إنما رحل الحسين إلى القوم لأنه رأى الشريعة قد رفضت ، فجد في رفع قواعد أصلها الجد صلى الله عليه وسلم ، فلما حضروه حصروه فقال : دعوني أرجع . فقالوا : لا ، انزل على حكم ابن زياد . فاختار القتل على الذل ، وهكذا النفوس الأبية .
تأبى الدناءة لي نفس نفاستها تسعى لغير الرضا بالري والشبع فلاكتساب العلا حلي ومرتحلي
وفي حمى المجد مصطافي ومرتبعي لي همة ما أظن اللحظ يدركها
إلا وقد جاوزت في كل ممتنع لا صاحبتني نفس إن هممت بأن
أرمي بها لهوات الموت لم تطع
ولقد تبع طريق الحسين فإن عبد الله بن الزبير ، الحجاج عرض عليه الأمان فقال : والله لضربة بسيف في عز أحب إلي من حياة في ذل ! وكان يحاربهم وينشد :
اصبر عصام إنه شبراق قد سن أصحابك ضرب الأعناق
وقامت الحرب بنا على ساق
فقيل له : قد لحق فلان وفلان بالحجاج . فأنشد :
فرت سلامان وفرت النمر قد تتلاقى معهم فلا نفر
وكانوا يرمون بالحجارة فيقال له : ما تأمن أن يصيبك حجر ؟ فيقول :
هون عليك فإن الأمور بكف الإله مقاديرها
فليس بآتيك منهيها ولا قاصر عنك مأمورها
[ ص: 419 ] ولبس درعا وجاء يودع أمه فقالت : ما هذا الدرع ؟ فقال : والله ما لبسته إلا لأقوي نفسك ! أسماء
فإني ليغنيني عن السيف عزمتي فهل فيه ما يغنيه عن كف ضارب
إذا عرض الدنيا ألان صلابها شمخت بأنفي عنه وازور جانبي
فلا تنتسب إلا إلى بعد همة ولا تكتسب إلا بحر المقانب
فإن دنيات السجايا إذا هوى بها المرء لم ينفعه عز المناصب
لله در هذه الأنفس فما أعزها وهذه الهمم فما أرفعها !
ولما رأوا بعض الحياة مذلة عليهم وعز الموت غير محرم
أبوا أن يذوقوا العيش والذم واقع عليه وماتوا ميتة لم تذمم
ولا عجب للأسد إن ظفرت بها كلاب الأعادي من فصيح وأعجم
فحربة وحشي سقت حمزة الردى وحتف في حسام علي ابن ملجم
أخبرنا علي بن عبيد الله ، أخبرنا علي بن أحمد السري ، أنبأنا عبد الله بن بطة ، حدثنا أبو حامد محمد بن هارون الحضرمي ، حدثنا هلال بن بشر ، حدثنا عبد الملك بن موسى عن هلال بن ذكوان ، قال لما قتل الحسين مطرنا مطرا بقي أثره في ثيابنا مثل الدم .
قلت : لما كان الغضبان يحمر وجهه فيتبين بالحمرة تأثير غضبه ، والحق سبحانه ليس بجسم ، أظهر تأثير غضبه بحمرة الأفق حين قتل الحسين .
وبالإسناد قال ابن بطة : وحدثنا حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ، عن سليمان بن حرب ، عن حماد بن زيد ، عن هشام ، قال : لم تر هذه الحمرة في السماء حتى قتل محمد بن سيرين ، الحسين .
قال ابن بطة : وحدثنا أبو ذر الباغندي ، حدثنا حماد بن الحسين الوراق ، قال : سمعت علي ابن أخي شعيب بن حرب يقول : ناحت الجن على فقالت جنية : الحسين بن علي
جاءت نساء الحي يبكين شجيات ويلطمن خدودا كالدنانير نقيات
ويلبسن ثياب السود بعد القصبيات
وروينا في حديث أنه حفظ من قول الجن :
مسح النبي جبينه فله بريق في الخدود
أبواه من عليا قريش وجده خير الجدود
وقال جني آخر :
أبكي قتيلا بكربلاء مضرج الجسم بالدماء
أبكي قتيلا بكى عليه حزنا بنو الأرض والسماء
[ ص: 420 ] أبكي قتيل الطغاة ظلما بغير جرم سوى الوفاء
هتك أهلوه فاستحلوا ما حرم الله في الإماء
يا بأبي جسمه المعرى إلا من الدين والحياء
كل الرزايا لها عزاء وما لذا الرزء من عزاء
وروينا أن صخرة وجدت قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث مائة سنة وعليها مكتوب باليونانية :
أيرجو معشر قتلوا حسينا شفاعة جده يوم الحساب
ويح قاتل الحسين ! كيف حاله مع أبويه وجده !
لا بد أن ترد القيامة فاطم وقميصها بدم الحسين ملطخ
ويل لمن شفعاؤه خصماؤه والصور في يوم القيامة ينفخ
إخواني : بالله عليكم من قبح على يوسف بأي وجه يلقى يعقوب !
لما أسر يوم بدر سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنينه فما نام ، فكيف لو سمع أنين العباس الحسين ؟
لما أسلم وحشي قال له : غيب وجهك عني . هذا والله والمسلم لا يؤاخذ بما كان في الكفر ، فكيف يقدر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبصر من قتل الحسين ؟
قوله تعالى :
ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا .
لقد جمعوا في ظلم الحسين ما لم يجمعه أحد ، ومنعوه أن يرد الماء فيمن ورد ، وأن يرحل عنهم إلى بلد ، وسبوا أهله وقتلوا الولد ، وما هذا حد دفع عن الولاية هذا سوء معتقد .
نبع الماء من بين أصابع جده فما سقوه منه قطرة !
كان الرسول صلى الله عليه وسلم من حب الحسين يقبل شفتيه ويحمله كثيرا على عاتقيه ، ولما مشى طفلا بين يدي المنبر نزل إليه ، فلو رآه ملقى على أحد جانبيه والسيوف تأخذه والأعداء حواليه والخيل قد وطئت صدره ومشت على يديه ودماؤه تجري بعد دموع عينيه لضج الرسول صلى الله عليه وسلم مستغيثا من ذلك ولعز عليه .
كربلاء زلت كربا وبلا ما لقي عندك أهل المصطفى
[ ص: 421 ] كم على تربك لما صرعوا من دم سال ومن دمع جرى
يا رسول الله لو عاينتهم وهم ما بين قتل وسبا
من رميض يمنع الظل ومن عاطش يسقى أنابيب القنا
لرأت عيناك فيهم منظرا للحشا شجوا وللعين قذى
ليس هذا لرسول الله يا أمة الطغيان والمين جزا
غارس لم يأل في الغرس لهم فأذاقوا أهله مر الجنى
جزروا جزر الأضاحي نسله ثم ساقوا أهله سوق الإما
هاتفات يا رسول الله في بهر السعي وعثرات الخطا
قتلوه بعد علم منهم أنه خامس أصحاب الكسا
يا جبال المجد عزا وعلا وبدور الأرض نورا وسنا
جعل الله الذي نالكم سبب الوجد طويلا والبكا
لا أرى حزنكم ينسى ولا رزأكم يسلى ولو طال المدى
سبحان من رفع للحسين بقتله مكانا ، ودمغ من عاداه فعاد بعد العز مهانا ، ما ضره حين الشهادة من أوسعه خذلانا ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا هلك أهل الزيغ والعناد وكأنهم ما ملكوا البلاد وعاد عليهم اللعن كما عاد على عاد ، أين يزيد أين زياد ، كأنهما ما كانا لا كانا فقد جعلنا لوليه سلطانا .
تمتعوا أياما يسيرة ، ثم عادت أجنحة الملك كسيرة ، وبقيت سيرة الحسين أحسن سيرة ، ومن عزت عاقبته والسيرة فكأن لم يلق هوانا فقد جعلنا لوليه سلطانا .
مزقوا والله كل ممزق ، وتفرقوا بالشتات أي متفرق ، وظنوا أنهم رفوا ما جنوا فتخرق ، إن ناصر المظلوم لا يتوانى فقد جعلنا لوليه سلطانا .
تعززوا على مثل الحسين وطالوا ، وظنوا بقاء الملك لهم بما احتالوا ، وكيل لهم من الذم أضعاف ما كالوا ، وعجل قلعهم من السلطة فزالوا سلطانا سلطانا فقد جعلنا لوليه سلطانا .
ويلهم لو دبروا أمرهم لرفعوا بطاعة الحسين قدرهم ، ملكوا أياما ثم بقي الخزي دهرهم ، اشتغلوا اليوم بتسبيحكم ودعوا ذكرهم أهوانا ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا . وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
[ ص: 422 ]