وهذا تحقيق لوحدانيته ، لتوحيد الربوبية ، خلقا وقدرا ، وبداية ونهاية ، هو المعطي المانع ، لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، ولتوحيد الإلهية ، شرعا وأمرا ونهيا ، وإن العباد وإن كانوا يعطون جدا ملكا وعظمة وبختا ورياسة ، في الظاهر ، أو في الباطن ، كأصحاب المكاشفات والتصرفات الخارقة ، فلا ينفع ذا الجد منك الجد ، أي لا ينجيه ولا يخلصه ، ولهذا قال : لا ينفعه منك ، ولم يقل ولا ينفعه [ ص: 522 ] عندك لأنه لو قيل ذلك أوهم أنه لا يتقرب به إليك ، لكن قد لا يضره . فتضمن هذا الكلام تحقيق التوحيد ، وتحقيق قوله : إياك نعبد وإياك نستعين فإنه - : لكان الواجب أن لا يرجى إلا الله ، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يسأل إلا هو ، ولا يستغاث إلا به ، ولا يستعان إلا هو ، فله الحمد وإليه المشتكى ، وهو المستعان ، وبه المستغاث ، ولا حول ولا قوة إلا به . فكيف وليس شيء من الأسباب مستقلا بمطلوب ، بل لا بد من انضمام أسباب أخر إليه ، ولا بد أيضا من صرف الموانع والمعارضات عنه ، حتى يحصل المقصود ، فكل سبب فله شريك ، وله ضد ، فإن لم يعاونه شريكه ، ولم ينصرف عنه ضده - : لم تحصل مشيئته . لو قدر أن شيئا من الأسباب يكون مستقلا بالمطلوب ، وإنما يكون بمشيئة الله وتيسيره
والمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك ، ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له ، والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى ، ومجموع ذلك لا يفيد إن لم تصرف عنه المفسدات .
والمخلوق الذي يعطيك أو ينصرك ، فهو - مع أن الله يجعل فيه الإرادة والقوة والفعل - : فلا يتم ما يفعله إلا بأسباب كثيرة ، خارجة عن قدرته ، تعاونه على مطلوبه ، ولو كان ملكا مطاعا ، ولا بد أن يصرف عن الأسباب المتعاونة ما يعارضها ويمانعها ، فلا يتم المطلوب إلا بوجود المقتضي وعدم المانع .
وكل سبب معين فإنما هو جزء من المقتضي ، فليس في الوجود [ ص: 523 ] شيء واحد هو مقتض تام ، وإن سمي مقتضيا ، وسمي سائر ما يعينه شروطا - فهذا نزاع لفظي . وأما أن يكون في المخلوقات علة تامة تستلزم معلولها فهذا باطل .
ومن عرف هذا حق المعرفة انفتح له باب توحيد الله ، وعلم أنه لا يستحق أن يسأل غيره ، فضلا عن أن يعبد غيره ، ولا يتوكل على غيره ، ولا يرجى غيره .