنْدُوبُ ، وَإِمَّا لِمَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ ، فَهُوَ الْإِرْشَادُ .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكُلِّ
[1] وَهُوَ مَذْهَبُ
الشِّيعَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ بِخُصُوصِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ تَرْجِيحُ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ
[2]
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ ، مَجَازٌ فِيمَا عَدَاهُ ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَالْفُقَهَاءِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ ،
كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ ، وَهُوَ قَوْلُ
الْجُبَاشِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ حَقِيقَةٌ مِنَ النَّدْبِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ
أَبِي هَاشِمٍ وَكَثِيرٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ
الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ أَيْضًا مَنْقُولٌ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
[ ص: 145 ] وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ ، وَهُوَ مَذْهَبُ
الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ ،
كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ [3] nindex.php?page=showalam&ids=14847وَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ الْأَصَحُّ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ وَضْعَهُ مُشْتَرَكًا
[4] أَوْ حَقِيقَةً فِي الْبَعْضِ ، مَجَازًا فِي الْبَعْضِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُدْرَكُهُ عَقْلِيًّا أَوْ نَقْلِيًّا .
الْأَوَّلُ : مُحَالٌ ، إِذِ الْعُقُولُ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْمَنْقُولِ ، لَا ضَرُورَةً وَلَا نَظَرًا ، وَالثَّانِي : فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا ، وَالْقَطْعِيُّ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، وَالظَّنِّيُّ إِنَّمَا يَنْفَعُ أَنْ لَوْ كَانَ إِثْبَاتُ مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، مِمَّا يُقْنَعُ فِيهِ بِالظَّنِّ ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ
[5] فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ التَّوَقُّفِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا ذَكَرْتُمُوهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَدَارَ مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْقَطْعِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ اللُّغَاتِ ، وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ ، لَكِنْ مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُدْرِكُ لَا عَقْلِيًّا مَحْضًا وَلَا نَقْلِيًّا مَحْضًا ، بَلْ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْهُمَا ، كَمَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ ، وَإِنْ سَلَّمْنَا الْحَصْرَ فِيمَا ذَكَرْتُمُوهُ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَازِمٌ عَلَيْكُمْ فِي الْقَوْلِ بِالْوَقْفِ أَيْضًا ، فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَقْتَضِيهِ ، وَالنَّقْلُ الْقَطْعِيُّ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِيهِ ، وَالظَّنُّ إِنَّمَا يُكْتَفَى بِهِ أَنْ لَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةً ، فَمَا هُوَ جَوَابُكُمْ عَنْهُ فِي الْقَوْلِ بِالْوَقْفِ يَكُونُ جَوَابًا لِخُصُومِكُمْ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ .
قُلْتُ : أَمَّا إِنْكَارُ الْقَطْعِ فِي اللُّغَاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ يُفْضِي إِلَى إِنْكَارِ الْقَطْعِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْخِطَابِ بِالْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ وَمَعْقُولِهَا ، وَذَلِكَ كُفْرٌ صُرَاحٌ ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَدَارَ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى الْقَطْعِ .
قُلْنَا : نَحْنُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مُتَعَرِّضِينَ لِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ بَلْ نَحْنُ مُتَوَقِّفُونَ ، فَمَنْ رَامَ إِثْبَاتَ اللُّغَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِطَرِيقٍ ظَنِّيٍّ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ لَهُ مَتَى يُكْتَفَى بِذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، أَإِذَا كَانَ شَرْطُ إِثْبَاتِهِ الْقَطْعَ أَمْ لَا ؟ وَلَا بُدَّ عِنْدَ تَوَجُّهِ التَّقْسِيمِ مِنْ تَنْزِيلِ الْكَلَامِ عَلَى الْمَمْنُوعِ أَوِ الْمُسَلَّمِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَذِّرٌ لِمَا سَبَقَ :
[ ص: 146 ] قَوْلُهُمْ : مَا الْمَانِعُ مِنْ كَوْنِهِ مُرَكَّبًا مِنَ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ : قُلْنَا : لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّقْسِيمِ فِي النَّقْلِيِّ ، ثَابِتٌ هَاهُنَا كَانَ مُسْتَقِلًّا أَوْ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ ، وَالْقَطْعُ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا ، فَالْمُرَكَّبُ مِنْهُ وَمِنَ الْعَقْلِيِّ يَكُونُ ظَنِّيًّا ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَقْلِيُّ ظَنِّيًّا أَوْ قَطْعِيًّا .
قَوْلُهُمْ : مَا ذَكَرْتُمُوهُ لَازِمٌ عَلَيْكُمْ فِي الْوَقْفِ ، قُلْنَا : لَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْوَاقِفَ غَيْرُ حَاكِمٍ ، بَلْ هُوَ سَاكِتٌ عَنِ الْحُكْمِ
[6] وَالسَّاكِتُ عَنِ الْحُكْمِ ، لَا يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ ، فَلَا يَكُونُ مَا ذَكَرُوهُ لَازِمًا عَلَيْنَا .