الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الكلام على قوله تعالى :

          التائبون العابدون الحامدون

          قد أمر الله سبحانه وتعالى بالتوبة فقال : وتوبوا إلى الله جميعا ووعد القبول فقال : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده وفتح باب الرجاء فقال : لا تقنطوا من رحمة الله .

          أخبرنا هبة الله بن محمد بن المذهب ، أنبأنا أبو بكر بن مالك ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، أخبرنا يحيى بن سعيد ، حدثنا شعبة ، حدثنا عمرو بن مرة ، سمعت أبا بردة قال : سمعت الأغر يحدث عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يا أيها الناس توبوا إلى ربكم ، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة " انفرد بإخراجه مسلم .

          وبالإسناد حدثنا أحمد حدثنا حسن بن محمد ، حدثنا محمد بن مطرف ، عن زيد ابن أسلم ، عن عبد الرحمن بن البيلماني قال : اجتمع أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله تبارك وتعالى يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم " . فقال الثاني : أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، قال : وأنا سمعته يقول : " إن الله تبارك وتعالى يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم " . فقال الثالث : أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، قال : وأنا سمعته يقول : " إن الله تبارك وتعالى يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة " . فقال الرابع : أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، قال : وأنا سمعته يقول : " إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه " .

          وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل بأرض دوية مهلكة معه راحلته ، فطلبها حتى إذا أدركه الموت قال : [ ص: 28 ] أرجع إلى مكاني الذي أضللتها فيه فأموت فيه ، فأتى مكانه فغلبته عيناه ، فاستيقظ فإذا راحلته عند رأسه عليها طعامه وشرابه وزاده وما يصلحه ، فالله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من هذا براحلته وزاده " .

          وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : يا داود لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقا إلي وتقطعت أوصالهم من محبتي ، يا داود هذه إرادتي في المدبرين عني فكيف إرادتي بالمقبلين علي !

          إخواني : الذنوب تغطي على القلوب ، فإذا أظلمت مرآة القلب لم يبن فيها وجه الهدى ، ومن علم ضرر الذنب استشعر الندم .

          قال أبو علي الروذباري رحمه الله : " من الاغترار أن تسيء فيحسن إليك فتترك التوبة توهما أنك تسامح في الهفوات " ! .

          فواعجبا لمن يأمن وكم قد أخذ آمن من مأمن ، ومن تفكر في الذنوب علم أن لذات الأوزار زالت ، والمعاصي بالعاصي إلى النار آلت ، ورب سخط قارن ذنبا فأوجب بعدا وأطال عتبا ، وربما بغت العاصي بأجله ولم يبلغ بعض أمله ، وكم خير فاته ، وكم بلية في طي جناياته .

          قال لقمان لابنه : يا بني لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة .


          قائد الغفلة الأمل والهوى رائد الزلل     قتل الجهل أهله
          ونجا كل من عقل     فاغتنم دولة الشبيبة
          واستأنف العمل . . .     أيها المبتني الحصون
          وقد شاب واكتهل . . .     أخبر الشيب عنك
          أنك في آخر الأجل . . .     فعلام الوقوف في
          عرصة العجز والكسل . . .     منزل لم يزل يضيق
          وينبو بمن نزل . . .     أنت في منزل
          إذا حله نازل رحل . . .

          طوبى لمن غسل درن الذنوب ، ورجع عن خطاياه قبل فوت الأوبة ، وبادر الممكن قبل أن لا يمكن ، من رأيت من آفات دنياه سلم ، ومن شاهدته صحيحا وما سقم ، وأي [ ص: 29 ] حياة بالموت لم تنختم ، وأي عمر بالساعات لم ينصرم ، إن الدنيا لغرور حائل ، وسرور إلى الشرور آيل ، تردي مستزيدها وتؤذي مستفيدها ، بينما طالبها يضحك أبكته ، ويفرح بسلامته أهلكته ، فندم على زلله إذ قدم على عمله ، وبقي رهين خوفه ووجله ، وود أن لو زيد ساعة في أجله ، فما هو إلا أسير في حفرته ، وحسير في سفرته ، وهذه وإن كانت صفة من عنا نأى ، فكذا نكون لو أن العاقل ارتأى :


          سبيلك في الدنيا سبيل مسافر     ولا بد من زاد لكل مسافر
          ولا بد للإنسان من حمل عدة     ولا سيما إن خاف سطوة قاهر
          وطرقك طرق ليس تسلك دائما     وفيها عقاب بعد صعب القناطر

          أخبرنا المبارك بن علي ، أنبأنا علي بن محمد بن العلاف ، أنبأنا علي بن أحمد الحمامي ، حدثنا جعفر بن محمد الخواص ، حدثني إبراهيم بن نصر ، قال حدثني إبراهيم بن بشار ، قال : كنت يوما مارا مع إبراهيم بن أدهم في صحراء ، إذ أتينا على قبر مسنم ، فترحم عليه وبكى ، فقلت : قبر من هذا ؟ فقال : هذا قبر حميد بن جابر ، أمير هذه المدن ، كان غريقا في بحار هذه الدنيا ، ثم أخرجه الله منها ، لقد بلغني أنه سر ذات يوم بشيء من ملاهي دنياه ثم قام من مجلسه ونام مع من يخصه من أهله فرأى رجلا واقفا على رأسه بيده كتاب ، فناوله إياه فقرأه فإذا فيه : تؤثرون فانيا على باق ، ولا تغتر بملكك وسلطانك وعبيدك وولدك ، فإن الذي أنت فيه جسيم لولا أنه عديم ، وهو ملك لولا أن بعده هلك ، وهو فرح وسرور لولا أنه لهو وغرور ، وهو يوم لو كان يوثق فيه بغد ، فسارع إلى أمر الله فإنه يقول : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم .

          فانتبه فزعا مرعوبا وقال : هذا تنبيه من الله عز وجل وموعظة ، فخرج من ملكه لا يعلم به أحد ، وقصد هذا الجبل فتعبد فيه ، فلما بلغني أمره قصدته فسألته فحدثني ببدء أمره وحدثته ببدء أمري فما زلت أقصده حتى مات ، وهذا قبره رحمه الله تعالى .

          أخبرنا أبو بكر الصوفي ، أنبأنا أبو سعيد بن أبي صادق ، أنبأنا ابن باكوية ، حدثنا عمر بن محمد الأردبيلي ، حدثنا علي بن محمد القرشي ، حدثنا علي بن الموفق ، قال : حدثنا منصور بن عمار قال : خرجت ليلة وظننت أني قد أصبحت وإذا علي ليل ، فقعدت عند باب صغير ، وإذا بصوت شاب يبكي ويقول : وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتك مخالفتك ، وقد عصيتك حين عصيتك وما أنا بنكالك جاهل ، ولا لعقوبتك متعرض ولا [ ص: 30 ] بنظرك مستخف ، ولكن سولت لي نفسي وغلبت علي شقوتي ، وغرني سترك المرخى علي ، والآن فمن عذابك من ينقذني ، وبحبل من أتصل إن قطعت حبلك عني ، واسوأتاه من تصرم أيامي في معصية ربي ، يا ويلي ! كم أتوب وكم أعود ، قد حان لي أن أستحي من ربي .

          قال منصور : فلما سمعت كلامه قلت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم : يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة فسمعت صوتا واضطرابا شديدا ومضيت لحاجتي ، فلما أصبحت رجعت ، وإذا جنازة موضوعة على ذلك الباب ، وعجوز تذهب وتجيء فقلت لها : من هذا الميت منك ؟ فقالت : إليك عني لا تجدد علي أحزاني ، قلت إني رجل غريب ، قالت هذا ولدي ، مر بنا البارحة رجل ، لا جزاه الله خيرا ، قرأ آية فيها ذكر النار ، فلم يزل ابني يبكي ويضطرب حتى مات .

          قال منصور : هكذا والله صفة الخائفين يا بن عمار .

          يا صاحب الخطايا أين الدموع الجارية ، يا أسير المعاصي ابك على الذنوب الماضية ، يا مبارزا بالقبائح أتصبر على الهاوية ؟ ! يا ناسيا ذنوبه والصحف للمنسى حاوية ، أسفا لك إذا جاءك الموت وما أنبت ، واحسرة لك إذا دعيت إلى التوبة فما أجبت ، كيف تصنع إذا نودي بالرحيل وما تأهبت ، ألست الذي بارزت بالكبائر وما راقبت :


          قد مضى في اللهو عمري     وتناهى فيه أمري
          شمر الأكياس وأنا     واقف قد شيب أمري
          بان ربح الناس دوني     ولحيني بان خسري
          ليتني أقبل وعظي     ليتني أسمع زجري
          كل يوم أنا رهن     بين آثامي ووزري
          ليت شعري هل أرى لي     همة في فك أسري
          أو أرى في ثوب صدق     قبل أن أنزل قبري
          ويح قلبي من تناسيه     مقامي يوم حشري
          واشتغالي عن خطايا     أثقلت والله ظهري

          كان لبعض العصاة أم تعظه ولا ينثني ؛ فمر يوما بالمقابر فرأى عظما نخرا ، فمسه [ ص: 31 ] فانفت في يده فأنفت نفسه فقال لنفسه : أنا غدا هكذا ! فعزم على التوبة ، فرفع رأسه إلى السماء وقال : يا إلهي اقبلني وارحمني ، ثم رجع إلى أمه حزينا فقال : يا أماه ما يصنع بالآبق إذا أخذه سيده ؟ فقالت : يغل قدميه ويديه ويخشن ملبسه ومطعمه ، قال : يا أماه أريد جبة من صوف وأقراصا من شعير ، وافعلي بي ما يفعل بالعبد الآبق من مولاه ، لعل مولاي يرى ذلي فيرحمني . ففعلت به ما طلب ، فكان إذا جن عليه الليل أخذ في البكاء والعويل ، فقالت له أمه ليلة : يا بني ارفق بنفسك ، فقال : يا أماه إن لي موقفا طويلا بين يدي رب جليل ، فلا أدري أيؤمر بي إلى ظل ظليل أو إلى شر مقيل ، إني أخاف عناء لا راحة بعده ، وتوبيخا لا عفو معه ، قالت : فاسترح قليلا ، فقال : الراحة أطلب يا أماه ، كأنك بالخلائق غدا يساقون إلى الجنة وأنا أساق إلى النار !

          فمرت به ليلة في تهجده هذه الآية فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون فتفكر فيها وبكى واضطرب وغشي عليه ، فجعلت أمه تناديه ولا يجيبها فقالت له قرة عيني ، أين الملتقى ؟ فقال بصوت ضعيف : إن لم تجديني في عرصة القيامة فسلي مالكا عني ، ثم شهق شهقة فمات ، رحمه الله ، فخرجت أمه تنادي : أيها الناس هلموا إلى الصلاة على قتيل النار ! فلم ير أكثر جمعا ولا أغزر دمعا من ذلك اليوم .

          هذه والله علامة المحبين وأمارات الصادقين وصفات المحزونين .


          مآثم المذنبين ما تنقضي     آخر الدهر أو يحلوا اللحودا
          وحقيق أن ينوحوا ويبكوا     قد عصوا ماجدا رؤوفا ودودا
          كل ثكلى أحزانها لنفاد     ولنا الحزن قد نراه جديدا
          كيف تفنى أحزان من عاهد الله     مرارا وخان منه العهودا
          ويح نفسي ما أقول إذا ما     أحضر الله رسله لي شهودا
          ثم قال اقرأ ماذا عملت وجاوزت     بما كان منك فيه الحدودا
          ثم تخفي لما استترت من الخلق     وبارزتني وكنت شهيدا

          أيا كثير الشقاق ، يا قليل الوفاق ، يا مرير المذاق ، يا قبيح الأخلاق يا عظيم التواني قد سار الرفاق ، يا شديد التمادي قد صعب اللحاق ، إخلاصك معدم وما للنفاق نفاق ، معاصيك في إدراك والعمر في إمحاق ، وساعي الأجل مجد كأنه في سباق ، لا الوعظ يزجرك ، ولا الموت ينذرك ، وما تطاق . [ ص: 32 ]

          سجع على قوله تعالى :

          التائبون العابدون

          سبحان من وفق للتوبة أقواما ، ثبت لهم على صراطها أقداما ، كفوا الأكف عن المحارم احتراما ، وأتعبوا في استدراك الفارط عظاما ، فكفر عنهم ذنوبا وآثاما ، ونشر لهم بالثناء على ما عملوا أعلاما ، فهم على رياض المدائح بترك القبائح يتقلبون التائبون العابدون .

          كشف لهم سجف الدنيا فرأوا عيوبها ، وألاح لهم الأخرى فتلمحوا غيوبها ، وبادروا شمس الحياة يخافون غيوبها ، وأسبلوا من دموع الأجفان على تلك الأشجان غروبها ، واشتغلوا بالطاعات فحصلوا مرغوبها ، وحثهم الإيمان على الخوف فما يأمنون التائبون العابدون .

          ندموا على الذنوب فندبوا ، وسافروا إلى المطلوب فاغتربوا ، وسقوا غرس الخوف دمع الأسف وشربوا ، فإذا أقلقهم الحذر طاشوا وهربوا ، وإذا هب عليهم نسيم الرجاء عاشوا وطربوا ، فتأمل أرباحهم وتلمح ما كسبوا ، واعلم أن نيل النصيب بالنصب يكون التائبون العابدون .

          نظروا إلى الدنيا بعين الاعتبار ، فعلموا أنها لا تصلح للقرار ، وتأملوا أساسها فإذا هو على شفا جرف هار ، فنغصوا بالصيام لذة الهوى بالنهار ، وبالأسحار يستغفرون التائبون العابدون .

          هجروا المنازل الأنيقة ، وفصموا عرى الهوى الوثيقة ، وباعوا الفاني بالباقي وكتبوا وثيقة ، وحملوا نجائب الصبر فوق ما هي له مطيقة ، وطلبوا الآخرة والله على الحقيقة ، هكذا يكون التائبون العابدون .

          أبدانهم قلقى من الجوع والضرر ، وأجفانهم قد حالفت في الليل السهر ، ودموعهم تجري كما يجري دائمة المطر ، والقوم قد تأهبوا فهم على أقدام السفر ، عبروا عليكم ومروا لديكم وما عندكم خبر ، وترنمت حداتهم لو أنكم تسمعون التائبون العابدون .

          يا رب سر بنا في سرب النجابة ، ووفقنا للتوبة والإنابة ، وافتح لأدعيتنا أبواب الإجابة ، يا من إذا سأله المضطر أجابه ، يا من يقول للشيء كن فيكون التائبون العابدون . [ ص: 33 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية