[ ص: 206 ] المسألة الرابعة
اختلفوا في جواز
nindex.php?page=treesubj&link=21783تعليل الحكم الثبوتي بالعدم ، فجوزه قوم ومنع منه آخرون ، وشرطوا
nindex.php?page=treesubj&link=21783أن تكون العلة للحكم الثبوتي أمرا وجوديا وهو المختار .
وبيانه من ثلاثة أوجه :
الأول : أن الحكم بكون الوصف علة - صفة وجودية ; لأن نقيض العلة ( لا علة ) ، و ( لا علة ) أمكن أن يكون صفة لبعض الأعدام ، ولو كان المفهوم من ( لا علة ) وجوديا لكان الوجود صفة للعدم ، وهو محال ، وإذا كان ( لا علة ) عدما فالمفهوم من نقيضها وجودي .
الوجه الثاني : أنه يصح قول القائل : " أي شيء وجد حتى حدث هذا الأمر ؟ " ولو لم يكن الحدوث متوقفا على وجود شيء لما صح هذا الكلام ، كما لو قال : أي رجل مات حتى حدث لفلان هذا المال ؟ حيث لم يكن حدوث المال لفلان متوقفا على ما قيل .
الثالث : وهو خاص بما إذا كان الحكم بخطاب التكليف كالوجوب والحظر ونحوه ، وهو أن يقال : " قد ثبت أن العلة المستنبطة من الحكم لا بد وأن تكون بمعنى الباعث لا بمعنى الأمارة ، والباعث ما اشتمل على تحصيل مصلحة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تعليلها كما يأتي بيانه ، فإذا كان الحكم ثابتا بخطاب التكليف لمثل هذا الغرض ، فلا بد وأن يكون ضابط ذلك الغرض مقدورا للمكلف في إيجاده وإعدامه ، وإلا لما كان شرع ذلك الحكم مفيدا لمثل ذلك الغرض ، لعدم إفضائه إلى الغرض المطلوب ، والعدم المحض لا انتساب له إلى قدرة المكلف لا بإيجاد ولا إعدام ، فجعل ضابطا لغرض الحكم ومقصوده لا يكون مفضيا إلى مقصود شرع الحكم فيمتنع التعليل به .
فإن قيل : ما ذكرتموه من الوجه الأول معارض بما يدل على أن المفهوم من صفة العلة عدم ، وبيانه من وجهين :
[ ص: 207 ] الأول : أنه لو كانت صفة العلة أمرا وجوديا لم يخل : إما أن تكون واجبة لذاتها ، أو ممكنة ، الأول محال ، وإلا لما افتقرت إلى الموصوف بها .
والثاني يوجب افتقارها إلى علة مرجحة لها ، في صفة تلك العلة كالكلام في الأولى وهو تسلسل ممتنع .
الوجه الثاني : أنه يصح وصف الأمر العدمي بكونه علة للأمر العدمي ، ولهذا يصح أن يقال : إنما لم أسلم على فلان لأني لم أره ، وإنما لم أفعل كذا لعدم الداعي إليه .
وأما الوجه الثاني : فليس فيه دلالة على توقف حدوث ذلك الأمر على تجدد وجود أمر آخر ، ولهذا فإنه يصح أن يقال : أي شيء صنع هذا حتى حدث له هذا المال ؟ وإن لم يكن حصول المال له موقوفا على صنع من جهته ; لجواز حدوثه له عن إرث أو وصية .
وإن سلمنا دلالته على التوقف على الأمر الوجودي غير أنه معارض بما يدل على صحة الأمر الوجودي بالأمر العدمي .
وبيانه أنه يصح أن يقال : ضرب فلان عبده لأنه لم يمتثل أمره ، وشتم فلان فلانا لأنه لم يسلم عليه ، وهو تعليل للأمر الوجودي بالأمر العدمي .
وأما الوجه الثالث : فهو وإن سلمنا أن العلة لا بد وأن تكون بمعنى الباعث ، وأن الباعث عبارة عما ذكرتموه ولكن لا نسلم امتناع كون الوصف العدمي باعثا ، وذلك لأنا أجمعنا على جواز
nindex.php?page=treesubj&link=21767_21769التعليل بالوصف الوجودي الظاهر المنضبط إذا كان يلزم من ترتيب الحكم على وفقه تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة ظاهرا ، فالعدم المقابل له يكون أيضا ظاهرا منضبطا ، ويكون مشتملا على نقيض ما اشتمل عليه الوصف الوجودي ، وهو لا يخرج عن المصلحة أو المفسدة ; لأنه إن كان ما اشتمل عليه الوصف الوجودي مصلحة فعدمه يلزمه عدم تلك المصلحة ، وعدم المصلحة مفسدة ، وإن كان ما اشتمل عليه الوصف الوجودي مفسدة ، فعدمه يلزمه عدم تلك المفسدة ، وعدم المفسدة مصلحة وهو مقدور للمكلف لأنه إذا كان مقابله وهو الوصف الوجودي مقدورا ، فلا معنى لكونه مقدورا إلا أنه مقدور على إيجاده وإعدامه ، فإذا العدم المقابل للوجود مقدور وإذا كان مقدورا وهو ظاهر
[ ص: 208 ] منضبط مشتمل على مصلحة أو مفسدة ، فقد أمكن التعليل به كما أمكن التعليل بالوصف الوجودي .
والجواب عن الأول : أن ما ذكروه من لزوم التسلسل بتقدير كون العلية صفة وجودية - لازم بتقدير كونها عدمية ، وذلك لأن المفهوم من صفة العلية إذا كان أمرا عدميا فإما أن يكون واجبا لنفسه ومفهومه أو ممكنا .
لا جائز أن يكون واجبا لذاته وإلا لما افتقر في تحقيقه إلى نسبته إلى ذات العلة ، وكونه وصفا لها ، وإن كان ممكنا فلا بد له من علة مرجحة ، والتسلسل لازم له ، وعند ذلك فالجواب يكون متحدا .
وما ذكروه من الاحتجاج ثانيا فلا يصح ، وذلك لأن وجود الداعي إلى الفعل شرط لوجود الفعل ، وكذلك الرؤية لزيد شرط في السلام عليه لا أن ذلك علة له ، وإنما أضيف عدم الأثر إليه بلام التعليل بجهة التجوز لمشابهته للعلة في افتقار الأثر إلى كل واحد منهما ، ولذلك يقال في صورة تعليق الطلاق والعتق بدخول الدار : ( إنما طلقت الزوجة وعتق العبد لدخول الدار ) ويجب حمل ذلك على جهة التجوز جمعا بينه وبين ما ذكرناه من الدليل .
قولهم على الوجه الثاني : ليس فيه دلالة على توقف الحدوث على تجدد الوجود .
قلنا : دليله ما ذكرناه وما ذكروه من الاستشهاد ، فإنما صح بناء على الظاهر من جهة أن الغالب في حدوث المال لبعض الأشخاص أن يكون مستندا إلى صنعة لا إلى ما ذكروه ، ونحن إنما نتمسك في هذا الوجه بالظاهر لا بالقطع .
وما ذكروه من المعارضة الدالة على الأمر الوجودي بالأمر العدمي غير صحيح ، فإن المعلل به ليس هو العدم المحض ، فإنه غير منتسب إلى فعل الشخص فلا يحسن جعله علة للعقاب لا عقلا ولا شرعا ، وإنما التعليل بالامتناع عن ذلك وكف النفس عنه ، وهو أمر وجودي لا عدمي .
وما ذكروه على الوجه الثالث فحاصله راجع إلى التعليل بالإعدام المقدور ، وهو أمر وجودي لا بالعدم المحض الذي لا قدرة للمكلف عليه ، وذلك غير ما وقع فيه النزاع .
[ ص: 209 ] وإذا عرف امتناع الوجود بالعدم المحض مما ذكرناه فبمثله يعلم أن العدم لا يكون جزءا من العلة المقتضية للأمر الوجودي ولا داخلا فيها ، والوجه في الاعتراض على ذلك والانفصال فعلى ما تقدم .
ويخصه اعتراض آخر ، وهو أن انتفاء معارضة المعجزة بمثلها جزء من المعرف لكونها معجزة ، وكذلك الدوران فإنه معرف لعلية المدار ، وأحد أجزاء الدوران العدم مع العدم .
وجوابه : أنا لا نسلم أن العدم فيما ذكروه من صور الاستشهاد جزء من المعرف بل شرط ، والشرط غير الجزء .
وإذا عرف امتناع الحكم الثبوتي بالعدم المحض وامتناع جعله جزءا من العلة لزم امتناع التعليل بالصفات الإضافية
[1] ، وذلك لأن المفهوم من الصفة الإضافية إما أن يكون وجودا أو عدما ، لا جائز أن يكون وجودا ; لأن الصفة الإضافية لا بد وأن تكون صفة للمضاف ، ويلزم من ذلك قيام الصفة الوجودية بالمعدوم المحض وهو محال .
وبيان لزوم ذلك أن الإضافة الواقعة بين المتناقضين وبين المتقدم والمتأخر قائمة لكل واحد من الأمرين ، وأحد المتقابلين مما ذكرناه لا بد وأن يكون معدوما ، وإذا بطل أن يكون المفهوم من الإضافة وجودا تعين أن يكون عدما .
[ ص: 206 ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ
اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ
nindex.php?page=treesubj&link=21783تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الثُّبُوتِيِّ بِالْعَدَمِ ، فَجَوَّزَهُ قَوْمٌ وَمَنَعَ مِنْهُ آخَرُونَ ، وَشَرَطُوا
nindex.php?page=treesubj&link=21783أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ لِلْحُكْمِ الثُّبُوتِيِّ أَمْرًا وُجُودِيًّا وَهُوَ الْمُخْتَارُ .
وَبَيَانُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْحُكْمَ بِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً - صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ ; لِأَنَّ نَقِيضَ الْعِلَّةِ ( لَا عِلَّةَ ) ، وَ ( لَا عِلَّةَ ) أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِبَعْضِ الْأَعْدَامِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ ( لَا عِلَّةَ ) وُجُودِيًّا لَكَانَ الْوُجُودُ صِفَةً لِلْعَدَمِ ، وَهُوَ مُحَالٌ ، وَإِذَا كَانَ ( لَا عِلَّةَ ) عَدَمًا فَالْمَفْهُومُ مِنْ نَقِيضِهَا وُجُودِيٌّ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَصِحُّ قَوْلُ الْقَائِلِ : " أَيُّ شَيْءٍ وُجِدَ حَتَّى حَدَثَ هَذَا الْأَمْرُ ؟ " وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْحُدُوثُ مُتَوَقِّفًا عَلَى وُجُودِ شَيْءٍ لَمَا صَحَّ هَذَا الْكَلَامُ ، كَمَا لَوْ قَالَ : أَيُّ رَجُلٍ مَاتَ حَتَّى حَدَثَ لِفُلَانٍ هَذَا الْمَالُ ؟ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ حُدُوثُ الْمَالِ لِفُلَانٍ مُتَوَقِّفًا عَلَى مَا قِيلَ .
الثَّالِثُ : وَهُوَ خَاصٌّ بِمَا إِذَا كَانَ الْحُكْمُ بِخِطَابِ التَّكْلِيفِ كَالْوُجُوبِ وَالْحَظْرِ وَنَحْوِهِ ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : " قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمُسْتَنْبَطَةَ مِنَ الْحُكْمِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ لَا بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ ، وَالْبَاعِثُ مَا اشْتَمَلَ عَلَى تَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ أَوْ تَكْمِيلِهَا أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةً أَوْ تَعْلِيلِهَا كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ ، فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِخِطَابِ التَّكْلِيفِ لِمِثْلِ هَذَا الْغَرَضِ ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ضَابِطُ ذَلِكَ الْغَرَضِ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ فِي إِيجَادِهِ وَإِعْدَامِهِ ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ شَرْعُ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُفِيدًا لِمِثْلِ ذَلِكَ الْغَرَضِ ، لِعَدَمِ إِفْضَائِهِ إِلَى الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ ، وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَا انْتِسَابَ لَهُ إِلَى قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ لَا بِإِيجَادٍ وَلَا إِعْدَامٍ ، فَجُعِلَ ضَابِطًا لِغَرَضِ الْحُكْمِ وَمَقْصُودِهِ لَا يَكُونُ مُفْضِيًا إِلَى مَقْصُودِ شَرْعِ الْحُكْمِ فَيَمْتَنِعُ التَّعْلِيلُ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ صِفَةِ الْعِلَّةِ عَدَمٌ ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ :
[ ص: 207 ] الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ صِفَةُ الْعِلَّةِ أَمْرًا وُجُودِيًّا لَمْ يَخْلُ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً لِذَاتِهَا ، أَوْ مُمْكِنَةً ، الْأَوَّلُ مُحَالٌ ، وَإِلَّا لَمَا افْتَقَرَتْ إِلَى الْمَوْصُوفِ بِهَا .
وَالثَّانِي يُوجِبُ افْتِقَارَهَا إِلَى عِلَّةٍ مُرَجِّحَةٍ لَهَا ، فِي صِفَةِ تِلْكَ الْعِلَّةِ كَالْكَلَامِ فِي الْأُولَى وَهُوَ تَسَلْسُلٌ مُمْتَنِعٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَصِحُّ وَصْفُ الْأَمْرِ الْعَدَمِيِّ بِكَوْنِهِ عِلَّةً لِلْأَمْرِ الْعَدَمِيِّ ، وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : إِنَّمَا لَمْ أُسَلِّمْ عَلَى فُلَانٍ لِأَنِّي لَمْ أَرَهُ ، وَإِنَّمَا لَمْ أَفْعَلْ كَذَا لِعَدَمِ الدَّاعِي إِلَيْهِ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي : فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَوَقُّفِ حُدُوثِ ذَلِكَ الْأَمْرِ عَلَى تَجَدُّدِ وُجُودِ أَمْرٍ آخَرَ ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : أَيُّ شَيْءٍ صَنَعَ هَذَا حَتَّى حَدَثَ لَهُ هَذَا الْمَالُ ؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُصُولُ الْمَالِ لَهُ مَوْقُوفًا عَلَى صُنْعٍ مِنْ جِهَتِهِ ; لِجَوَازِ حُدُوثِهِ لَهُ عَنْ إِرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ .
وَإِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَتَهُ عَلَى التَّوَقُّفِ عَلَى الْأَمْرِ الْوُجُودِيِّ غَيْرَ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْأَمْرِ الْوُجُودِيِّ بِالْأَمْرِ الْعَدَمِيِّ .
وَبَيَانُهُ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : ضَرَبَ فُلَانٌ عَبْدَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ ، وَشَتَمَ فُلَانٌ فُلَانًا لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ الْوُجُودِيِّ بِالْأَمْرِ الْعَدَمِيِّ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ : فَهُوَ وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ ، وَأَنَّ الْبَاعِثَ عِبَارَةٌ عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ كَوْنِ الْوَصْفِ الْعَدَمِيِّ بَاعِثًا ، وَذَلِكَ لِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى جَوَازِ
nindex.php?page=treesubj&link=21767_21769التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْوُجُودِيِّ الظَّاهِرِ الْمُنْضَبِطِ إِذَا كَانَ يَلْزَمُ مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى وِفْقِهِ تَحْصِيلُ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعُ مَفْسَدَةٍ ظَاهِرًا ، فَالْعَدَمُ الْمُقَابِلُ لَهُ يَكُونُ أَيْضًا ظَاهِرًا مُنْضَبِطًا ، وَيَكُونُ مُشْتَمِلًا عَلَى نَقِيضِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْوَصْفُ الْوُجُودِيُّ ، وَهُوَ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمَصْلَحَةِ أَوِ الْمَفْسَدَةِ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْوَصْفُ الْوُجُودِيُّ مَصْلَحَةً فَعَدَمُهُ يَلْزَمُهُ عَدَمُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ ، وَعَدَمُ الْمَصْلَحَةِ مَفْسَدَةٌ ، وَإِنْ كَانَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْوَصْفُ الْوُجُودِيُّ مَفْسَدَةً ، فَعَدَمُهُ يَلْزَمُهُ عَدَمُ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ ، وَعَدَمُ الْمَفْسَدَةِ مَصْلَحَةٌ وَهُوَ مَقْدُورٌ لِلْمُكَلَّفِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُقَابِلُهُ وَهُوَ الْوَصْفُ الْوُجُودِيُّ مَقْدُورًا ، فَلَا مَعْنَى لِكَوْنِهِ مَقْدُورًا إِلَّا أَنَّهُ مَقْدُورٌ عَلَى إِيجَادِهِ وَإِعْدَامِهِ ، فَإِذًا الْعَدَمُ الْمُقَابِلُ لِلْوُجُودِ مَقْدُورٌ وَإِذَا كَانَ مَقْدُورًا وَهُوَ ظَاهِرٌ
[ ص: 208 ] مُنْضَبِطٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَصْلَحَةٍ أَوْ مَفْسَدَةٍ ، فَقَدْ أَمْكَنَ التَّعْلِيلُ بِهِ كَمَا أَمْكَنَ التَّعْلِيلُ بِالْوَصْفِ الْوُجُودِيِّ .
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ : أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ لُزُومِ التَّسَلْسُلِ بِتَقْدِيرِ كَوْنِ الْعِلِّيَّةِ صِفَةً وُجُودِيَّةً - لَازِمٌ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهَا عَدَمِيَّةً ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ صِفَةِ الْعِلِّيَّةِ إِذَا كَانَ أَمْرًا عَدَمِيًّا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لِنَفْسِهِ وَمَفْهُومِهِ أَوْ مُمْكِنًا .
لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ وَإِلَّا لَمَا افْتَقَرَ فِي تَحْقِيقِهِ إِلَى نِسْبَتِهِ إِلَى ذَاتِ الْعِلَّةِ ، وَكَوْنِهِ وَصْفًا لَهَا ، وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ مُرَجِّحَةٍ ، وَالتَّسَلْسُلُ لَازِمٌ لَهُ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَالْجَوَابُ يَكُونُ مُتَّحِدًا .
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ ثَانِيًا فَلَا يَصِحُّ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُودَ الدَّاعِي إِلَى الْفِعْلِ شَرْطٌ لِوُجُودِ الْفِعْلِ ، وَكَذَلِكَ الرُّؤْيَةُ لِزَيْدٍ شَرْطٌ فِي السَّلَامِ عَلَيْهِ لَا أَنَّ ذَلِكَ عِلَّةٌ لَهُ ، وَإِنَّمَا أُضِيفَ عَدَمُ الْأَثَرِ إِلَيْهِ بِلَامِ التَّعْلِيلِ بِجِهَةِ التَّجَوُّزِ لِمُشَابَهَتِهِ لِلْعِلَّةِ فِي افْتِقَارِ الْأَثَرِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ فِي صُورَةِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ بِدُخُولِ الدَّارِ : ( إِنَّمَا طُلِّقَتِ الزَّوْجَةُ وَعُتِقَ الْعَبْدُ لِدُخُولِ الدَّارِ ) وَيَجِبُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّجَوُّزِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ .
قَوْلُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي : لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَوَقُّفِ الْحُدُوثِ عَلَى تَجَدُّدِ الْوُجُودِ .
قُلْنَا : دَلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ ، فَإِنَّمَا صَحَّ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْغَالِبَ فِي حُدُوثِ الْمَالِ لِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا إِلَى صَنْعَةٍ لَا إِلَى مَا ذَكَرُوهُ ، وَنَحْنُ إِنَّمَا نَتَمَسَّكُ فِي هَذَا الْوَجْهِ بِالظَّاهِرِ لَا بِالْقَطْعِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُعَارَضَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَمْرِ الْوُجُودِيِّ بِالْأَمْرِ الْعَدَمِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ ، فَإِنَّ الْمُعَلَّلَ بِهِ لَيْسَ هُوَ الْعَدَمُ الْمَحْضُ ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُنْتَسِبٍ إِلَى فِعْلِ الشَّخْصِ فَلَا يَحْسُنُ جَعْلُهُ عِلَّةً لِلْعِقَابِ لَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا ، وَإِنَّمَا التَّعْلِيلُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ ذَلِكَ وَكَفِّ النَّفْسِ عَنْهُ ، وَهُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ لَا عَدَمِيٌّ .
وَمَا ذَكَرُوهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ فَحَاصِلُهُ رَاجِعٌ إِلَى التَّعْلِيلِ بِالْإِعْدَامِ الْمَقْدُورِ ، وَهُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ لَا بِالْعَدَمِ الْمَحْضِ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لِلْمُكَلَّفِ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَا وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ .
[ ص: 209 ] وَإِذَا عُرِفَ امْتِنَاعُ الْوُجُودِ بِالْعَدَمِ الْمَحْضِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فَبِمِثْلِهِ يُعْلَمُ أَنَّ الْعَدَمَ لَا يَكُونُ جُزْءًا مِنَ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْأَمْرِ الْوُجُودِيِّ وَلَا دَاخِلًا فِيهَا ، وَالْوَجْهُ فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى ذَلِكَ وَالِانْفِصَالِ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ .
وَيَخُصُّهُ اعْتِرَاضٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّ انْتِفَاءَ مُعَارَضَةِ الْمُعْجِزَةِ بِمِثْلِهَا جُزْءٌ مِنَ الْمُعَرِّفِ لِكَوْنِهَا مُعْجِزَةً ، وَكَذَلِكَ الدَّوَرَانُ فَإِنَّهُ مُعَرِّفٌ لِعِلِّيَّةِ الْمُدَارِ ، وَأَحَدُ أَجْزَاءِ الدَّوَرَانِ الْعَدَمُ مَعَ الْعَدَمِ .
وَجَوَابُهُ : أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَدَمَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنْ صُوَرِ الِاسْتِشْهَادِ جُزْءٌ مِنَ الْمُعَرِّفِ بَلْ شَرْطٌ ، وَالشَّرْطُ غَيْرُ الْجُزْءِ .
وَإِذَا عُرِفَ امْتِنَاعُ الْحُكْمِ الثُّبُوتِيِّ بِالْعَدَمِ الْمَحْضِ وَامْتِنَاعُ جَعْلِهِ جُزْءًا مِنَ الْعِلَّةِ لَزِمَ امْتِنَاعُ التَّعْلِيلِ بِالصِّفَاتِ الْإِضَافِيَّةِ
[1] ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الصِّفَةِ الْإِضَافِيَّةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُودًا أَوْ عَدَمًا ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وُجُودًا ; لِأَنَّ الصِّفَةَ الْإِضَافِيَّةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ صِفَةً لِلْمُضَافِ ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ قِيَامُ الصِّفَةِ الْوُجُودِيَّةِ بِالْمَعْدُومِ الْمَحْضِ وَهُوَ مُحَالٌ .
وَبَيَانُ لُزُومِ ذَلِكَ أَنَّ الْإِضَافَةَ الْوَاقِعَةَ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ وَبَيْنَ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ قَائِمَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ ، وَأَحَدُ الْمُتَقَابِلَيْنِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا ، وَإِذَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَفْهُومُ مِنَ الْإِضَافَةِ وُجُودًا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ عَدَمًا .