[ ص: 452 ] المجلس الخامس
في ذكر ليلة النصف من شعبان
الحمد لله الذي لا ناقض لما بناه ، ولا حافظ لما أفناه ، ولا مانع لما أعطاه ، ولا راد لما قضاه ، ولا مظهر لما أخفاه ، ولا ساتر لما أبداه ، ولا مضل لمن هداه ، ولا هادي لمن أعماه ، أنشأ الكون بقدرته وما حواه ، ورزق الصون بمنته ومنه من والاه ، وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه خلق آدم بيده وسواه وأسكنه في حرم قربه وحماه ، وأمره كما شاء ونهاه ، وأجرى القضاء بموافقته هواه ، فنزعت يد التفريط ما كساه ، ثم تاب عليه فرحمه واجتباه وحاله ينذر من يسعى فيما اشتهاه ، وطرد إبليس وكانت السماوات مأواه فأصمه بمخالفته كما شاء وأعماه ، وأبعده عن بابه للعصيان وأشقاه وفي قصته نذير لمن خالفه وعصاه ، ألان الحديد لداود كما تمناه ، يأمن لابسه من يلقاه ، ثم صرع صانعه بسهم قدر ألقاه ، فلما تسور المحراب خصماه أظهر جدال التوبيخ فخصماه وظن داود أنما فتناه وذهب ذو النون مغاضبا فالتقمه الحوت وأخفاه ، فندم إذ رأت عيناه ما جنت يداه ، فلما أقله كرب ظلام تغشاه تضرع مستغيثا ينادي مولاه : إني كنت من الظالمين فنجيناه .
تعالى ربنا سبحانه وحاشاه أن يخيب راجيه وينسى من لا ينساه ، أخذ موسى من أمه طفلا وراعاه ، وساقه إلى حجر عدوه فرباه ، وجاد عليه بنعم لا تحصى وأعطاه ، فمشى في البحر وما ابتلت قدماه ، وتبعه العدو فأدركه الغرق وواراه ، فقال آمنت فإذا جبريل يمد فاه ، وكان من غاية شرفه ومنتهاه أنه خرج يطلب نارا فناداه : يا موسى إني أنا الله وشرف أمته شرفا بينا أولاه وأني فضلتكم على العالمين بكنتم خير أمة أخذناه .
خلق محمدا واختاره على الكل واصطفاه ، وكشف له الحجاب عند قاب قوسين فرآه ، وأوحى إليه من سره المستور ما أوحاه ، ووعده المقام المحمود وسيبلغه مناه .
فالحمد لله الذي دلنا بنبيه عليه وعرفناه ، وأجلنا بالقرآن العظيم القديم وعلمناه ، وهدانا إلى بابه بتوفيق أودعناه ، حمدا لا ينقضي أولاه ولا ينفد أخراه .
[ ص: 453 ] وصلى الله على محمد ما تحركت الألسن والشفاه ، وعلى آله وصحبه صلاة دائمة تدوم بدوام ملك الله ، وسلم تسليما .
عباد الله إن ليلتكم هذه النصف ، عظيمة القدر وعجيبة الوصف ، يطلع الله فيها على العباد ، فيغفر لكل ما خلا أهل العناد .
رضي الله عنها قالت : فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فخرجت فإذا هو عائشة بالبقيع رافع رأسه إلى السماء فقال : كنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله ؟ قلت : يا رسول الله ، ظننت أنك أتيت بعض نسائك ، فقال : " إن الله عز وجل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب " . عن
وعنها أيضا قالت : كانت ليلة النصف من شعبان ليلتي فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي ، فلما كان في جوف الليل فقدته فأخذني ما يأخذ النساء من الغيرة ، فتلفعت بمرطي ، أما والله ما كان مرطي خزا ولا قزا ولا حريرا ولا ديباجا ولا قطنا ولا كتانا ، قيل : فمم كان ؟ قالت : كان سداه شعرا ولحمته من أوبار الإبل ، قالت : فطلبته في حجر نسائه فلم أجده فانصرفت إلى حجرتي فإذا به كالثوب الساقط على وجه الأرض ساجدا وهو يقول في سجوده : سجد لك سوادي وخيالي وآمن بك فؤادي ، هذه يداي وما جنيت بهما على نفسي ، يا عظيما يرتجى لكل عظيم اغفر الذنب العظيم ، أقول كما قال داود عليه السلام أعفر وجهي بالتراب لسيدي وحق له أن يسجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره ، ثم رفع رأسه صلى الله عليه وسلم فقال : اللهم ارزقني قلبا نقيا من الشرك لا كافرا ولا شقيا ، ثم سجد وقال : أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بعفوك من معاقبتك ، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ، قالت : ثم انصرف ودخل معي في الخميلة ولي نفس عال فقال : ما هذا النفس يا حميراء ؟ قالت : فأخبرته فطفق يمسح بيده على ركبتي ويقول : " ويح هاتين الركبتين ماذا لقيتا في هذه الليلة ليلة النصف من شعبان ، إن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا فيغفر لعباده إلا لمشرك أو مشاحن " .
وفي رواية أخرى عن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : عائشة كلب ، قلت : يا نبي الله وما بال غنم " يا حميراء أما تدرين ما هذه الليلة ؟ هذه ليلة عتقاء من النار بعدد شعر غنم كلب ؟ [ ص: 454 ] قال : ليس في العرب قوم أكثر غنما منهم ، لا أقول فيهم ستة : مدمن خمر ولا عاق والديه ولا مصر على ربا أو زنا ولا مصارم ولا مصور ولا قتات " .
وروي عن ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن عمرو " يطلع الله إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا لاثنين : مشاحن وقاتل نفس " .
وعن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة " ليلة النصف من شعبان يغفر الله لعباده إلا لمشرك أو مشاحن " .
قلت : والظاهر من المشاحن أنه الذي بينه وبين أخيه المسلم عداوة ، وقد قال : هو الذي في قلبه شحناء لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . الأوزاعي
وروي عن رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يسح الله الخير في أربع ليال سحا : الأضحى والفطر وليلة النصف من شعبان تنسخ فيها الآجال والأرزاق ويكتب فيها الحاج ، وفي ليلة عائشة عرفة إلى الأذان " .
وفي حديث عن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أبي أمامة خمس ليال لا يرد فيهن الدعاء ، فذكر منهن ليلة النصف من شعبان .
وروى ابن كردوس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أحيا ليلتي العيدين وليلة النصف من شعبان لم يمت قلبه يوم تموت القلوب " .
أنه قال : " إذا كان ليلة النصف من شعبان قال الله تعالى : هل من سائل فأعطيه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من مسترزق فأرزقه ؟ حتى ينفجر الفجر ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيام ليلتها وصيام نهارها " . علي وعن
[ ص: 455 ] وقال حكيم بن كيسان : يطلع الله إلى خلقه في ليلة النصف من شعبان فمن طهره في تلك الليلة زكاه إلى مثلها من قابل .
روي عن في قوله تعالى : عكرمة فيها يفرق كل أمر حكيم قال : في النصف من شعبان يدبر الله أمر السنة وينسخ الأحياء من الأموات ، ويكتب حاج بيت الله الحرام فلا يزيد فيهم أحدا ولا ينقص منهم أحدا .
واعلم أن الرواية بهذا عن مضطربة ، فتارة يروى هكذا وتارة يروى أنها ليلة القدر كباقي المفسرين ، وقد سبقت الأحاديث أن الآجال تكتب في شعبان ، فجائز أن يختص شعبان بما يتعلق بالآجال ويكون القدر العام في ليلة القدر . عكرمة
وقد رويت لهذه الليلة خمس صلوات ليس في أسانيدها شيء صحيح ، ولا فيها ما يثبت ، فلذلك سكتنا عن ذكرها ، فإن الحديث إذا لم يصح كان وجوده كالعدم .