حم والكتاب المبين الكلام على قوله تعالى :
اختلف المفسرون في " حم " على قولين : أحدهما : أنها من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ، وهذا مذهب جماعة من المفسرين ، والثاني : أنها معروفة المعنى ، ثم لهؤلاء فيها قولان :
أحدهما : أنها حروف من أسماء ، ولهؤلاء فيها ثلاثة أقوال : أحدها : أنها من الرحمن ، قال : الر ، وحم ، ون ، اسم الرحمن على الهجاء ، والثاني : أن الحاء مفتاح اسمه حميد والميم مفتاح اسمه مجيد قاله ابن عباس ، والثالث : أن الحاء مفتاح كل اسم ابتداؤه حاء مثل حكيم وحليم وحي ، والميم مفتاح كل اسم ابتداؤه ميم مثل ملك ومجيد ، حكاه أبو العالية أبو سليمان الدمشقي .
والقول الثاني : أن رواه معنى حم : قضي ما هو كائن ، عن أبو صالح ، كأنه يصير إلى حم بالأمر . ابن عباس
قال المفسرون : إنا أنزلناه والهاء كناية عن الكتاب وهو القرآن في ليلة مباركة وفيها قولان : أحدهما أنها ليلة القدر ، قاله الأكثرون ، والثاني : [ ص: 458 ] ليلة النصف من شعبان ، وقد ذكرناه عن حم قسم جوابه : عكرمة إنا كنا منذرين أي مخوفين عقابنا فيها يفرق أي يفصل كل أمر حكيم .
اجتهدوا الليلة في محو ذنوبكم واستغيثوا إلى مولاكم من عيوبكم ، هذه ليلة الإنابة فيها تفتح أبواب الإجابة ، أين اللائذ بالجناب ، أين المتعرض بالباب ، أين الباكي على ما جنى ، أين المستغفر لأمر قد دنا ، كم منقول في هذه الليلة من ديوان الأحياء مثبت في صحف أهل التلف والفنا ، فهو عن قريب يفجأ بالممات وهو مقيم على السيئات ، ألا رب فرح بما يؤتى قد خرج اسمه مع الموتى ، ألا رب غافل عن تدبير أمره قد انقصمت عرى عمره ، ألا رب معرض عن سبيل رشده قد آن أوان شق لحده ، ألا رب رافل في ثوب شبابه قد أزف فراقه لأحبابه ، ألا رب مقيم على جهله قد قرب رحيله عن أهله ، ألا رب مشغول بجمع ماله قد حانت خيبة آماله ، ألا رب ساع في جمع حطامه قد دنا تشتيت عظامه ، ألا رب مجد في تحصيل لذاته قد آن خراب ذاته ، أين من كان مثل هذه الأيام في منازله ينسأ في طمأنينته إزعاج منازله ، مشغولا بشهواته مغرورا بعاجله ، أما أصاب مقاتله سهم مقاتله ، أما ظهر خساره عند حساب معامله ، أين المعتذر مما جناه فقد اطلع عليه مولاه ، أين الباكي على تقصيره قبل تحسره في مصيره ، يا مطرودا ما درى ، تعاتب ولا تفهم ما جرى ، متى ترى على الباب ترى :
تعالوا كل من حضرا لنطرق بابه سحرا ونبكي كلنا أسفا
على من بات قد هجرا
يا مضيعا اليوم تضيعه أمس ، تيقظ ويحك فقد قتلت النفس ، وتنبه للسعود فإلى كم نحس ، واحفظ بقية العمر فقد بعت الماضي بالبخس .
أطل جفوة الدنيا وتهوين شأنها فما العاقل المغرور فيها بعاقل
[ ص: 459 ] يرجي خلودا معشر ضل ضلهم ودون الذي يرجون غول الغوائل
وليس الأماني للبقاء وإن مضت بها عادة إلا تعاليل باطل
وما المفلتون أجمل الدهر فيهم بأكثر ممن في عداد الحبائل
يسار بنا قصد المنون وإننا لنسعف أحيانا بطي المراحل
غفلنا عن الأيام أطول غفلة وما جوبها المخشي منها بغاقل
أكب بنو الدنيا عليها وإنها لتنهاهم الأيام عنها لو انتهوا
مضى قبلنا قدما قرون كثيرة
سيبكون حزنا حول قبرك ساعة
رأيت بني الدنيا إذا ما سموا بها