الحمد لله الملك القديم ، الواحد العزيز العظيم ، الشاهد سامع ذكر الذاكر ، وحمد الحامد ، وعالم ضمير المريد ونية القاصد ، لعظمته خضع الراكع وذل الساجد ، وبهداه اهتدى الطالب وأدرك الواجد ، رفع السماء فعلاها ولم يحتج إلى مساعد ، وألقى في الأرض رواسي راسخات القواعد ، تنزه عن شريك مشاقق أو ند معاند ، وعز عن ولد وجل عن والد ، وأحاط علما بالأسرار والعقائد ، وأبصر حتى دبيب النمل في الجلامد ، وسطا فسالت لهيبته صعاب الجوامد ، ويقول في الليل : " هل من سائل " فانتبه يا راقد ، بنى بيتا أمر بقصده وتلقى الوافد ، وأقسم على وحدانيته وما ينكر إلا معاند والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا إن إلهكم لواحد .
أحمده على الرخاء والشدائد ، وأقر بتوحيده إقرار عابد ، وأصلي على رسوله الذي كان لا يخيب السائل القاصد ، وعلى صاحبه التقي النقي الزاهد ، وعلى أبي بكر العادل فلا يراقب الولد ولا الوالد ، وعلى عمر المقتول ظلما بكف الحاسد ، وعلى عثمان البحر الخضم والبطل المجاهد ، وعلى عمه علي أقرب الأقارب والأباعد . العباس
قال الله تعالى : ولله على الناس حج البيت بهذه الآية . فرض الله عز وجل حج البيت
وقوله : من استطاع إليه سبيلا قال النحويون : من بدل من الناس ، وهذا بدل البعض كما تقول : ضربت زيدا رأسه .
أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الله النسفي بسنده ، عن ، عن محمد بن عباد بن جعفر ، قال : عبد الله بن عمر ؟ قال : " الزاد والراحلة " الاستطاعة إلى الحج . قيل : يا رسول الله ما
واعلم أن المجيب قد يجيب عن المشكل ، ويترك الظاهر ثقة بعلم السامع ، وإلا فقد [ ص: 622 ] يكون له زاد وراحلة ، فإذا خرج إلى الحج لم يكن له ما يترك لعياله ، أو لم يكن له ما يدبره في معاشه .
واعلم أن وجوب الحج موقوف على وجود البلوغ ، والعقل ، والحرية ، والإسلام ، والزاد ، والراحلة .
ويشترط في وجود الراحلة أن تكون صالحة لمثله ورحلها وآلتها ، لأنه قد يكون كبير السن فلا يمكنه الركوب على القتب ، وأن يكون وجود الزاد والراحلة فاضلا عما يحتاج إليه من مسكن وخادم إن احتاج إليه ، ونفقة لعياله إلى أن يعود ، وقضاء دين إن كان عليه ، وأن يكون له إذا رجع ما يقوم بكفايته من عقار ، أو بضاعة ، أو صناعة ، ثم ينبغي أن ينظر في أمن الطريق وسعة الوقت . إلى غير ذلك .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : . " من قدر على الحج ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا "
وقال في قوله تعالى : ابن مسعود لأقعدن لهم صراطك المستقيم قال : طريق مكة يمنعهم من الحج .
وقد ذكرنا في أول هذا الكتاب بناء البيت وفضائله ، وفضل الحجر الأسود .
وفي حديث أبي هريرة الركن اليماني : " وكل الله عز وجل به سبعين ألف ملك ، فمن قال : أسألك العفو والعافية ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قالوا : آمين " . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في
وعن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : عبد الله بن عمر . " من طاف بالبيت سبعا ، وصلى خلف المقام ركعتين فهو عدل محرر "
أخبرنا يحيى بن علي بسنده ، عن ، عن الأوزاعي ، عن عطاء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن عباس . " إن لله عز وجل في كل يوم وليلة عشرين ومائة رحمة تنزل على هذا البيت : ستون للطائفين ، وأربعون للمصلين ، وعشرون للناظرين "
وفي حديث رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ابن عمر . " من طاف بالبيت لم يرفع قدما [ ص: 623 ] ولم يضع أخرى إلا كتب الله عز وجل له بها حسنة وحط عنه بها خطيئة ورفع له بها درجة "
وفي حديث رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ابن عباس . " من طاف بالبيت خمسين مرة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه "
وفي حديث بريدة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : . " النفقة في الحج تضاعف كالنفقة في سبيل الله تعالى : الدرهم بسبعمائة درهم "
فأما : فأخبرنا حج الماشي أبو منصور ، وعبد الرحمن بن محمد ، بسندهما عن ، عن إسماعيل ابن أبي خالد ، قال : مرض زاذان مرضا شديدا فدعا ولده فجمعهم ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ابن عباس مكة ماشيا حتى يرجع إلى مكة كتب الله له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم ، فقيل له : وما حسنات الحرم ؟ قال : بكل حسنة مائة ألف حسنة " . " من حج من
وروت رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : عائشة " إن الملائكة لتصافح ركبان الحج ، وتعتنق المشاة " .
وأما : فأخبرنا فضيلة الحج بسنده ، عن هبة الله بن محمد ، عن أبي صالح رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة . " الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ، والعمرتان - أو العمرة - إلى العمرة تكفر ما بينهما "
أخبرنا محمد بن محمد الوراق بسنده ، عن عن أبي حازم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة . " من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه "
الحديثان في الصحيحين .
[ ص: 624 ] وروي عن كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : علي " من أراد دنيا وآخرة فليؤم هذا البيت ، ما أتاه عبد يسأل الله تعالى دنيا إلا أعطاه منها ، ولا آخرة إلا ادخر له منها " .
وينبغي لمن أراد الحج أن يفهم معنى الحج ، فإنه يشار به إلى التجرد لله عز وجل ومفارقة المحبوبات .
وليتذكر بأهوال الطريق الأهوال بعد الموت ، وفي القيامة ، وبالإحرام الكفن ، وبالتلبية إجابة الداعي ، وليحضر قلبه لتعظيم البيت ، وليتذكر بالالتجاء إليه التجاء المذنب ، وبالطواف الطواف حول دار السيد ليرضى ، وبالسعي بين الصفا والمروة التردد إلى فناء الدار ، وبرمي الجمار رمي العدو .
وكما أن للأبدان حجا فللقلوب حج ؛ فإنها تنهض بأقدام العزائم وتمتطي غوارب الشوق ، وتفارق كل محبوب للنفس ، وتصابر في الطريق شدة الجهد ، وترد مناهل الوفاء لا غدران الغدر ، فإذا وصلت إلى ميقات الوصل نزعت مخيط الآمال الدنيوية ، واغتسلت من عين العين ، ونزلت بعرفات العرفان ، ولبت إذ لبت من لباب اللب ، ثم طافت حول الإجلال ، وسعت بين صفا الصفا ومروة المروءة ، فرمت جمار الهوى بأحجار ، فوصلت إلى قرب الحبيب فلو ترنمت بشرح حالها لقالت :
لا والذي قصد الحجيج لبيته من بين ناء طارق وقريب والحجر والحجر المقبل تلتقي
فيه الشفاه وركنه المحجوب لا كان موضعك الذي ملكته
من قلب عبدك بعد ذا لحبيب لي أنة الشاكي إذا بعد المدى
ما بيننا وتنفس المكروب
ولما عبر الخليل هذه الحالة قيل له : قد بقي عليك ذبح يجانس هذا الحج ليس له إلا الولد ، وما المراد إراقة دمه بل فراغ قلبك عنه ، يا خليلي من المسنون استسمان الإبل ، وألا يكون في المذبوح عيب ، فاختبر ذبحك هل فيه عيب أو هو سليم مسلم ؟ فقال له : إني أرى في المنام أني أذبحك فأجابه : افعل ما تؤمر فعلم حصول الكمال وعدم العيوب ، ثم قال له : استحد مديتك ، وأسرع مر السكين على حلقي ، وإذا عدت إلى أمي فسلم عليها عني . هذا قول من لم يلم بقلبه خوف ألم !
محنتي فيك أنني لا أبالي بمحنتي
يا شفائي من السقام وإن كنت علتي
وإذا وصل الحاج إلى المدينة المشرفة ، فيجعل على فكره تعظيم من يقصده ، وليتخايل [ ص: 625 ] في مساجدها وطرقاتها نقل أقدام المصطفى هناك وأصحابه ، وليتأدب في الوقوف ، وليستشفع بالحبيب وليأسف إذ لم يحظ برؤيته ، ولم يكن في صحابته .
وما رمت من بعد الأحبة سلوة ولكنني للنائبات حمول
وما شرقي بالماء إلا تذكرا لماء به أهل الحبيب نزول
وينبغي لمن عاد من الحج أن يقوى رجاؤه للقبول ، ومحو ما سلف ، وليحذر من تجديد زلل .
وقد سئل : ما الحج المبرور ؟ فقال : أن تعود زاهدا : في الدنيا راغبا في الآخرة . الحسن البصري
أخبرنا بسنده ، عن أبو منصور القزاز عبد الرحمن بن عبد الباقي ، قال : سمعت بعض مشايخنا يقول : قال علي بن الموفق : لما تم لي ستون حجة خرجت من الطواف ، وجلست بحذاء الميزاب ، وجعلت أفكر لا أدري أي شيء حالي عند الله عز وجل وقد كثر توددي إلى هذا المكان ؟ فغلبتني عيني فكأن قائلا يقول لي : يا أتدعو إلى بيتك إلا من تحبه ؟ قال : فانتبهت وقد سري عني ما كنت فيه . علي