تتجافى أي ترتفع ، والآية في قوام الليل .
أخبرنا بسنده ، عن هبة الله بن محمد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : معاذ بن جبل تتجافى جنوبهم عن المضاجع قال : قيام العبد من الليل .
قال : وحدثنا أحمد بسنده ، عن علي بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي سعيد الخدري . " ثلاثة يضحك الله إليهم : رجل يقوم من الليل ، والقوم قد صفوا للصلاة ، والقوم إذا صفوا للقتال "
قال : وحدثنا أحمد روح وعفان ، قال : أنبأنا ، قال : أخبرنا حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب مرة ، عن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ابن مسعود . " عجب ربنا من رجلين : رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته ، فيقول ربنا : يا ملائكتي انظروا إلى عبدي ثار من فراشه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته ، رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي . ورجل غزا في سبيل الله عز وجل فانهزم ، فعلم ما عليه في الفرار وما له الرجوع ، فرجع حتى أهريق دمه ، فيقول الله عز وجل : انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي ورهبة مما عندي حتى أهريق دمه "
وروى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أبو أمامة . " عليكم بقيام الليل ، فإنه دأب الصالحين قبلكم ، وهو قربة إلى ربكم ، ومغفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم "
وقال : لم أجد من العبادة شيئا أشد من الصلاة في جوف هذا الليل . الحسن البصري
وقال رضي الله عنه : فينا نزلت معاشر الأنصار : أنس بن مالك تتجافى جنوبهم عن المضاجع كنا نصلي المغرب ، فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 653 ] واعلم أن السلف كانوا في : قيام الليل على سبع طبقات
الطبقة الأولى : كانوا يحيون كل الليل ، وفيهم من كان يصلي الصبح بوضوء العشاء ، وكان يحيي الليل . ومن القوم ابن عمر ، سعيد بن المسيب المدنيان ، وصفوان بن سليم ، وفضيل بن عياض ووهيب ابن الورد المكيان ، وطاووس اليمنيان ، ووهب بن منبه والربيع بن خثيم ، والحكم الكوفيان ، وأبو سليمان الداراني وعلي بن بكار الشاميان ، وأبو عبيد الله الخواص ، البغداديان ، وأبو عاصم ، ومنصور بن زاذان وهشيم الواسطيان ، وحبيب أبو محمد ، وأبو جابر السلماني الفارسيان ، ، ومالك بن دينار ، وسليمان التيمي ويزيد الرقاشي ، ، وحبيب بن أبي ثابت ويحيى البكاء البصريون .
الطبقة الثانية : كانوا يقومون شطر الليل ، منهم ، قال عبد الله بن عباس : صحبته ، وكان يقوم شطر الليل ، يكثر في ذلك والله التسبيح . ابن أبي مليكة
الطبقة الثالثة : كانوا يقومون ثلث الليل ، وفي الصحيحين من حديث ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : عبد الله بن عمر داود ، كان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه " . " أحب الصلاة إلى الله عز وجل صلاة
وفي حديث ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : عمرو بن عبسة " أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر " ، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله عز وجل في تلك الساعة فكن .
وروي أن داود عليه السلام قال : يا رب أي ساعة أقوم لك ؟ فأوحى الله عز وجل إليه : لا تقم أول الليل ولا آخره ، ولكن قم في وسط الليل حتى تخلو بي وأخلو بك وارفع إلي حوائجك .
وسأل داود عليه السلام ، جبريل عليه السلام : أي الليل أفضل ؟ فقال : ما أدري ، إلا أن العرش يهتز في السحر .
الطبقة الرابعة : كانوا يقومون سدس الليل أو خمسه .
الطبقة الخامسة : كانوا لا يراعون التقدير ، وإنما كان أحدهم يقوم إلى أن يغلبه النوم فينام ، فإذا انتبه قام . قال : إنما هي أول نومة فإذا انتبهت فلا أقيلها . سفيان الثوري
[ ص: 654 ] الطبقة السادسة : قوم كانوا يصلون من الليل أربع ركعات أو ركعتين ، وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : . " صلوا من الليل ولو أربعا صلوا ولو ركعتين "
وفي حديث رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أبي هريرة . " من استيقظ من الليل ، وأيقظ امرأته فصليا جميعا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات "
الطبقة السابعة : قوم يحيون ما بين العشاءين ، ويصلون في السحر فيجمعون بين الطرفين .
وفي أفراد من حديث مسلم جابر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : . " إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا آتاه إياه وذلك كل ليلة "
ومن أراد قيام الليل فلا يكثر من الأكل والشرب ولا يتعب أعضاءه في النهار بالكد ، ولا يعمل معصية ، وليستعن بالقيلولة .
وأما آداب الباطن : فأن يكون القلب سليما للمسلمين ، ولا بد له من خوف مقلق ، أو شوق مزعج .
كان إذا أوى إلى فراشه ، كأنه حبة على مقلى ، ثم يقول : اللهم إن جهنم لا تدعني أنام ، فيقوم إلى مصلاه . شداد بن أوس
وكان يفرش فراشه ، ثم يضطجع فيتقلى كما تتقلى الحبة على المقلى ، ثم يثب فيتطهر ، ويستقبل القبلة حتى الصباح ، ويقول : طير ذكر جهنم نوم العابدين ! طاووس
وقالت بنت الربيع بن خثيم له : يا أبت ما لي أرى الناس ينامون ، ولا أراك تنام ؟ فقال : يا بنية إن أباك يخاف البيات .
وقالت أم عمر بن المنكدر : يا بني أشتهي أن أراك نائما . فقال : يا أماه والله إن الليل ليرد علي فيهولني فينقضي عني ، وما قضيت منه إربي .
وكان زمعة العابد يقوم فيصلي ليلا طويلا ، فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته : يا أيها الركب المعرسون أكل هذا الليل ترقدون ؟ ألا تقومون فترحلون .
فيسمع من ههنا باك ، ومن ههنا داع ، ومن ههنا متوضئ ؟ فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته ، يقول : عند الصباح يحمد القوم السرى .
أخبرنا أبو بكر بن حبيب بسنده ، عن ، قال : دخلت على أحمد بن أبي الحواري أبي [ ص: 655 ] سليمان وهو يبكي ، فقلت له : ما يبكيك ؟ فقال لي : يا ولم لا أبكي ، وإذا جن الليل ونامت العيون وخلا كل حبيب بحبيبه ، وافترش أهل المحبة أقدامهم ، وجرت دموعهم على خدودهم وقطرت في محاريبهم ، أشرف الجليل سبحانه وتعالى فنادى أحمد جبريل : بعيني من تلدذ بكلامي ، فلم لا تنادي فيهم : ما هذا البكاء ؟ هل رأيتم حبيبا يعذب أحبابه ؟ ! أم كيف يجمل بي أن أعذب قوما إذا جنهم الليل تملقوني ؟ فبي حلفت إذا وردوا علي في القيامة لأكشفن لهم عن وجهي الكريم حتى ينظروا إلي ، وأنظر إليهم .
وقال أيضا : سمعت أحمد بن أبي الحواري أبا سليمان ، يقول : بينا أنا ساجد ذهب بي النوم ، فإذا أنا بحوراء قد ركضتني برجلها ، وقالت : حبيبي أترقد والملك يقظان ينظر في المتهجدين في تهجدهم ! بؤسا لعين آثرت لذة نومة على لذة مناجاة العزيز ، قم فقد دنا الفراغ ، ولقي المحبون بعضهم بعضا فما هذا الرقاد حبيبي وقرة عيني ؟ أترقد عيناك وأنا أربى لك في الخدور ؟ فوثبت فزعا وقد عرقت استحياء من توبيخها إياي ، وإن حلاوة منطقها لفي سمعي وقلبي .
وكان رضي الله عنه لقصر أمله يوتر أول الليل ، أبو بكر لتأميل الخدمة يؤخره إلى آخر الليل ، وعمر وعثمان يتهجد في آناء الليل ، وعلي يستغفر في أواخر الليل .
قام القوم على أقدام قم الليل فبان في القوم سر وتقلبك في الساجدين لولا قيام تلك الأقدام ما كان يؤدى حق " هل من سائل " يا غافلين عما نالوا ، لقد ملتم عن التقى وما مالوا ، قاموا في غفلات الراقدين فقوبلوا بجزاء لم يطلع عليه الغير غيرة لهم .
ما أطيب أملهم في المناجاة ، ما أقربهم من طريق النجاة ، ما أقل ما تعبوا ، وما أيسر ما نصبوا ، وما كان إلا القليل ثم نالوا ما طلبوا ، لو ذاق الغافل شراب أنسهم في الظلام أو سمع الجاهل صوت حنينهم في القيام ، وقد نصبوا لما انتصبوا له الأقدام ، وترنموا بأشرف الذكر وأحلى الكلام ، وضربوا على شواطئ أنهار الصدق الخيام ، وركزوا على باب اليقين بالحق الأعلام ، وزموا مطايا الشوق إلى دار السلام ، وسارت جنود حبهم ، والناس في الغفلة نيام ، وشكوا في الأسحار ما يلقون من وقع الغرام ، ووجدوا من لذة الليل ما لا يخطر على الأوهام ، وإذا أسفر النهار تلقوه بالصيام وصابروا الهواجر بهجر الشراب وترك الطعام ، وتدرعوا دروع التقى خوفا من الزلل والآثام ، فنورهم يخجل شمس الضحى [ ص: 656 ] ويزري بدر التمام ، فلأجلهم تنبت الأرض ، ومن جراهم يجري الغمام ، وبهم يسامح الخطاؤون ، ويصفح عن أهل الإجرام ، فإذا نازلهم الموت طاب لهم كأس الحمام ، وإذا دفنوا في الأرض فخرت بحفظها تلك العظام ، فعلى الدنيا إذا ماتوا من بعدهم السلام .
تتجافى جنوبهم عن لذيد المضاجع كلهم بين خائف
مستجير وطامع تركوا لذة الكرى
للعيون الهواجع ورعوا أنجم الدجى
طالعا بعد طالع واستهلت دموعهم
بانصباب المدامع فأجيبوا إجابة
لم تقع في المسامع ليس ما تصنعونه
أو ليأتي بضائع تاجروني بطاعتي
تربحوا في البضائع وابذلوا لي نفوسكم
إنها في ودائعي
يا لذة خلوتهم بالحبيب ، يا وفور نصيبهم من ذلك النصيب .
هبت رياح وصالهم سحرا لحدائق الأشواق في قلبي
واهتز عود الوصل من طرب وتساقطت ثمر من الحب
ومضت خيول الهجر سادرة مطرودة بعساكر القرب
وبدت شموس الوصل خارقة بشعاعها لسرداق الحجب
وصفا لنا وقت أضاء به وجه الرضا عن ظلمة العتب
وبقيت ما شيء أشاهده إلا ظننت بأنه حبي
السجع على قوله تعالى : تتجافى جنوبهم عن المضاجع
لو رأيتهم بين ساجد وراكع ، وذليل مخمول متواضع ، ومنكسر الطرف من الخوف خاشع ، فإذا جن الليل حن الجازع تتجافى جنوبهم عن المضاجع .
نفوسهم بالمحبة علقت ، وقلوبهم بالأشواق فلقت ، وأبدانهم للخدمة خلقت ، يقومون إذا انطبقت أجفان الهاجع : تتجافى جنوبهم عن المضاجع .
[ ص: 657 ] يبادرون بالعمل الأجل ، ويجتهدون في سد الخلل ، ويعتذرون من ماضي الزلل ، والدمع لهم شافع تتجافى جنوبهم عن المضاجع .
سبق والله القوم ، بكثرة الصلاة والصوم ، فإذا أقبل الليل حاربوا النوم والعزم في الطوالع تتجافى جنوبهم عن المضاجع
ينادي منادي تائبهم : لا أعود ، والمنعم ينعم بالقبول ويجود ، هم والله من السكون المقصود ، فما حيلة المطرود والمعطي مانع تتجافى جنوبهم عن المضاجع .
كن يا هذا رفيقهم ، ولج وإن شق مضيقهم ، واسلك ولو يوما طريقهم ، فالطريق واسع تتجافى جنوبهم عن المضاجع .
اهجر بالنهار طيب الطعام ، ودع في الدجى لذيذ المنام ، وقل لأغراض النفس : سلام ، والله يدعو إلى دار السلام ، فما يقعد السامع تتجافى جنوبهم عن المضاجع .
يا من يرجو مقام الصالحين ، وهو مقيم مع الغافلين ، ويأمل منازل المقربين ، وهو ينزل مع المذنبين ، دع هذا الواقع ، الصدق الصدق فيه تسلم ، الجد الجد فيه تغنم ، البدار ، البدار قبل أن تندم ، هذا هو الدواء النافع تتجافى جنوبهم عن المضاجع والله أعلم .
[ ص: 658 ]