يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا قوله تعالى :
قرأ الجمهور : نصوحا بفتح النون ، وقرأ عن أبو بكر عاصم بضمها ، قال من فتح فعلى صفة التوبة ، والمعنى توبة بالغة في النصح ، وفعول من أسماء الفاعلين التي تستعمل للمبالغة في الوصف ، يقال رجل صبور وشكور ، ومن قرأ بالضم فمعناه ينصحون بها نصوحا يقال : نصحت له نصحا ونصاحة ونصوحا . الزجاج :
[ ص: 296 ] قال عمر بن الخطاب : أن يتوب العبد من الذنب وهو يحدث نفسه أن لا يعود . التوبة النصوح
وسئل عن التوبة النصوح فقال : ندم بالقلب ، واستغفار باللسان ، وترك بالجوارح ، وإضمار أن لا يعود . الحسن البصري
وقال التوبة النصوح تكفر كل سيئة ، ثم قرأ هذه الآية . ابن مسعود :
اعلم أن التائب الصادق كلما اشتد ندمه زاد مقته لنفسه على قبح زلته ، فمنهم من قوي مقته لها ورأى تعريضها للقتل مباحا في بعض الأحوال فعرضها له ، كما فعل ماعز والغامدية .
أخبرنا ابن عبد الواحد ، أنبأنا أخبرنا الحسن بن علي ، حدثنا أحمد بن جعفر ، حدثني أبي ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبو نعيم ، بشير بن المهاجر ، عن عن أبيه قال : عبد الله بن بريدة ، كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل يقال له ماعز بن مالك فقال : يا نبي الله إني قد زنيت وأنا أريد أن تطهرني فطهرني ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ارجع ، فلما كان من الغد أتاه أيضا فاعترف عنده بالزنا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ارجع ، ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومه فسألهم عنه فقال : ما تعلمون من ماعز بن مالك الأسلمي ؟ هل ترون به بأسا وما تنكرون من عقله شيئا ؟ قالوا : يا نبي الله ما نرى به بأسا ولا ننكر من عقله شيئا ، ثم عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم الثالثة فاعترف عنده بالزنا وقال : يا نبي الله طهرني ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومه أيضا فسألهم عنه فقالوا له كما قالوا في المرة الأولى : ما نرى به بأسا وما ننكر من عقله شيئا ، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرابعة فاعترف عنده بالزنا ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فحفر له حفيرة فجعل فيها إلى صدره ثم أمر الناس أن يرجموه .
قال بريدة : غامد فقالت : يا نبي الله ، إني قد زنيت وإني أريد أن تطهرني ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : ارجعي ، فلما كانت من الغد أتته أيضا فاعترفت عنده بالزنا فقال لها : ارجعي ، فلما أن كان من الغد أتته فاعترفت عنده بالزنا وقالت : يا نبي الله طهرني ، فلعلك أن تردني كما رددت ماعز بن مالك فوالله إني لحبلى من الزنا ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : ارجعي حتى تلدي ، فلما ولدت جاءت بالصبي تحمله فقالت : يا نبي الله ، هذا قد ولدت ، قال : فاذهبي حتى تفطميه ، فلما فطمته جاءت بالصبي في يده كسرة خبز فقالت : يا نبي الله ، هذا قد فطمته ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبي [ ص: 297 ] فدفع إلى رجل من المسلمين وأمر بها فحفر لها حفيرة فجعلت فيها إلى صدرها ، ثم أمر الناس أن يرجموها ، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضح الدم على وجه خالد فسبها ، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم سبه إياها فقال : مهلا يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ، ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت . وكنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من
انفرد بإخراج الحديثين مسلم .
وقد أخرج في بعض الطرق أن ماعزا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : طهرني ، فقال له : ويحك ارجع فاستغفر الله وثب إليه . فرجع غير بعيد ثم جاء فقال : يا رسول الله طهرني فقال : ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه . فرجع ثم جاء فقال : طهرني ، حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : مم أطهرك ؟ قال : من الزنا ، فلما رجمه قال : " لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم " .
فانظر إلى مقت هؤلاء أنفسهم حتى أسلموها إلى الهلاك غضبا عليها لما فعلت .
ومن التائبين من لم يجز له التعريض بقتلها ، فكان ينغص عيشها .
قال بعض السلف : رأيت ضيغما العابد قد أخذ كوزا من ماء بارد فصبه في الجب واكتال غيره ، فقلت له في ذلك فقال : نظرت نظرة وأنا شاب فجعلت على نفسي ألا أذيقها الماء البارد ، أنغص عليها أيام الحياة .
يا نادما على الذنوب أين أثر ندمك ، أين بكاؤك على زلة قدمك ، أين حذرك من أليم العقاب ، أين قلقك من خوف العتاب ، أتعتقد أن التوبة قول باللسان ، إنما التوبة نار تحرق الإنسان ، جرد قلبك من الأقذار ، ثم ألبسه الاعتذار ، ثم حله حلة الانكسار ، ثم أقمه على باب الدار .
لهج بعض العباد بالبكاء ، فعوتب على كثرته فقال :
بكيت على الذنوب لعظم جرمي وحق لكل من يعصي البكاء فلو أن البكاء يرد همي
لأسعدت الدموع معا دمائي
يا هذا اكتب قصة الرجوع بقلم النزوع بمداد الدموع ، واسع بها على قدم الخضوع [ ص: 298 ] إلى باب الخشوع ، وأتبعها بالعطش والجوع ، وسل رفعها فرب سؤال مسموع ، كم هتك ستر من فعل خطيئة قد فعلتها وسترت ، فابك على كثرة الذنب أو على قلة الشكر .
لئن جل ذنبي وارتكبت المآثما وأصبحت في بحر الخطيئة عائما
أجرر ذيلي في متابعة الهوى لأقضي أوطار البطالة هائما
فها أنا ذا يا رب أقررت بالذي جنيت على نفسي وأصبحت نادما
أجل ذنوبي عند عفوك سيدي حقير وإن كانت ذنوبي عظائما
ذنبي إليك عظيم وأنت للعفو أهل
فإن عفوت بفضل وإن أخذت فعدل
علي دين ثقيل أنت قاضيه يا من يحملني ذنبي رجائيه
الحال مرهقة والنفس مشفقة من دائها المتمادي أو تداويه
برني معروفكم قبل أبي وغذاني بركم قبل اللبن
وإذا أنتم وأنتم أنتم لم تولوني وتولوني فمن
وا أسفا لمن ذهب عمره في الخلاف ، وصار قلبه بالخطايا في غلاف ، لما سترت عن التائبين العواقب فزعوا إلى البكاء واستراحوا إلى الأحزان ، كانوا يتزاورون فلا تجري في خلوة الزيارة إلا دموع الحذر .
باحت بسري في الهوى أدمعي ودلت الواشي على موضعي
يا قوم إن كنتم على مذهبي في الوجد والحزن فنوحوا معي
يحق لي أبكي على زلتي فلا تلوموني على أدمعي
قد تناهت في بلائي حيلتي وبلائي كله من قبلي
كلما قلت تجلت غمتي عدت في ثانية لا تنجلي
لعبت بي شهواتي وانقضت لي حياتي في غرور الأمل
وأحلت بي ذنوبي سقما كيف بالبرء منه كيف لي
قد رمتني سيئاتي والهوى بسهام فأصابت مقتلي
وأتى شيبي وحالي كالذي كنت فيه في الزمان الأول
مطعمه يسير ، وحزنه كثير ، ومزعجه مثير ، فكأنه أسير قد رمي مجروحا ، أنحل بدنه الصيام ، وأتعب قدمه القيام ، وحلف بالعزم على هجر المنام ، فبذل جسدا وروحا توبوا إلى الله توبة نصوحا .
الذل قد علاه والحزن قد وهاه ، يذم نفسه على هواه ، وبهذا صار ممدوحا .
أين من يبكي جنايات الشباب التي بها اسود الكتاب ، أين من يأتي إلى الباب يجد الباب مفتوحا توبوا إلى الله توبة نصوحا والحمد لله وحده .