187 - فصل
[ إجماع أهل العلم على أن الاستنطاق كان للأرواح ] .
قال أبو عمر : وقال آخرون : معنى قوله : " كل مولود يولد على [ ص: 1033 ] الفطرة " أن الله فطرهم على الإنكار والمعرفة ، وعلى الكفر ، والإيمان ، فأخذ من ذرية آدم الميثاق حين خلقهم ، فقال : ألست بربكم ؟ قالوا جميعا : بلى ، فأما أهل السعادة ، فقالوا : بلى ، على معرفة له طوعا من قلوبهم ، وأما أهل الشقاوة فقالوا : بلى ، كرها غير طوع .
قالوا : ويصدق ذلك قوله تعالى : ( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ) ، قالوا : وكذلك قوله : ( كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ) .
قال : سمعت محمد بن نصر المروزي - يذهب إلى هذا المعنى ، واحتج بقول إسحاق بن إبراهيم - يعني ابن راهويه ، اقرءوا إن شئتم : ( أبي هريرة فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) ، قال إسحاق : يقول : لا تبديل للخلقة التي جبل عليها ولد آدم كلهم ، يعني من الكفر والإيمان ، والمعرفة والإنكار ، واحتج بقوله تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) الآية .
قال إسحاق : أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد ، استنطقهم [ ص: 1034 ] وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ، قالوا : بلى ، فقال : انظروا أن لا تقولوا إنا كنا عن هذا غافلين ، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل ، وذكر حديث في قصة الغلام الذي قتله أبي بن كعب الخضر قال : وكان الظاهر ما قاله موسى : ( أقتلت نفسا زكية بغير نفس ) ، فأعلم الله سبحانه الخضر ما كان الغلام عليه من الفطرة التي فطر عليها ، وأنه لا تبديل لخلق الله ، فأمره بقتله لأنه كان قد طبع يوم طبع كافرا .
قال إسحاق : فلو ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس ولم يبين لهم حكم الأطفال لم يعرفوا المؤمنين منهم من الكافرين لأنهم لا يدرون ما جبل كل واحد عليه حين أخرج من ظهر آدم ، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم الدنيا في الأطفال بقوله : " " يقول : أنتم لا تعلمون ما طبع عليه في الفطرة الأولى ، ولكن أبواه يهودانه ، وينصرانه ويمجسانه ، فاعرفوا ذلك بالأبوين ، فمن كان صغيرا بين أبوين مسلمين ألحق بحكم الإسلام ، وأما إيمان ذلك ، وكفره مما يصير إليه فعلم ذلك إلى الله . حكم الطفل في الدنيا حكم أبويه
وإنما فضل الله الخضر في علمه بهذا على موسى - لما أخبره بالفطرة التي فطره عليها - ليزداد موسى يقينا ، وعلما بأن من علم الخضر ما لا يعلمه [ ص: 1035 ] نبي ، ولا غيره ، إذ الأنبياء لا يعلمون من الغيب إلا قدر ما علمهم الله ، فصار الحكم على ما كان عند موسى هو حكم الشرع في الدنيا ، وما بطن من علم الخضر كان الخضر مخصوصا به ، فإذا رأيت الصغير بين أبوين مسلمين حكمت له بحكم الإسلام في المواريث ، والصلاة ، وكل أحكام المسلمين ، ولم تعتد بفعل الخضر ، وذلك لأنه كان مخصوصا بذلك لما علمه الله من العلم الخفي ، فانتهى إلى أمر الله في قتله .
ولقد سئل - رضي الله عنهما - عن الولدان أفي الجنة هم ؟ يعني : ولدان المسلمين ، والمشركين ، فقال : حسبك ما اختصم فيه ابن عباس موسى والخضر ، وهو تفسير ما اقتصصنا من قبل من علم الله ، وحكم الناس أنهما مختلفان ، ألا ترى عائشة - رضي الله عنها - حين قالت ، لما مات صبي من الأنصار بين أبوين مسلمين : " طوبى له ، عصفور من عصافير الجنة " رد عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " مه يا عائشة ، وما يدريك ، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا . " أن
قال إسحاق : فهذا الأصل الذي يعتمد عليه أهل العلم .
قال شيخنا : وما ذكرته هذه الطائفة أن المعنى أن الله فطرهم على الكفر والإيمان ، والمعرفة ، والإنكار ، إن أرادوا به أن الله سبق في علمه وقدره أنهم سيؤمنون ، ويكفرون ، ويعرفون ، وينكرون ، وأن ذلك كان بمشيئة الله ، وقدره ، وخلقه ، فهذا حق لا يرده إلا القدرية ، وإن أرادوا أن هذه المعرفة والنكرة كانت موجودة حين أخذ الميثاق فهذا يتضمن شيئين :
[ ص: 1036 ] أحدهما : أن المعرفة كانت موجودة فيهم كما قال ذلك كثير من السلف ، وهو الذي حكى إسحاق الإجماع عليه ، فهذا إن كان حقا فهو توكيد لكونهم ولدوا على تلك المعرفة والإقرار ، وهذا لا يخالف ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة من أنهم يولدون على " الملة " ، وأن الله خلقهم حنفاء ، بل هو مؤيد لها .
وأما قوله : " إنهم في ذلك الإقرار انقسموا إلى طائع وكافر " فهذا لم ينقل عن أحد من السلف فيما أعلم إلا عن ، وفي " تفسيره " : " لما أخرج الله السدي آدم من الجنة قبل أن يهبطه من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى ، فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر ، فقال لهم : ادخلوا الجنة برحمتي ، ومسح صفحة ظهره اليسرى ، فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر ، فقال : ادخلوا النار ، ولا أبالي " وذلك قوله : ( وأصحاب اليمين ) ، : ( وأصحاب الشمال ) ، ثم أخذ منهم الميثاق ، فقال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، فأعطاه طائفة طائعين ، وطائفة كارهين على وجه التقية . فقال هو والملائكة : شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، أو يقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم " فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف الله أنه ربه ، وذلك قوله : [ ص: 1037 ] ( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ) ، وكذلك قوله : ( قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) ، يعني يوم أخذ الميثاق " .
قال شيخنا : فهذا الأثر إن كان حقا ففيه أن آدم يعرف الله ، فإذا كانوا ولدوا على هذه الفطرة فقد ولدوا على هذه المعرفة ، ولكن فيه أن بعضهم أقر كارها مع المعرفة ، فكان بمنزلة الذي يعرف الحق لغيره ولا يقر به إلا مكرها ، وهذا لا يقدح في كون المعرفة فطرية ، مع أن هذا لم يبلغنا إلا في هذا الأثر ، ومثل هذا لا يوثق به ، فإنه في تفسير كل ولد وفيه أشياء قد عرف بطلان بعضها ، وهذا هو السدي ، وهو ثقة في نفسه . السدي الكبير إسماعيل بن عبد الرحمن
[ ص: 1038 ] وأحسن أحوال هذه الأشياء أن تكون كالمراسيل إن كانت أخذت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف إذا كان فيها ما هو مأخوذ عن أهل الكتاب الذين يكذبون كثيرا ؟ وقد عرف أن فيها شيئا كثيرا مما يعلم أنه باطل ، ولو لم يكن في هذا إلا معارضته لسائر الأحاديث التي تقتضي التسوية بين جميع الناس في ذلك الإقرار لكفى .
وأما قوله : ( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ) ، فإنما هو في الإسلام الموجود بعد خلقهم ، لم يقل سبحانه : إنهم حين العهد الأول أسلموا طوعا ، وكرها ، يدل على ذلك أن ذلك الإقرار الأول جعله الله تعالى حجة عليهم عند من يثبته ، ولو كان منهم مكره لقال : لم أقل ذلك طوعا بل كرها ، فلا تقوم عليه حجة .
قلت : وكذلك قوله : " إنهم أقروا على وجه التقية " كلام باطل قطعا ، فإن التقية أن يقول العبد خلاف ما يعتقده لاتقاء مكروه يقع به لو لم يتكلم بالتقية ، وهم لم يكونوا يعتقدون أن لهم ربا غير الله حتى يقولوا تقية : " أنت ربنا " ، بل هم - في حال كفرهم الحقيقي ، وعنادهم ، وتكذيبهم للرسل - مقرون بأن الله ربهم وقد عرض لهم ما غير تلك الفطرة التي فطروا عليها ، فكانوا مع ذلك مقرين بأنه ربهم طوعا ، واختيارا ، لا تقية ، فكيف يقولون ذلك تقية في الحال التي لم يعرض لهم فيها شيء من أسباب الشرك ، ولا كان هناك شياطين تضلهم ؟ فهذا مما يعلم بطلان تفسير الآية به قطعا بلا توقف .
[ ص: 1039 ] وكذلك قوله : " فقال هو والملائكة : شهدنا " هذا خطاب قطعا ، بل هو من تمام كلامهم وأنهم قالوا : بلى شهدنا ، أي أقررنا كما قال الرسل لما أخذ عليهم الميثاق ، في قوله : ( لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا ) ، وكأن قائل هذا القول ظن أن قوله : ( أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) تعليل لقوله : ( شهدنا ) ، وذلك لا يلتئم علة له ، فقال : قوله : ( شهدنا ) ، يقول الله والملائكة ، أي شهدنا عليهم لئلا يقولوا يوم القيامة : ( إنا كنا عن هذا غافلين ) .
ولكن ذلك تعليل لأخذهم ، وإشهادهم على أنفسهم ، أي أشهدهم على أنفسهم ، فشهدوا لئلا يقولوا يوم القيامة ذلك ، ليس معنى " شهدنا " لئلا يقولوا ، ولكن أشهدهم لئلا يقولوا .
يوضحه أن شهادتهم على أنفسهم هي المانعة من قولهم ذلك يوم القيامة ، لا شهادة الله ، وملائكته عليهم ، ولهذا يجحد العبد يوم القيامة شركه وفجوره مع شهادة الله وملائكته عليه بذلك ، فيقول : لا أجيز على نفسي إلا شهادة مني ، ولا يقيم الله الحجة عليه فشهادته حين تشهد عليه نفسه وتشهد عليه جوارحه ، قال تعالى : ( اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ) ، وهذا [ ص: 1040 ] غاية العدل ، وإزالة شبه الخصوم من جميع الوجوه .
وكذلك قوله : ( قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) ، إنما معناه : لو شاء لوفقكم لتصديق رسله واتباع ما جاءوا به كما قال : ( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ) ، وقال : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ) ، وقال : ( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ) نعم ، لو شاء في تقديره السابق لقدر إيمانهم جميعا ، فجاء الأمر كما قدره .
قال شيخنا : وأما احتجاج إسحاق بقول - رضي الله عنه - اقرءوا إن شئتم : ( أبي هريرة فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) ، قال إسحاق : يقول : لا تبديل للخلقة التي جبل عليها ، فهذه الآية فيها قولان :
أحدهما : أن معناها النهي ، أي لا تبدلوا دين الله الذي فطر عليه عباده ، وهذا قول غير واحد من المفسرين لم يذكروا غيره كالثعلبي ، ، [ ص: 1041 ] واختيار والزمخشري . ابن جرير
والثاني : ما قاله إسحاق : إنها خبر على ظاهرها ، وإن خلق الله لا يبدله أحد ، وهذا أصح .
[ ص: 1042 ] وحينئذ فيقال : المراد ما خلقهم عليه من الفطرة لا تبديل له ، فلا يخلقون على غير الفطرة : لا يقع هذا قط ، والمعنى : أن الخلق لا يتبدل فيخلقوا على غير الفطرة ، ولم يرد بذلك أن الفطرة لا تتغير بعد الخلق ، بل نفس الحديث يبين أنها تتغير ، ولهذا شبهها بالبهيمة التي تولد جمعاء ثم تجدع ، ولا تولد قط بهيمة مخصية ولا مجدوعة ، وقد قال تعالى عن الشيطان : ( ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ) ، فالله تعالى أقدر الخلق على أن يغيروا ما خلقهم عليه بقدرته ومشيئته .
وأما تبديل الخلق بأن يخلقوا على غير تلك الفطرة فهذا لا يقدر عليه إلا الله ، والله لا يفعله ، كما قال : ( لا تبديل لخلق الله ) ، ولم يقل : لا تغيير ، فإن تبديل الشيء يكون بذهابه ، وحصول بدله ، فلا يكون خلق بدل هذا الخلق ، ولكن إذا غير بعد وجوده لم يكن الخلق الموجود عند الولادة قد حصل بدله .
وأما قوله : " لا تبديل للخلقة التي جبل عليها ولد آدم كلهم من كفر وإيمان " فإن عنى بها أن ما سبق به القدر من الكفر ، والإيمان لا يقع خلافه فهذا حق ، ولكن ذلك لا يقتضي أن تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس ممتنع ، ولا أنه غير مقدور ، بل العبد قادر على ما أمره الله به من الإيمان ، وعلى ترك ما نهى الله عنه من الكفر ، وعلى أن يبدل حسناته بالسيئات ، وسيئاته بالتوبة ، كما قال : ( إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم ) ، وقال : ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) ، وهذا [ ص: 1043 ] التبديل كله بقضاء الله وقدره ، وهذا بخلاف ما فطروا عليه حين الولادة ، فإن ذلك خلق الله الذي لا يقدر على تبديله غيره ، وهو سبحانه لا
[ يبدله ] قط ، بخلاف تبديل الكفر بالإيمان ، وبالعكس ، فإنه يبدله والعبد قادر على تبديله بإقدار الله له على ذلك .
ومما يبين ذلك أنه قال : ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) ، فمنهم من فسره بأنه دين الله ، ومنهم من فسره بأنه تبديل الخلقة بالخصاء ، ونحوه ، ولم يقل أحد منهم إن المراد : لا تبديل لأحوال العباد من إيمان إلى كفر ، ولا من كفر إلى إيمان إذ تبديل ذلك موجود وما وقع فهو الذي سبق به القدر ، والله عالم بما سيكون لا يقع خلاف معلومه ، لكن إذا وقع التبديل كان هو الذي علمه ، وإن لم يقع كان عالما بأنه لا يقع .
وأما الخضر طبع يوم طبع كافرا " ، فالمراد به كتب وختم ، ولفظ الطبع لما كان يستعمله كثير من الناس في الطبيعة التي هي بمعنى الجبلة والخليقة ظن الظان أن هذا مراد الحديث . قوله : " إن الغلام الذي قتله
[ ص: 1044 ] وهذا الغلام الذي قتله الخضر يحتمل أنه كان بالغا مطلقا ، وسمي " غلاما " لقرب عهده بالبلوغ ، وعلى هذا فلا إشكال فيه ، ويحتمل أن يكون مميزا عاقلا ، وإن لم يكن بالغا ، وعليه يدل الحديث ، وهو قوله : " ولو أدرك لأرهق أبويه " ، وعلى هذا فلا يمتنع أن يكون مكلفا في تلك الشريعة إذ اشتراط البلوغ في التكليف إنما علم بشريعتنا ، ولا يمتنع تكليف المراهق العاقل عقلا ، كيف وقد قال جماعة من العلماء : إن ؟ كما قالت طائفة من أصحاب المميزين يكلفون بالإيمان قبل الاحتلام أبي حنيفة ، وأحمد ، وهو اختيار أبي الخطاب ، وعليه جماعة من أهل الكلام .
وعلى هذا فيمكن أن يكون هذا الغلام مكلفا بالإيمان قبل البلوغ ، ولو لم يكن مكلفا بشرائعه ، فكفر الصبي المميز معتبر عند أكثر العلماء ، فإذا ارتد عندهم صار مرتدا له أحكام المرتدين ، وإن كان لا يقتل حتى يبلغ فيثبت عليه كفره ، واتفقوا على أنه يضرب ، ويؤدب على كفره أعظم مما يؤدب على ترك الصلاة ، فإن كان الغلام الذي قتله الخضر بالغا فلا إشكال ، وإن كان مراهقا غير بالغ فقتله جائز في تلك الشريعة لأنه قتله بأمر الله ، كيف وهو إنما قتله دفعا لصوله على أبويه في الدين ؟ كما قال : ( فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ) ، والصبي لو صال على المسلم في بدنه ، أو ماله ولم يندفع صياله للمسلم إلا بقتله جاز قتله ، بل الصبي إذا قاتل المسلمين قتل ، ولكن من أين يعلم أن هذا الصبي اليوم يصول على أبويه ، أو غيرهما في دينهما حتى يفتنهما عنه ؟ فإن هذا غيب لا سبيل لنا إلى العلم به ، ولهذا علق الفتيا به فقال ابن عباس لنجدة لما استفتاه في قتل الغلمان : [ ص: 1045 ] " إن علمت منهم ما علم الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم ، وإلا فلا " رواه مسلم في " صحيحه " .
ولكن يقال : قاعدة الشرع ، والجزاء أن الله سبحانه لا يعاقب العباد بما سيعلم أنهم يفعلونه ، بل لا يعاقبهم إلا بعد فعلهم ما يعلمون أنه نهى عنه وتقدم إليهم بالوعيد على فعله ، ، وإنما فيها علمه بأسباب تقتضي أحكامها ، ولم يعلم وليس في قصة الخضر شيء من الاطلاع على الغيب الذي لا يعلمه إلا الله موسى تلك الأسباب مثل : علمه بأن السفينة كانت لمساكين ، وأن وراءهم ملكا ظالما إن رآها أخذها فكان قلع لوح منها لتسلم جميعها ، ثم يعيده من أحسن الأحكام ، وهو من دفع أعظم الشرين باحتمال أيسرهما ، وعلى هذا ، فإذا رأى إنسان ظالما يستأصل مال مسلم غائب فدفعه عنه ببعضه كان محسنا ، ولم يلزمه ضمان ما دفعه إلى الظالم قطعا ، فإنه محسن وما على المحسنين من سبيل ، وكذلك لو رأى حيوانا مأكولا لغيره يموت ، فذكاه لكان محسنا ، ولم يلزمه ضمانه ، كذلك كون الجدار لغلامين يتيمين ، وأبوهما كان صالحا ، أمر يعلمه الناس ، ولكن خفي على موسى ، وكذلك كفر الصبي يمكن أن يعلمه الناس حتى أبواه ، ولكن لحبهما إياه لا ينكران عليه ، ولا يقبل منهما ، وإذا كان الأمر كذلك فليس في الآية حجة على أنه قتل لما يتوقع من كفره ، ولو قدر أن ذلك الغلام لم يكفر أصلا ، ولكن سبق في علم الله أنه إذا بلغ يكفر وأطلع الله الخضر على ذلك .
[ ص: 1046 ] فقد يقول القائل : قتله بالفعل كقتل نوح لأطفال الكفار بالدعوة المستجابة التي أغرقت أهل الأرض لما علم أن آباءهم لا يلدون إلا فاجرا كفارا ، فدعا عليهم بالهلاك العام دفعا لشر أطفالهم في المستقبل ، وقوله : ( ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) لا ينافي كونهم مولودين على الفطرة الصحيحة ، فإن قوله " فاجرا كفارا " حالان مقدرتان أي من سيفجر ويكفر .