[
nindex.php?page=treesubj&link=8761سبب وضع الجزية : ]
والمسألة مبنية على حرف وهو أن الجزية هل وضعت عاصمة للدم ، أو مظهرا لصغار الكفر وإذلال أهله فهي عقوبة ؟
فمن راعى فيها المعنى الأول قال : لا يلزم من عصمتها لدم من خف كفره بالنسبة إلى غيره وهم أهل الكتاب - أن تكون عاصمة لدم من
[ ص: 106 ] يغلظ كفره .
ومن راعى فيها المعنى الثاني قال : المقصود إظهار صغار الكفر وأهله وقهرهم وهذا أمر لا يختص أهل الكتاب بل يعم كل كافر .
قالوا : وقد أشار النص إلى هذا المعنى بعينه في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=29حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، فالجزية صغار وإذلال ، ولهذا كانت بمنزلة ضرب الرق .
قالوا : وإذا جاز إقرارهم بالرق على كفرهم جاز إقرارهم عليه بالجزية بالأولى ; لأن عقوبة الجزية أعظم من عقوبة الرق ؛ ولهذا يسترق من لا تجب عليه الجزية من النساء والصبيان وغيرهم .
فإن قلتم : لا يسترق عين الكتابي - كما هي إحدى الروايتين عن
أحمد - كنتم محجوجين بالسنة واتفاق الصحابة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسترق سبايا عبدة الأوثان ، ويجوز لساداتهن وطؤهن بعد انقضاء عدتهن كما في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في قصة سبايا " أوطاس " ، وكانت في آخر غزوات العرب بعد فتح
مكة أنه قال :
[ ص: 107 ] "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350254لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة " .
فجوز وطأهن بعد الاستبراء ولم يشترط الإسلام ، وأكثر ما كانت سبايا الصحابة في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - من عبدة الأوثان ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرهم على تملك السبي .
[ ص: 108 ] وقد دفع
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر الصديق إلى
nindex.php?page=showalam&ids=119سلمة بن الأكوع رضي الله عنهما امرأة من السبي نفلها إياه ، وكانت من عباد الأصنام .
وأخذ
عمر وابنه رضي الله عنهما من سبي "
هوازن " ، وكذلك غيرهما من الصحابة .
وهذه
الحنفية أم محمد بن علي من سبي
بني حنيفة . .
وفي الحديث : "
من قال كذا وكذا فكأنما أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل " ولم يكونوا أهل كتاب ، بل أكثرهم من عبدة الأوثان .
قالوا : وإذا جاز المن على الأسير وإطلاقه بغير مال ولا استرقاق فلأن يجوز إطلاقه بجزية توضع على رقبته تكون قوة للمسلمين ، أولى وأحرى ،
[ ص: 109 ] فضرب الجزية عليه إن كان عقوبة فهو أولى بالجواز من عقوبة الاسترقاق ، وإن كان عصمة فهو أولى بالجواز من عصمته بالمن عليه مجانا ، فإذا جاز إقامته بين المسلمين بغير جزية فإقامته بينهم بالجزية أجوز وأحوز ، وإلا فيكون أحسن حالا من الكتابي الذي لا يقيم بين أظهر المسلمين إلا بالجزية .
فإن قلتم : إذا مننا عليه ألحقناه بمأمنه ، ولم نمكنه من الإقامة بين المسلمين .
قيل : إذا جاز إلحاقه بمأمنه حيث يكون قوة للكفار وعونا لهم وبصدد المحاربة لنا مجانا ، فلأن يجوز هذا في مقابلة مال يؤخذ منه يكون قوة للمسلمين وإذلالا وصغارا للكفر أولى وأولى .
يوضحه أنه إذا جازت مهادنتهم للمصلحة بغير مال ولا منفعة تحصل للمسلمين ، فلأن يجوز أخذ المال منهم على وجه الذل والصغار وقوة المسلمين أولى وهذا لا خفاء به .
يوضحه أن عبدة الأوثان إذا كانوا أمة كبيرة لا تحصى
كأهل الهند وغيرهم حيث لا يمكن استئصالهم بالسيف ، فإذلالهم وقهرهم بالجزية أقرب إلى عز الإسلام وأهله وقوته من إبقائهم بغير جزية فيكونون أحسن حالا من أهل الكتاب .
وسر المسألة أن الجزية من باب العقوبات لا أنها كرامة لأهل الكتاب فلا يستحقها سواهم .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=8761من قال إن الجزية عوض عن سكنى الدار - كما يقوله أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي - فهذا القول ضعيف من وجوه كثيرة سيأتي التعرض إليها فيما
[ ص: 110 ] بعد إن شاء الله تعالى .
قالوا : ولأن القتل إنما وجب في مقابلة الحراب لا في مقابلة الكفر ولذلك لا يقتل النساء ولا الصبيان ولا الزمنى والعميان ولا الرهبان الذين لا يقاتلون بل نقاتل من حاربنا .
وهذه كانت سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أهل الأرض ؛ كان يقاتل من حاربه إلى أن يدخل في دينه أو يهادنه أو يدخل تحت قهره بالجزية ، وبهذا كان يأمر سراياه وجيوشه إذا حاربوا أعداءهم كما تقدم من حديث
بريدة ، فإذا ترك الكفار محاربة أهل الإسلام وسالموهم وبذلوا لهم الجزية عن يد وهم صاغرون كان في ذلك مصلحة لأهل الإسلام وللمشركين .
أما مصلحة أهل الإسلام فما يأخذونه من المال الذي يكون قوة للإسلام مع صغار الكفر وإذلاله ، وذلك أنفع لهم من ترك الكفار بلا جزية .
وأما مصلحة أهل الشرك فما في بقائهم من رجاء إسلامهم إذا شاهدوا أعلام الإسلام وبراهينه ، أو بلغتهم أخباره فلا بد أن يدخل في الإسلام بعضهم وهذا أحب إلى الله من قتلهم .
والمقصود إنما هو أن تكون كلمة الله هي العليا ، ويكون الدين كله لله وليس في إبقائهم بالجزية ما يناقض هذا المعنى كما أن إبقاء أهل الكتاب بالجزية بين ظهور المسلمين لا ينافي كون كلمة الله هي العليا ،
[ ص: 111 ] وكون الدين كله لله ، فإن من كون الدين كله لله إذلال الكفر وأهله وصغاره وضرب الجزية على رءوس أهله ، والرق على رقابهم فهذا من دين الله ولا يناقض هذا إلا ترك الكفار على عزهم وإقامة دينهم كما يحبون بحيث تكون لهم الشوكة والكلمة والله أعلم .
[
nindex.php?page=treesubj&link=8761سَبَبُ وَضْعِ الْجِزْيَةِ : ]
وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حَرْفٍ وَهُوَ أَنَّ الْجِزْيَةَ هَلْ وُضِعَتْ عَاصِمَةً لِلدَّمِ ، أَوْ مَظْهَرًا لِصَغَارِ الْكُفْرِ وَإِذْلَالِ أَهْلِهِ فَهِيَ عُقُوبَةٌ ؟
فَمَنْ رَاعَى فِيهَا الْمَعْنَى الْأَوَّلَ قَالَ : لَا يَلْزَمُ مِنْ عِصْمَتِهَا لِدَمِ مَنْ خَفَّ كُفْرُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ - أَنْ تَكُونَ عَاصِمَةً لِدَمِ مَنْ
[ ص: 106 ] يَغْلُظُ كُفْرُهُ .
وَمَنْ رَاعَى فِيهَا الْمَعْنَى الثَّانِيَ قَالَ : الْمَقْصُودُ إِظْهَارُ صَغَارِ الْكُفْرِ وَأَهْلِهِ وَقَهْرِهِمْ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَخْتَصُّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَلْ يَعُمُّ كُلَّ كَافِرٍ .
قَالُوا : وَقَدْ أَشَارَ النَّصُّ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=29حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ، فَالْجِزْيَةُ صَغَارٌ وَإِذْلَالٌ ، وَلِهَذَا كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ ضَرْبِ الرِّقِّ .
قَالُوا : وَإِذَا جَازَ إِقْرَارُهُمْ بِالرِّقِّ عَلَى كُفْرِهِمْ جَازَ إِقْرَارُهُمْ عَلَيْهِ بِالْجِزْيَةِ بِالْأَوْلَى ; لِأَنَّ عُقُوبَةَ الْجِزْيَةِ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ الرِّقِّ ؛ وَلِهَذَا يُسْتَرَقُّ مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ .
فَإِنْ قُلْتُمْ : لَا يُسْتَرَقُّ عَيْنُ الْكِتَابِيِّ - كَمَا هِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ
أَحْمَدَ - كُنْتُمْ مَحْجُوجِينَ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْتَرِقُّ سَبَايَا عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، وَيَجُوزُ لِسَادَاتِهِنَّ وَطْؤُهُنَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهِنَّ كَمَا فِي حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=44أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قِصَّةِ سَبَايَا " أَوْطَاسٍ " ، وَكَانَتْ فِي آخِرِ غَزَوَاتِ الْعَرَبِ بَعْدَ فَتْحِ
مَكَّةَ أَنَّهُ قَالَ :
[ ص: 107 ] "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10350254لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ " .
فَجَوَّزَ وَطْأَهُنَّ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْإِسْلَامَ ، وَأَكْثَرُ مَا كَانَتْ سَبَايَا الصَّحَابَةِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقِرُّهُمْ عَلَى تَمَلُّكِ السَّبْيِ .
[ ص: 108 ] وَقَدْ دَفَعَ
nindex.php?page=showalam&ids=1أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ إِلَى
nindex.php?page=showalam&ids=119سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا امْرَأَةً مِنَ السَّبْيِ نَفَلَهَا إِيَّاهُ ، وَكَانَتْ مِنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ .
وَأَخَذَ
عُمَرُ وَابْنُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ سَبْيِ "
هَوَازِنَ " ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ .
وَهَذِهِ
الْحَنَفِيَّةُ أُمُّ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْ سَبْيِ
بَنِي حَنِيفَةَ . .
وَفِي الْحَدِيثِ : "
مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ أَرْبَعَ رِقَابٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ " وَلَمْ يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابٍ ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ .
قَالُوا : وَإِذَا جَازَ الْمَنُّ عَلَى الْأَسِيرِ وَإِطْلَاقُهُ بِغَيْرِ مَالٍ وَلَا اسْتِرْقَاقٍ فَلَأَنْ يَجُوزَ إِطْلَاقُهُ بِجِزْيَةٍ تُوضَعُ عَلَى رَقَبَتِهِ تَكُونُ قُوَّةً لِلْمُسْلِمِينَ ، أَوْلَى وَأَحْرَى ،
[ ص: 109 ] فَضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ عُقُوبَةً فَهُوَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ عُقُوبَةِ الِاسْتِرْقَاقِ ، وَإِنْ كَانَ عِصْمَةً فَهُوَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ عِصْمَتِهِ بِالْمَنِّ عَلَيْهِ مَجَّانًا ، فَإِذَا جَازَ إِقَامَتُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ فَإِقَامَتُهُ بَيْنَهُمْ بِالْجِزْيَةِ أَجْوَزُ وَأَحْوَزُ ، وَإِلَّا فَيَكُونُ أَحْسَنَ حَالًا مِنَ الْكِتَابِيِّ الَّذِي لَا يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بِالْجِزْيَةِ .
فَإِنْ قُلْتُمْ : إِذَا مَنَنَّا عَلَيْهِ أَلْحَقْنَاهُ بِمَأْمَنِهِ ، وَلَمْ نُمَكِّنْهُ مِنَ الْإِقَامَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ .
قِيلَ : إِذَا جَازَ إِلْحَاقُهُ بِمَأْمَنِهِ حَيْثُ يَكُونُ قُوَّةً لِلْكُفَّارِ وَعَوْنًا لَهُمْ وَبِصَدَدِ الْمُحَارَبَةِ لَنَا مَجَّانًا ، فَلَأَنْ يَجُوزَ هَذَا فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ يَكُونُ قُوَّةً لِلْمُسْلِمِينَ وَإِذْلَالًا وَصَغَارًا لِلْكُفْرِ أَوْلَى وَأَوْلَى .
يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ إِذَا جَازَتْ مُهَادَنَتُهُمْ لِلْمَصْلَحَةِ بِغَيْرِ مَالٍ وَلَا مَنْفَعَةٍ تَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَلَأَنْ يَجُوزَ أَخْذُ الْمَالِ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ وَقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى وَهَذَا لَا خَفَاءَ بِهِ .
يُوَضِّحُهُ أَنَّ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ إِذَا كَانُوا أُمَّةً كَبِيرَةً لَا تُحْصَى
كَأَهْلِ الْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ اسْتِئْصَالُهُمْ بِالسَّيْفِ ، فَإِذْلَالُهُمْ وَقَهْرُهُمْ بِالْجِزْيَةِ أَقْرَبُ إِلَى عِزِّ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَقُوَّتِهِ مِنْ إِبْقَائِهِمْ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ فَيَكُونُونَ أَحْسَنَ حَالًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ .
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْجِزْيَةَ مِنْ بَابِ الْعُقُوبَاتِ لَا أَنَّهَا كَرَامَةٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ فَلَا يَسْتَحِقُّهَا سِوَاهُمْ .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=8761مَنْ قَالَ إِنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى الدَّارِ - كَمَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ - فَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ سَيَأْتِي التَّعَرُّضُ إِلَيْهَا فِيمَا
[ ص: 110 ] بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالُوا : وَلِأَنَّ الْقَتْلَ إِنَّمَا وَجَبَ فِي مُقَابَلَةِ الْحِرَابِ لَا فِي مُقَابَلَةِ الْكُفْرِ وَلِذَلِكَ لَا يُقْتَلُ النِّسَاءُ وَلَا الصِّبْيَانُ وَلَا الزَّمْنَى وَالْعُمْيَانُ وَلَا الرُّهْبَانُ الَّذِينَ لَا يُقَاتِلُونَ بَلْ نُقَاتِلُ مَنْ حَارَبَنَا .
وَهَذِهِ كَانَتْ سِيرَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَهْلِ الْأَرْضِ ؛ كَانَ يُقَاتِلُ مَنْ حَارَبَهُ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ فِي دِينِهِ أَوْ يُهَادِنَهُ أَوْ يَدْخُلَ تَحْتَ قَهْرِهِ بِالْجِزْيَةِ ، وَبِهَذَا كَانَ يَأْمُرُ سَرَايَاهُ وَجُيُوشَهُ إِذَا حَارَبُوا أَعْدَاءَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ
بُرَيْدَةَ ، فَإِذَا تَرَكَ الْكُفَّارُ مُحَارَبَةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَسَالَمُوهُمْ وَبَذَلُوا لَهُمُ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَلِلْمُشْرِكِينَ .
أَمَّا مَصْلَحَةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَمَا يَأْخُذُونَهُ مِنَ الْمَالِ الَّذِي يَكُونُ قُوَّةً لِلْإِسْلَامِ مَعَ صَغَارِ الْكُفْرِ وَإِذْلَالِهِ ، وَذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُمْ مِنْ تَرْكِ الْكُفَّارِ بِلَا جِزْيَةٍ .
وَأَمَّا مَصْلَحَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ فَمَا فِي بَقَائِهِمْ مِنْ رَجَاءِ إِسْلَامِهِمْ إِذَا شَاهَدُوا أَعْلَامَ الْإِسْلَامِ وَبَرَاهِينَهُ ، أَوْ بَلَغَتْهُمْ أَخْبَارُهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْضُهُمْ وَهَذَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِهِمْ .
وَالْمَقْصُودُ إِنَّمَا هُوَ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ، وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَلَيْسَ فِي إِبْقَائِهِمْ بِالْجِزْيَةِ مَا يُنَاقِضُ هَذَا الْمَعْنَى كَمَا أَنَّ إِبْقَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْجِزْيَةِ بَيْنَ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُنَافِي كَوْنَ كَلِمَةِ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ،
[ ص: 111 ] وَكَوْنَ الدِّينِ كُلِّهِ لِلَّهِ ، فَإِنَّ مِنْ كَوْنِ الدِّينِ كُلِّهِ لِلَّهِ إِذْلَالَ الْكُفْرِ وَأَهْلِهِ وَصَغَارَهُ وَضَرْبَ الْجِزْيَةِ عَلَى رُءُوسِ أَهْلِهِ ، وَالرِّقِّ عَلَى رِقَابِهِمْ فَهَذَا مِنْ دِينِ اللَّهِ وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا إِلَّا تَرْكُ الْكُفَّارِ عَلَى عِزِّهِمْ وَإِقَامَةِ دِينِهِمْ كَمَا يُحِبُّونَ بِحَيْثُ تَكُونُ لَهُمُ الشَّوْكَةُ وَالْكَلِمَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .