باب التحذير من استماع كلام قوم يريدون نقض الإسلام ومحو شرائعه فيكنون عن ذلك بالطعن على فقهاء المسلمين ، وعيبهم بالاختلاف
فإن قال قائل : قد ذكرت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الفرقة وتحذيره أمته ذلك وحضه إياهم على الجماعة والتمسك بالسنة ، وقلت : إن ذلك هو أصل المسلمين ودعامة الدين وأن الفرقة الناجية هي واحدة والفرق المذمومة نيف وسبعون فرقة ونحن نرى أن هذه الفرقة الناجية أيضا فيها اختلاف كثير وتباين في المذاهب ونرى فقهاء المسلمين مختلفين فلكل واحد منهم قول يقوله ومذهب يذهب إليه وينصره ويعيب من خالفه عليه .
فمالك بن أنس رحمه الله إمام وله أصحاب يقولون بقوله ويعيبون من خالفهم وكذلك رحمه الله وكذلك الشافعي رحمه الله وطائفة من فقهاء سفيان الثوري العراق وكذلك رحمه الله كل واحد من هؤلاء له مذهب يخالف فيه غيره . أحمد بن حنبل
ونرى قوما من المعتزلة والرافضة وأهل الأهواء يعيبونا بهذا الاختلاف ويقولون لنا : الحق واحد فكيف يكون في وجهين مختلفين ؟ فإني أقول له في جواب هذا السؤال : أما ما تحكيه عن أهل البدع مما يعيبون به أهل التوحيد والإثبات من الاختلاف فإني قد تدبرت كلامهم في هذا المعنى ، فإذا [ ص: 554 ] هم ليس الاختلاف يعيبون ولا له يقصدون وإنما هم قوم علموا أن أهل الملة وأهل الذمة والملوك والسوقة والخاصة والعامة وأهل الدنيا كافة إلى الفقهاء يرجعون ولأمرهم يطيعون وبحكمهم يقضون في كل ما أشكل عليهم وفي كل ما يتنازعون فيه فعلى فقهاء المسلمين يعولون في رجوع الناس إلى فقهائهم وطاعتهم لعلمائهم ثبات للدين ، وإضاءة للسبيل وظهور لسنة الرسول ، وكل ذلك ففيه غيظ لأهل الأهواء ، واضمحلال للبدع فهم يوهون أمر الفقهاء ويضعفون أصولهم ، ويطعنون عليهم بالاختلاف لتخرج الرعية عن طاعتهم ، والانقياد لأحكامهم فيفسد الدين وتترك الصلوات والجماعات وتبطل الزكوات والصدقات والحج والجهاد ويستحل الربا والزنا والخمور والفجور وما قد ظهر مما لا خفاء به على العقلاء . فأما أهل البدع - يا أخي رحمك الله - فإنهم ويبصرون القذى في عيون غيرهم وعيونهم تطرف على الأجذال ويتهمون أهل العدالة والأمانة في النقل ولا يتهمون آراءهم وأهواءهم على الظن ، وهم أكثر الناس اختلافا ، وأشدهم تنافيا وتباينا ، لا يتفق اثنان من رؤسائهم على قول ولا يجتمع رجلان من أئمتهم على مذهب . يقولون على الله ما لا يعلمون ويعيبون ما يأتون ، ويجحدون ما يعلمون ،
فأبو الهذيل يخالف النظام ، [ ص: 555 ] وحسين النجار يخالفهما ، وهشام الفوطي يخالفهم ، وثمامة بن أشرس يخالف الكل ، وهاشم الأوقص ، وصالح قبة يخالفانهم ، وكل واحد منهم قد انتحل لنفسه دينا ينصره وربا يعبده، وله على ذلك أصحاب يتبعونه وكل واحد منهم يكفر من خالفه ، ويلعن من لا يتبعه وهم في اختلافهم وتباينهم كاختلاف اليهود والنصارى كما قال الله تعالى :
وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء .
فاختلافهم كاختلاف اليهود والنصارى ، لأن اختلافهم في التوحيد وفي صفات الله وفي الكيفية وفي قدرة الله وفي عظمته وفي نعيم الجنة وفي عذاب النار وفي البرزخ وفي اللوح المحفوظ وفي الرق المنشور وفي علم الله [ ص: 556 ] وفي القرآن وفي غير ذلك من الأمور التي لا يعلمها نبي مرسل إلا بوحي من الله وليس يعدم من رد العلم في هذه الأشياء إلى رأيه وهواه وقياسه ونظره واختياره من الاختلاف العظيم والتباين الشديد .
وأما الرافضة فأشد الناس اختلافا وتباينا وتطاعنا فكل واحد منهم يختار مذهبا لنفسه يلعن من خالفه عليه ويكفر من لم يتبعه وكلهم يقول : إنه لا صلاة ولا صيام ولا جهاد ولا جمعة ولا عيدين ولا نكاح ولا طلاق ولا بيع ولا شراء إلا بإمام وإنه من لا إمام له فلا دين له ، ومن لم يعرف إمامه فلا دين له ، ثم يختلفون في الأئمة فالإمامية لها إمام تسوده وتلعن من قال : إن الإمام غيره وتكفره ، وكذلك الزيدية لها إمام غير إمام الإمامية . وكذلك الإسماعيلية وكذلك الكيسانية والبترية وكل طائفة تنتحل مذهبا وإماما وتلعن من خالفها عليه وتكفره . ولولا ما نؤثره من صيانة العلم الذي أعلى الله أمره وشرف قدره ، ونزهه أن يخلط به نجاسات أهل الزيغ وقبيح أقوالهم ومذاهبهم التي تقشعر الجلود من ذكرها ، وتجزع النفوس من استماعها وينزه العقلاء ألفاظهم وأسماعهم عن لفظها لذكرت من ذلك ما فيه عبرة للمعتبرين ، ولكنه
[ ص: 557 ]