لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون الكلام على قوله عز وجل :
المعنى : لن تنالوا البر الكامل ، وبعض المفسرين يقول : المراد بالبر ههنا الجنة ، ولن يدرك الفضل الكامل إلا ببذل محبوب النفس .
أخبرنا عبد الأول بسنده ، عن إسحاق بن عبد الله بن طلحة ، أنه سمع يقول : أنس بن مالك أكثر أنصاري أبو طلحة بالمدينة مالا من نخل ، وكان أحب أمواله إليه بئر حاء وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب . قال : فلما نزلت هذه الآية : أنس لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قام فقال : يا رسول الله إن الله تعالى يقول : أبو طلحة لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وإن أحب أموالي إلي بئر حاء ، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها حيث أراك الله . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بخ ذاك مال رابح أو رائج - شك ابن مسلمة - وقد سمعت ما قلت ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين " . قال : أفعل ذلك يا رسول الله ، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه . أبو طلحة " كان
أخرجاه في الصحيحين . ورواه حميد عن ، فقال فيه : لو استطعت أن أسرها لم أعلنها ، فقال : اجعله في فقراء أهلك . أنس
وقال : كتب مجاهد إلى عمر بن الخطاب أن يبتاع له جارية من سبي أبي موسى جلولاء ففعل ، فدعاها فأعتقها ثم تلا هذه الآية : عمر لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون .
وقال : خطرت هذه الآية ببالي : ابن عمر لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ففكرت فيما أعطاني الله عز وجل فما وجدت شيئا أحب إلي من جاريتي رميثة ، فقلت : هي [ ص: 604 ] حرة لوجه الله فلولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها . فأنكحها نافعا فهي أم ولده .
أخبرنا محمد بن ناصر بسنده عن عبد العزيز بن رواد عن ، قال : كان نافع إذا اشتد عجبه بشيء من ماله قربه لربه عز وجل ، قال ابن عمر : كان بعض رقيقه قد عرفوا ذلك منه ، فربما شمر أحدهم فلزم المسجد ، فإذا رآه نافع على تلك الحالة الحسنة أعتقه ، فيقول له أصحابه : يا ابن عمر أبا عبد الرحمن ، والله ما بهم إلا أن يخدعوك ! فيقول : فمن خدعنا بالله انخدعنا له ! . ابن عمر
قال : فلقد رأيتنا ذات عشية ، وراح نافع على نجيب له قد أخذه بمال ، فلما أعجبه سيره أناخه مكانه ثم نزل عنه ، وقال : يا ابن عمر انزعوا زمامه ورحله وجللوه وأشعروه وأدخلوه في البدن . نافع
وروى بشير بن دعلوف عن أنه وقف سائل على بابه فقال : أطعموه سكرا ، فإن الربيع بن خثيم الربيع يحب السكر .
واعلم أن الإنفاق يقع على الزكاة المفروضة ، وعلى الصدقة النافلة ، وعلى الإيثار والمواساة للإخوان ، فمن أخرج لله عز وجل شيئا فليكن من أطيب ماله وليوقن المضاعفة .
أخبرنا بسنده عن ابن الحصين عن سعيد بن يسار رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة . " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب - ولا يصعد إلى الله إلا الطيب - فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل "
وفي أفراد من حديث مسلم ، قال : أبي مسعود الأنصاري . جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بناقة مخطومة فقال : هذه في سبيل الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة "
أخبرنا يحيى بن علي بسنده ، عن ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنس . " إن الصدقة لتطفئ غضب الرب ، وتدفع ميتة السوء "
[ ص: 605 ] أخبرنا موهوب بن أحمد بسنده ، عن يزيد الرقاشي ، عن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : أنس " تصدقوا فإن الصدقة فكاك من النار ، والصدقة تمنع سبعين نوعا من البلاء أهونها الجذام والبرص " .
وفي حديث بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : . " ما يخرج أحد شيئا من الصدقة حتى يفك لحيي سبعين شيطانا "
وينبغي للمتصدق أن يصلح نيته فيقصد بالصدقة وجه الله عز وجل ، فإن لم يقصد وجه الله لم تقبل منه . وينبغي أن يتخير الحلال . ففي أفراد من حديث مسلم رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ابن عمر . " لا يقبل الله صدقة من غلول "
وكان يقول : أيها المتصدق على المسكين برحمة ارحم من ظلمت . الحسن
وأن يتخير الأجود فقد قال الله تعالى : أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون . وقال : إذا جعل أحدكم لله شيئا فلا يجعل له ما يستحي أن يجعل لكريمه ، فإن الله تعالى أكرم الكرماء وأحق من اختير له . عروة بن الزبير
ثم ينبغي أن يكون إخراج المحبوب في زمان صحة المعطي وزمان فاقة المعطى ، وليقدم الأقرباء ، ويقدم من الأقارب من لا يميل إليه بالطبع ، ففي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أبي أيوب الأنصاري . " أفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح "
وليخرج المعطي ما سهل وإن قل . فقد روى جابر بن عبد الله . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل : أي الصدقة أفضل ؟ فقال : جهد المقل "
[ ص: 606 ] وقال : أدركنا أقواما كانوا لا يردون سائلا إلا بشيء ، ولقد كان الرجل منهم يخرج من بيته فيأمر أهله ألا يردوا سائلا . الحسن
ومن آداب العطاء أن يكون سرا ، فإن تطفئ غضب الرب عز وجل . قال صدقة السر عبد العزيز بن عمير : الصلاة تبلغك نصف الطريق ، والصوم يبلغك باب الملك ، والصدقة تدخلك عليه .
الكريم حر لأنه يملك ماله ، والبخيل عبد لأن ماله يملكه .
أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طبع على أشرف الأخلاق ، وقد وصف نفسه عليه الصلاة والسلام فقال : " يأبى الله لي البخل " .
وأعطى غنما بين جبلين فتحير الذي أعطاه في صفة جوده ، فقال : هذا عطاء من لا يخشى الفقر ، فلما سار في فيافي الكرم تبعه صديقه فجاء بكل ماله فقال : ما أبقيت لأهلك ؟ قال : أبقيت الله ورسوله :
سبق الناس إليها صفقة لم يعد رائدها عنها بغبن هرة للجود صالت نشوة
لم يكدر عندها العرف بمن طلبوا الشاء فوافى سابقا
جذع غبر في وجه المسن
حبب الفقر إليه إنه سؤدد وهو بذاك الفقر يغنى
وشريف القوم من بقى لهم شرف الذكر وخلى المال يفنى
ما اطمأن الوفر في بحبوحة فرأيت المجد فيها مطمئنا
تهدم الأموال من آساسها أبدا ما دامت العلياء تبنى
أخبرنا عبد الأول بسنده إلى عن أبي حازم رضي الله عنه أبي هريرة الأنصار : أنا ، فانطلق به إلى امرأته فقال : أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : ما عندنا إلا قوت الصبيان ، فقال : هيئي طعامك وأصلحي سراجك ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء ، ففعلت ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته فجعلا يريانه [ ص: 607 ] أنهما يأكلان ، فباتا طاويين ، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ضحك الله الليلة ، أو عجب ، من فعالكما . فأنزل الله تعالى : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه فقلن : ما عندنا إلا الماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يضم هذا أو يضيف هذا ؟ فقال رجل من
أخبرنا بسنده إلى عبد الوهاب ، عن محمد بن عبيد ، قال استشهد ابن الأعرابي باليرموك ، عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن أبي جهل ، وسهيل بن عمرو بن الحارث بن هشام ، وجماعة من بني المغيرة ، فأتوا بماء وهم صرعى ، فتدافعوه حتى ماتوا ولم يذوقوه ! أتي بالماء فنظر إلى عكرمة ينظر إليه ، فقال : ابدؤوا بهذا ، فنظر الحارث بن هشام سهيل إلى ينظر إليه ، فقال : ابدؤوا بهذا ، فماتوا كلهم قبل أن يشربوا ، فمر بهم الحارث بن هشام فقال : بنفسي أنتم ! خالد بن الوليد
نقه من مرض فاشتهى سمكة ، فلما قدمت إليه جاء سائل فناوله إياها . ابن عمر
واشتهى حلواء فلما صنعت دعا بالفقراء فأكلوا ، فقال أهله : أتعبتنا ولم تأكل ، فقال : وهل أكل غيري ! الربيع بن خثيم
كم بينك وبين الموصوفين كما بين المجهولين والمعروفين ، آثرت الدنيا وآثروا الدين ، فتلمح تفاوت الأمر يا مسكين ، أما الفقير فما يخطر ببالك ، فإذا جاء سائل أغلظت له في مقالك ، فإن أعطيته فحقيرا يسيرا من رديء مالك ، إلى كم تتعب في جمع الحطام وتشقى ، وتؤثر ما يفنى على ما يبقى :
يحصي الفتى ما كان من نفقاته ويضيع من أنفاسه ما أنفقا
لم يعتصم ملك يشيد ملكه حصنا يغر به ويحفر خندقا
وكأنما دنيا ابن آدم عرسه أخذت جميع تراثه إذ طلقا
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون .
عباد الله : إلى متى تجمعون ما لا تأكلون ، وتبنون ما لا تسكنون ، والجيد في بيوتكم تدخرون ، والرديء إلى الفقير تخرجون لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون .
حركوا هممكم إلى الخير وأزعجوا ، وحثوا عزائمكم إلى الجد وأدلجوا ، والتفتوا عن الحرص على المال وعرجوا ، وآثروا الفقير بما تؤثرون .
[ ص: 608 ] ويحكم ! السير حثيث ، ولا منجد لكم ولا مغيث ، فبادروا بالصدقة المواريث ، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ، كم قطعت الآمال بتا ، كم مصيف ما أربع ولا شتى ، كم عازم على إخراج المال ما تأتى ، سبقته المنون لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون . يا حريصا ما يستقر ، يا طالبا للدنيا ما يقر ، إن كنت تصدق بالثواب فتصدق في السر بالمحبوب المصون لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون .
يا بخيلا بالفتيل شحيحا بالنقير ، يا صريعا بالهوى إلى متى عقير ، تختار لنفسك الأجود ولربك الحقير ، ما لا يصلح لك من الشيء تعطيه الفقير ، فما تختار لنا كذا يكون .
اكتسابك على أغراضك أنفقت ، أمرجت نفسك في الشهوات وأطلقت ، ونسيت الحساب غدا وما أشفقت ، فإذا رحمت الفقير وتصدقت ، أعطيت الردى الدون .
أما المسكين أخوك من الوالدين فكيف كففت عن إعطائه اليدين ، كيف تحث على النفل والزكاة عليك دين ، وأنتم فيها تتأولون .
يا وحيدا عن قليل في رمسه ، يا مستوحشا في قبره بعد طول أنسه ، لو قدم خيرا نفعه في حبسه . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون .
تجمع الدينار على الدينار لغيرك ، وينساك من أخذ كل خيرك ، ولا تزودت منه شيئا لسيرك ، هذا هو الجنون لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون
[ ص: 609 ]