في عشر ذي الحجة
الحمد لله العالم بعدد الرمل والنمل والقطر ، ومصرف الوقت والزمن والدهر ، الخبير بخافي السر وسامع الجهر ، القدير على ما يشاء بالعز والقهر ، أقرب إلى العبد من العنق إلى النحر هو الذي يسيركم في البر والبحر .
القديم فلا إله سواه ، الكريم في منحه وعطاياه ، القاهر لمن خالفه وعصاه ، خلق آدم بيده وسواه واستخرج ذريته كالذر ، أنعم فلا فضل لغيره ، وقضى بنفع العبد وضيره وأمضى القدر بشره وخيره ، فحث على الشكر والصبر ، أحاط علما بالأشياء وحواها ، كيف لا وهو الذي بناها ، وقهر المضادات فسواها بلا معين يمده بالنصر ، لا كيف له ولا شبيه ولا يجوز عليه التشبيه ، عالم السر وما يعرض فيه ، متنزه عن تصور الفكر ، أقسم في القرآن بصنعته ، والقسم على الحقيقة بقدرته ، فتأمل ما تحت القسم من فائدته والفجر وليال عشر والشفع والوتر أحمده حمدا ليس له نهاية ، وأقر له بالتوحيد فكم دلت عليه آية ، وأصلي على رسوله محمد الذي ما ردت له راية ، صلاة تصل إليه في القبر ، وعلى ضجيعه أبي بكر الصديق الشديد في الحق الوثيق وعمر وعثمان المحب الشفيق وعلي الرفيع القدر ، وعلى عمه أبي الفضل العباس ، الشريف الأصل كريم الأغراس ، الذي نسبه في الأنساب لا يقاس .
والفجر وليال عشر الفجر : ضوء النهار إذا انشق عنه الليل . قال الله تعالى :
وفي المراد بهذا الفجر ستة أقوال :
أحدها : أنه الفجر المعروف الذي هو بدء النهار ، قاله علي بن أبي طالب وعكرمة وزيد بن أسلم والقرطبي ، والثاني : صلاة الفجر ، والثالث النهار كله ، فعبر بالفجر عنه لأنه أوله ، والأقوال الثلاثة عن ، والرابع : أنه فجر يوم النحر خاصة ، قاله ابن عباس ، والخامس : فجر أول يوم من ذي الحجة ، قاله مجاهد الضحاك ، والسادس : أول يوم من المحرم تنفجر منه السنة ، قاله . قتادة
وليال عشر فيها أربعة أقوال : أحدها أنه عشر ذي الحجة ، رواه [ ص: 506 ] قوله عز وجل : عطية عن ، وبه قال ابن عباس مجاهد ومسروق وقتادة والضحاك والسدي ومقاتل والثاني : أنها العشر الأواخر من رمضان قاله عن أبو ظبيان ، والثالث : العشر الأول من رمضان ، قاله ابن عباس الضحاك ، والرابع : العشر الأول من المحرم ، قاله يمان بن رئاب .
والشفع والوتر قرأ قوله تعالى : حمزة والكسائي : والوتر بكسر الواو وفتحها الأكثرون ، وهما لغتان والكسر لقريش وتميم وأسد ، والفتح لأهل الحجاز .
وللمفسرين في الشفع والوتر عشرون قولا :
أحدها : أن الشفع يوم عرفة ويوم الأضحى ، والوتر ليلة النحر ، رواه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم . أبو أيوب الأنصاري
والثاني : أن الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة ، رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والثالث : أن الشفع والوتر الصلاة ، منها شفع ومنها وتر ، رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم . عمران بن حصين
والرابع : أن الشفع الخلق كله ، والوتر الله عز وجل ، رواه عطية عن . ابن عباس
والخامس : أن الوتر آدم شفع بزوجته عليهما السلام ، رواه عن مجاهد . ابن عباس
والسادس : أن الشفع يومان بعد يوم النحر وهو النفر الأول والوتر اليوم الثالث وهو النفر الأخير ، قاله . عبد الله بن الزبير
والسابع : أن الشفع صلاة الغداة والوتر صلاة المغرب ، حكاه . عطية العوفي
والثامن : أن الشفع الركعتان من صلاة المغرب والوتر الركعة الثالثة ، قاله أبو العالية والربيع بن أنس .
والتاسع : أن الشفع والوتر الخلق كله منه شفع ومنه وتر ، قاله ابن زيد .
والعاشر : أن العدد منه شفع ومنه وتر ، قاله . الحسن
والحادي عشر أن الشفع عشر ذي الحج والوتر أيام من الثلاثة قاله الضحاك .
والثاني عشر : أن الشفع هو الله لقوله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم والوتر هو الله، قوله تعالى : قل هو الله أحد قاله . سفيان بن عيينة
والثالث عشر : أن الشفع آدم وحواء ، والوتر هو الله تعالى ، قاله . مقاتل بن سليمان
[ ص: 507 ] والرابع عشر : أن الشفع هو الأيام والليالي والوتر اليوم الذي لا ليلة معه وهو يوم القيامة ، قاله . مقاتل بن حيان
والخامس عشر : أن الشفع درجات الجنات؛ لأنها ثمان ، والوتر دركات النار لأنها سبع ، فكأن الله عز وجل أقسم بالجنة والنار ، قاله الحسين بن أبي الفضل .
والسادس عشر : أن الشفع تضاد أوصاف المخلوقين : عز وذل ، وقدرة وعجز ، وقوة وضعف ، وعلم وجهل ، وحياة وموت ، والوتر انفراد صفة الله سبحانه : عز بلا ذل ، وقدرة بلا عجز ، وقوة بلا ضعف ، وعلم بلا جهل ، وحياة بلا موت ، قاله أبو بكر الوراق .
والسابع عشر : أن الشفع الصفا والمروة ، والوتر البيت .
والثامن عشر : أن الشفع مسجد مكة والمدينة ، والوتر بيت المقدس .
والتاسع عشر : أن الشفع القران في الحج والتمتع ، والوتر الإفراد .
والعشرون : الشفع العبادات المتكررة كالصلاة والصيام والزكاة ، والوتر العبادة التي لا تتكرر وهي الحج ، حكى هذه الأربعة أبو إسحاق الثعلبي .
قوله تعالى : والليل إذا يسر قرأ ابن كثير ويعقوب : " يسري " بياء في الوصل والوقف ووافقهما في الوصل نافع وقرأ وأبو عمرو ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي : يسر بغير ياء في الوصل والوقف .
قال اللغويون منهم الفراء : والاختيار حذف حرف الياء لثلاثة أوجه : أحدها : لمشاركتها من الآيات ، والثاني لاتباع المصحف ، والثالث أن العرب قد تحذف الياء وتكتفي منها بكسر ما قبلها ، وأنشدوا : والزجاج
كفاك كف ما يليق درهما جودا وأخرى تعط بالسيف الدما
وفي قوله تعالى : يسر قولان : أن الفعل لليل ، ثم في ذلك قولان : أحدهما : إذا يسري ذاهبا ، رواه عطية عن ، وهو قول الجمهور ، والثاني : إذا يسري مقبلا ، قاله ابن عباس . قتادةوالقول الثاني : الفعل لغيره ، والمعنى : إذا يسرى فيه ، كما يقال ليل نائم أي ينام فيه ، قاله . الأخفش
هل في ذلك أي فيما ذكر قوله تعالى : قسم لذي حجر أي: عقل ، وسمي الحجر حجرا لأنه يحجر صاحبه عن القبيح ، وسمي عقلا لأنه يعقل عما لا يحسن ، وسمي النهى لأنه ينهى عما لا يجمل .
[ ص: 508 ] ومعنى الكلام : أن من كان ذا لب علم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء فيه دلائل على توحيده وقدرته فهو حقيق أن يقسم به .
وجواب القسم : إن ربك لبالمرصاد فاعترض بين القسم وجوابه قوله تعالى : ألم تر كيف فعل ربك بعاد .
والمشهور أن المراد بالعشر عشر ذي الحجة .
أخبرنا بسنده عن هبة الله بن محمد رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن عباس انفرد بإخراجه " ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام " يعني أيام العشر ، قالوا : يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل ؟ قال : " ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا رجلا خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء " . . البخاري
أخبرنا بسنده عن هبة الله بن محمد عن مجاهد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ابن عمر " . ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن التهليل والتكبير والتحميد "
أخبرنا عبد الله بن علي المقري بسنده عن رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جابر بن عبد الله " إن أفضل أيام الدنيا العشر ، قالوا يا رسول الله ولا مثلهن في سبيل الله ؟ قال : ولا مثلهن في سبيل الله إلا من عفر وجهه في التراب " .
وقد روي في حديث رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كل يوم من أيام العشر يعدل صيام سنة ، وليلة جمع تعدل ليلة القدر . ابن عباس
قال : كانوا يعظمون ثلاث عشرات : العشر الأول من ذي الحجة والعشر الأخير من رمضان ، والعشر الأول من المحرم . أبو عثمان النهدي
اعلموا رحمكم الله أن عشركم هذا ليس كعشر ، وهو يحتوي على فضائل عشر :
الأولى : أن الله عز وجل أقسم به فقال وليال عشر .
[ ص: 509 ] والثانية : أنه سماه الأيام المعلومات فقال تعالى : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات قال : هي أيام العشر . ابن عباس
والثالثة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد له بأنه أفضل أيام الدنيا .
والرابعة : حث على أفعال الخير فيه .
والخامسة : أنه أمر بكثرة التسبيح والتحميد والتهليل فيه .
والسادسة : أن فيه يوم التروية ، وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ابن عباس " من صام العشر فله بكل يوم صوم شهر ، وله بصوم يوم التروية سنة " .
قال الزاهدي : وإنما سمي بيوم التروية لأن عرفات لم يكن بها ماء فكانوا يتروون من الماء إليها .
والسابعة : أن فيه يوم عرفة وصومه بسنتين .
والثامنة : أن فيه ليلة جمع وهي ليلة المزدلفة ، وقد سبق بيان فضلها .
والتاسعة : أن فيه الحج الذي هو ركن من أركان الإسلام .
والعاشرة : وقوع الأضحية التي هي علم للملة الإبراهيمية والشريعة المحمدية ، ، وليتشبه بالمحرمين ، ومن أصحابنا من قال يحرم ذلك كله . ومن أراد أن يضحي كره له إذا دخل عليه عشر ذي الحجة أن يأخذ بشرته وأن يقلم أظفاره أو يحلق شعره
أخبرنا علي بن عبيد الله بسنده عن قال : سمعت سعيد بن المسيب رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أم سلمة " من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي " .
ما لنفسي عن معادي غفلت أتراها نسيت ما فعلت
أيها المغرور في لهو الهوى كل نفس سترى ما عملت
أف للدنيا فكم تخدعنا كم عزيز في هواها خذلت
رب ريح بأناس عصفت ثم ما أن لبثت أن سكنت
وكذاك الدهر في تصريفه قدم زلت وأخرى ثبتت
ويد الأيام من عاداتها أنها مفسدة ما أصلحت
[ ص: 510 ] أين من أصبح في غفلته في سرور ومرادات خلت
أصبحت آماله قد خسرت وديار لهوه قد خربت
فغدت أمواله قد فرقت وكأن داره ما سكنت
جز على الدار بقلب حاضر ثم قل يا دار ماذا فعلت
أوجه كانت بدورا طلعا وشموسا طالما قد أشرقت
قالت الدار تفانوا فمضوا وكذا كل مقيم إن ثبت
عاينوا أفعالهم في تربهم فاسأل الأجداث عما استودعت
كل نفس سوف تلقى فعلها ويح نفس بهواها شغلت
إنما الدنيا كظل زائل أو كأحلام منام ذهبت
كم راعت المنون سربا سربا ، كم أثارت قسطلا وحربا ، تالله لقد جالت بعدا وقربا ، فاستلبت البعدى وذوي القربى ، كم عمرت بخراب دورهم تربا ، فسل بها حال سلبها كيف استلبتهم سلبا .
أين ملوكها وأمراؤها ، ومداحها وشعراؤها وسحراؤها وخدامها ، وأحرارها وعبيدها وأسراها وغناؤها بالأموال وثراؤها ، باكرتهم والله بكراؤها فأعجز إبطاءهم إبرادها، فضمتهم عن قليل صحراؤها :
أما الجديدان من ثوبي ومن جسدي فيبليان ولا يبلى الجديدان
برد الشباب وبرد الناسج ابتذلا وهل يدوم على البردين بردان
الدهر لونان أعيا ثالث لهما وكم أتاك بأشباه وألوان
لو كان يعرف دنياه مصاحبها أرادها لعدو دون إخوان
وما أبالي وأرداني مبرأة من العيوب إذا ما الحتف أرداني
[ ص: 511 ]
أيتها النفس اسمعي لقيلي أنت من الحياة في أصيل
وفي غرور أمل طويل فلا يغرنك ضحى التأميل
فقد دنت شمسك للأفول
عباد الله : هذه الأيام مطايا فأين العدة قبل المنايا ، أين الأنفة من دار الأذايا ، أين العزائم أرضيتم بالدنايا ، إن بلية الهوى لا تشبه البلايا ، وإن خطيئة الإصرار لا كالخطايا ، يا مستورين ستظهر الخبايا ، سرية الموت لا تشبه السرايا ، قضية الزمان ليست كالقضايا ، راعي السلامة يقتل الرعايا ، رامي المنون يصمي الرمايا ، ملك الموت لا يقبل الهدايا ، أيها الشاب ستسأل عن شبابك ، أيها الكهل تأهب لعتابك ، أيها الشيخ تدبر أمرك قبل سد بابك ، كنت في بداية الشباب أصلح ، فيا عجبا كيف أفسد من أصلح ، يا مريض القلب قف بباب الطبيب ، يا مبخوس الحظ اشك فوات النصيب ، لذ بالجناب ذليلا ، وقف على الباب طويلا ، واتخذ في هذا العشر سبيلا ، واجعل جناب التوبة مقيلا ، واجتهد في الخير تجد ثوابا جزيلا ، قل في الأسحار : أنا تائب ، ناد في الدجى : قد قدم الغائب :أنا المسيء المذنب الخاطي المفرط البين إفراطي
فإن تعاقب أنا أهل له وأنت أهل العفو عن خاطي
اعف عني وأقلني عثرتي يا عمادي للمات الزمن
لا تعاقبني فقد عاقبني ندم أتلف روحي والبدن
لا تطير وسنا عن مقلة أنت أهديت لها طيب الوسن
إن تؤاخذني فمن ذا أرتجي وإذا لم تعف عن ذنبي فمن