[ ص: 220 ] ولهذا ألزم المعتزلة من نفى العلو بالذات بنفي ، وقالوا : كيف تعقل رؤية بغير جهة . الرؤية
وإنما لم نره في الدنيا لعجز أبصارنا ، لا لامتناع الرؤية ، فهذه الشمس إذا حدق الرائي البصر في شعاعها ضعف عن رؤيتها ، لا لامتناع في ذات المرئي ، بل لعجز الرائي ، فإذا كان في الدار الآخرة أكمل الله قوى الآدميين حتى أطاقوا رؤيته . ولهذا لما تجلى الله للجبل ، خر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ( الأعراف : 143 ) ، بأنه لا يراك حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده ، ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية الملك في صورته ، إلا من أيده الله كما أيد نبينا ، قال تعالى : وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ( الأنعام : 8 ) . قال غير واحد من السلف : لا يطيقون أن يروا الملك في صورته ، فلو أنزلنا عليهم ملكا لجعلناه في صورة بشر ، وحينئذ يشتبه عليهم : هل هو بشر أو ملك ؟ ومن تمام نعمة الله علينا أن بعث فينا رسولا منا .
وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام إلا لما وافقوهم على أنه لا داخل العالم ولا خارجه . لكن قول من أثبت موجودا يرى لا في جهة ، أقرب إلى العقل من قول من أثبت موجودا قائما بنفسه لا يرى ولا في جهة .
ويقال لمن قال بنفي الرؤية لانتفاء لازمها وهو الجهة : أتريد بالجهة أمرا وجوديا أو أمرا عدميا ؟ فإن أراد بها أمرا وجوديا كان التقدير : كل ما ليس في شيء موجود لا يرى ، وهذه المقدمة ممنوعة ، ولا دليل على إثباتها ، بل هي باطلة ، فإن سطح العالم يمكن أن يرى ، وليس [ ص: 221 ] العالم في عالم آخر . وإن أردت بالجهة أمرا عدميا ، فالمقدمة الثانية ممنوعة ، فلا نسلم أنه ليس في جهة بهذا الاعتبار .
وكيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة ، وإنما يتلقاه من قول فلان ؟ ! وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله لا يتلقى تفسير كتاب الله من أحاديث الرسول ، ولا ينظر فيها ، ولا فيما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، المنقول إلينا عن الثقات النقلة ، الذين تخيرهم النقاد ، فإنهم لم ينقلوا نظم القرآن وحده ، بل نقلوا نظمه ومعناه ، ولا كانوا يتعلمون القرآن كما يتعلم الصبيان ، بل يتعلمونه بمعانيه . ومن لا يسلك سبيلهم فإنما يتكلم برأيه ، ومن يتكلم برأيه وما يظنه دين الله ولم يتلق ذلك من الكتاب والسنة فهو مأثوم وإن أصاب ، ومن أخذ من الكتاب والسنة فهو مأجور وإن أخطأ ، لكن إن أصاب يضاعف أجره .
وقوله : ( ( والرؤية حق لأهل الجنة ) ) تخصيص أهل الجنة بالذكر ، يفهم منه نفي الرؤية عن غيرهم . ولا شك في ، وكذلك يرونه في المحشر قبل دخولهم الجنة ، كما ثبت ذلك في ( ( الصحيحين ) ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويدل عليه قوله تعالى : رؤية أهل الجنة لربهم في الجنة تحيتهم يوم يلقونه سلام ( الأحزاب : 44 ) . واختلف في على ثلاثة أقوال : رؤية أهل المحشر
أحدها : أنه لا يراه إلا المؤمنون .
الثاني : يراه أهل الموقف ، مؤمنهم وكافرهم ، ثم يحتجب عن الكفار ولا يرونه بعد ذلك .
الثالث : يراه مع المؤمنين المنافقون دون بقية الكفار . وكذلك الخلاف في تكليمه لأهل الموقف .