اعلم أن هذا الخبر يتضمن اليدين وإثبات اليمين، وقد تقدم ذكر ذلك، وبينا أنه ليس في إطلاق ذلك ما يحيل صفاته، لأن إطلاق اليمين كإطلاق اليد.
فإن قيل: قوله: "عن يمين الرحمن" معناه عن يمين عرش الرحمن على طريقة العرب في الحذف والإضمار، كما قال تعالى: ( وأشربوا في قلوبهم العجل ) معناه حب العجل، وكما قال الشاعر:
واستب بعدك يا كليب المجلس
يعني أهل المجلس، قيل: هذا غلط لوجوه، أحدها: قوله: "وكلتا يديه يمين" وهذا يدل على أن ذلك صفة ترجع إلى ذاته لأن العرش لا يوصف باليدين.
الثاني: أن اليمين إذا أضيفت إلى الذات اقتضت إضافة صفة، ولهذا إذا قيل: وقف الوزير على يمين الخليفة إنما يعقل منه يمينه التي هي من صفته.
الثالث: أن حمله على ذلك يقتضي إضمارا في الخبر، وهو ذكر العرش والإضمار ترك حقيقة.
فإن قيل: قوله: "عن يمين الرحمن" المراد به المنزلة الرفيعة والمحل العظيم، لأنهم يقولون: كان فلان عندنا باليمين، أي كان عندنا بالمحل العظيم والمنزلة الرفيعة، قال الشاعر:
أقول لناقتي إذ بلغتني لقد أصبحت عندي باليمين
أي بالمحل الجليل، قيل: هذا غلط لأنه لو أراد ذلك لقال: المقسطون في يمين الرحمن، معناه في المنزلة الرفيعة لأنه يقال: فلان عندنا في المنزلة الرفيعة، ولأنه قال: "وكلتا يديه يمين" فلو كان المراد به المنزلة لم يكن لذكر اليد معنى.
فإن قيل: حمله على ظاهره يستحيل على الله سبحانه لأنه يؤدي إلى وصفه بالحد والجهة، قيل: لا يفضي إلى ذلك، كما أن قوله: حملناه على ظاهره، وإن كنا نعلم أن رؤية القمر في جهة ومحدودة، والله تعالى لا في جهة ولا محدود، وكذلك قوله: ( "ترون ربكم كما ترون القمر" ثم استوى على العرش ) تطلق هذه الصفة وإن كان العرش في جهة، ولم يوجب ذلك وصفه تعالى بالجهة، كذلك هاهنا.
"حديث آخر"