في محمد صلى الله عليه وسلم فضل أمة
الحمد لله خالق الجامد والحساس ، ومبدع الأنواع والأجناس ، القوي في سلطانه الشديد الباس ، المنزه عن السنة والنعاس ، المخرج رطب الثمار من يابس الأغراس ، نفذ قضاؤه فلم يمتنع بأحراس ، وقهر عزه كل صعب المراس لا يعزب عن سمعه حركات الأضراس ، ولا دبيب ذر بالليل ، في مطاوي قرطاس ، نفذت مشيئته فكم مجتهد عاد بالياس ، يفعل ما يريد لا بمقتضى تدبير الخلق والقياس ، قدم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم عن كل نبي دبر وساس ، فسبحان من أجزل له العطا ، وجعله خير نبي حارب وسطا ، وقال لأمته : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس .
أحمده حمدا يدوم بدوام اللحظات والأنفاس ، وأصلي على رسوله محمد الذي شرعه مستقر ثابت الأساس ، وعلى صاحبه الثابت العزم وقد ارتد الناس ، وعلى أبي بكر قاهر الجبابرة الأشواس ، وعلى عمر الصابر يوم الشهادة على مرير الكاس ، وعلى عثمان أهدى الجماعة إلى نص أو قياس ، وعلى عمه وصنو أبيه علي العباس .
قال الله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا الكاف في قوله : وكذلك كاف التشبيه ، فالكلام معطوف على قوله تعالى : ولقد اصطفيناه في الدنيا والتقدير : فكما اخترنا إبراهيم وذريته واصطفيناهم : كذلك جعلناكم أمة وسطا أي عدولا خيارا . ومثله : قال أوسطهم أي خيرهم وأعدلهم .
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
وأصل هذا أن خير الأشياء أوساطها وأن الغلو والتقصير مذمومان.
لتكونوا شهداء على الناس وفيه قولان : أحدهما لتكونوا شهداء يوم القيامة للأنبياء على أممهم بأنهم قد بلغوا .
أخبرنا أنبأنا ابن الحصين ، أخبرنا ابن المذهب ، حدثنا أحمد بن جعفر ، حدثني عبد الله بن أحمد ، حدثنا أبي ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، أبي صالح ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يدعى أبي سعيد الخدري ، نوح عليه السلام يوم القيامة فيقال له : هل [ ص: 396 ] بلغت ؟ فيقول : نعم . فيدعى قومه فيقال لهم : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير . فيقال لنوح : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته . فذلك قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا . قال : الوسط : العدل . قال : فتدعون فتشهدون له بالبلاغ . قال : « ثم أشهد عليكم » . عن
قال وحدثنا أحمد : عن أبو معاوية ، عن الأعمش ، أبي صالح ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان وأكثر من ذلك ، فيدعى قومه فيقال لهم : هل بلغكم هذا ؟ فيقولون : لا . فيقال له : هل بلغت قومك ؟ فيقول : نعم . فيقال له : من يشهد لك ؟ فيقول : أبي سعيد محمد وأمته . فيدعى محمد وأمته . فيقال لهم : هل بلغ هذا قومه ؟ فيقولون : نعم . فيقال : وما علمكم ؟ فيقولون : جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا . قال : فذلك قوله عز وجل : وكذلك جعلناكم أمة وسطا قال : يقول : عدلا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا . عن
القول الثاني : لتكونوا شهداء لمحمد على الأمم اليهود والنصارى والمجوس ، ويكون الرسول شهيدا عليكم بأعمالكم . قاله مجاهد .
واعلم أنه كما فضل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء فضلت أمتنا على سائر الأمم .
أخبرنا أنبأنا هبة الله بن محمد ، أنبأنا الحسين بن علي ، حدثنا أحمد بن جعفر ، حدثني عبد الله بن أحمد ، حدثنا أبي ، حدثنا عبد الرزاق ، معمر ، عن همام بن منبه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له ، فهم لنا فيه تبع ، فاليوم لنا ولليهود غدا وللنصارى بعد غد " . أبو هريرة ، حدثنا
قال وحدثنا أحمد : يحيى ، عن حدثنا شعبة ، عن أبو إسحاق ، عمرو بن ميمون ، قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء نحوا من أربعين فقال : أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة . قلنا نعم . قال : أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ قلنا : نعم . قال : فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا [ ص: 397 ] نفس مسلمة ، وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد ثور أسود أو السوداء في جلد ثور أحمر " . عبد الله عن
قال وحدثنا أحمد : إسماعيل ، أنبأنا أيوب ، عن نافع ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال : من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط ؟ ألا فعملت اليهود . ثم قال : من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط ؟ ألا فعملت النصارى . ثم قال : من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين ؟ ألا فأنتم الذين عملتم . فغضب اليهود والنصارى فقالوا : نحن كنا أكثر عملا وأقل عطاء . قال : هل ظلمتكم من حقكم شيئا ؟ قالوا : لا . قال : إنما هو فضلي أوتيه من أشاء " . ابن عمر ، عن
واعلم أن فضيلة هذه الأمة على الأمم المتقدمة وإن كان ذلك باختيار الحق لها وتقديمه إياها إلا أنه جعل لذلك سببا ، كما جعل سبب سجود الملائكة لآدم علمه بما جهلوا ، فكذلك جعل لتقديم هذه الأمة سببا هو الفطنة والفهم واليقين وتسليم النفوس .
واعتبر حالهم بمن قبلهم : فإن قوم موسى رأوا قدرة الخالق في شق البحر ثم قالوا : اجعل لنا إلها . ثم مال كثير منهم إلى عبادة العجل . وعرضت لهم غزاة فقالوا : فاذهب أنت وربك فقاتلا ولم يقبلوا التوراة حتى نتق عليهم الجبل . ولما اختار سبعين منهم فوقع في نفوسهم ما أوجب تزلزل الجبل بهم .
ولهذا لما صعد نبينا صلى الله عليه وسلم إلى حراء في جماعة من أصحابه تزلزل الجبل فقال : " اسكن فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد " . فكأنه أشار إلى أنه ليس عليك من يشك كقوم موسى .
ومن تأمل حال بني إسرائيل رآهم قد أمروا بقول حطة فقالوا : " حنطة " وقيل لهم : وادخلوا الباب سجدا فدخلوا زحفا . وقالوا عن نبيهم : هو آدر . ومن مذهبهم التشبيه والتجسيم وهذا من أعظم التغفيل ، لأن الجسم مؤلف ، ولا بد للمؤلف من مؤلف .
ومن غفلة النصارى : اعتقادهم أن الله تعالى جوهر والجوهر يتماثل ، ولا مثل للخالق . ثم يقولون : عيسى ابنه وقد علم أن الابن بعض ، والخالق سبحانه لا يتجزأ فلا [ ص: 398 ] يتبعض . ثم قد علموا أن عيسى لا يقوم إلا بالطعام ، والإله من قامت به الأشياء لا من قام بها .
وقد عرف يقين أمتنا وبذلهم أنفسهم في الحروب وطاعة الرسول ، وحفظهم للقرآن ، وأولئك كانوا لا يحفظون كتابهم ، فلهذا فضلوا .
فهم أول أمة يدخلون الجنة . وقد قال عليه السلام : " أهل الجنة مائة وعشرون صفا ، أمتي منهم ثمانون صفا " .
أخبرنا أنبأنا ابن الحصين ، أنبأنا ابن المذهب ، حدثنا أحمد بن جعفر ، حدثني عبد الله بن أحمد ، حدثنا أبي ، يزيد ، حدثنا بهز بن حكيم بن معاوية ، عن أبيه عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ألا إنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى " .
فالحمد لله الذي أعطانا بجوده وفضله ما لسنا من أهله .