الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وإذا قيل [1] : يفعل ما هو قديم ولا يفعل ما هو حادث .

                  قيل : فعلى هذا التقدير يجوز تغيير القديم ; لأن التقدير أن المعلول القديم [2] حدثت فيه الحوادث بعد أن لم تكن بلا سبب [ حادث ] [3] ، والمعلول القديم [4] لا يجوز تغييره فإنه يقتضي ( 7 تغيير علته التامة الأزلية الموجبة له . ثم على هذا التقدير المتضمن إثبات قديم معلول لله أو 7 ) [5] إثبات قدماء معلولة [6] عن الله مع حدوث الحوادث ( 9 الدائمة في ذلك القديم ، أو مع تجدد حدوث الحوادث 9 ) [7] فيها هو [8] قول بحدوث [ هذا ] [9] [ ص: 279 ] العالم ، كما يذكر ذلك عن ديمقراطيس [10] ومحمد بن زكريا الرازي وغيرهما - وهذا مبسوط في موضعه [11] - [ وكما هو قول من يقول بحدوث الأجسام كلها ، والرازي قد يجعل القولين قولا واحدا ، كما أشار إلى ذلك في " محصله " [12] وغير محصله . وذلك أن المعروف عن الحرنانيين [13] هو القول بالقدماء الخمسة ، ثم بنوا عليه تصور النفس و ( قد حدث لها عشق ) تعلقت بسببه بالهيولي ليكون للأجسام سبب اقتضى حدوثها [14] [15] ، لكنه [16] مع هذا باطل ، فإن [17] حدوث الحوادث بلا سبب إن كان ممتنعا بطل هذا القول ; لأنه يتضمن حدوث الحوادث بلا سبب ، ( 9 وإذا كانت أحوال الفاعل واحدة ، وهو لا يقوم به شيء من الأمور الاختيارية امتنع أن يختص بعض الأحوال بسبب يقتضي حدوث الأجسام 9 ) [18] ، وإن [ ص: 280 ] كان ممكنا أمكن حدوث كل ما سوى الله بعد أن لم يكن ، وكانت هذه القدماء مما يجوز حدوثه .

                  وأيضا ، فعلى هذا القول يكون موجبا بذاته [19] لمعلولاته [20] ع : لم يصر ، وهو خطأ . فاعلا بالاختيار لغيرها ، والقول بأحد القولين يناقض الآخر ] [21] . .

                  وإن قيل : إن الحوادث يجوز دوامها ، امتنع أن تكون علة أزلية لشيء منها ، والعالم لا يخلو منها على هذا التقدير ع ( فقط ) : والعالم على التقديرين ، وفي العبارة نقص وتحريف . بل هو مستلزم لها ، فيمتنع أن يكون علة [ تامة ] تامة : [22] . لها في الأزل ، ويمتنع أن يكون علة للملزوم دون لازمه .

                  ( 7 وأيضا ، فإن كل ما سوى الواجب يمكن وجوده وعدمه ، وكل ما كان كذلك فإنه لا يكون إلا موجودا بعد عدمه 7 ) [23] .

                  [24] [25] . [ وأيضا ، فإن القول بأن المفعول المعين يقارن فاعله أزلا وأبدا مما يعلم بطلانه بضرورة العقل ، ولهذا كان هذا مما اتفق عليه جماهير العقلاء من الأولين والآخرين ، حتى أرسطو وأصحابه القدماء ومن اتبعه من المتأخرين ، فإنهم متفقون على أن كل ما أمكن وجوده وعدمه لا يكون [ ص: 281 ] إلا محدثا مسبوقا بالعدم . وإنما أثبت ممكنا قديما ابن سينا ومن وافقه ، وقد أنكر ذلك عليه إخوانه الفلاسفة وبينوا أنه خالف في ذلك قول سلفه ، كما ذكر ذلك ابن رشد وغيره ، وكذلك عامة العقلاء من جميع الطوائف متفقون على أن كل ما يقال : إنه مفعول أو مبدع أو مصنوع لا يكون إلا محدثا .

                  ولهذا كان جماهير العقلاء إذا تصوروا أنه خلق السماوات والأرض تصوروا أنه أحدثها ، لا يتصور في عقولهم أن تكون مخلوقة قديمة ، وإن عبر عن ذلك بعبارات أخر مثل أن يقال : هي مبدعة قديمة أو مفعولة قديمة ونحو ذلك ، بل هذا وهذا جمع بين الضدين عند عامة العقلاء ، وما يذكره من يثبت مقارنة المفعول لفاعله من قولهم : حركت يدي فتحرك الخاتم ونحوه ، تمثيل غير مطابق ; لأنه ليس في شيء مما يذكرونه علة فاعلة تقدمت على المعلول المفعول ، وإنما الذي تقدم في اللفظ شرط أو سبب كالشرط ، ومثل ذلك يجوز أن يقارن المشروط ، هذا إذا سلم مقارنة الثاني للأول ، وإلا ففي كثير مما يذكرونه يكون متأخرا عنه مع اتصاله به ، كأجزاء الزمان بعضها مع بعض ، هو متصل بعضها ببعض مع التأخر .

                  وأما ما ذكره الرازي في " محصله " وغير محصله ; حيث قال [26] . : " اتفق المتكلمون على أن القديم يمتنع استناده [27] . إلى الفاعل ، واتفقت [ ص: 282 ] الفلاسفة على أنه غير ممتنع زمانا ، فإن العالم قديم عندهم زمانا مع أنه فعل الله تعالى " .

                  فيقال : أما نقله عن المتكلمين فصحيح ، وهو قول جماهير العقلاء من جميع الطوائف ، وأما نقله عن الفلاسفة ، فهو قول طائفة منهم كابن سينا ، وليس هو قول جمهورهم : لا القائلين بقدم العالم كأرسطو وأتباعه ، ولا القائلين بحدوث صورته ، وهم جمهور الفلاسفة ، فإن القائلين بقدمه لم يكونوا يثبتون له فاعلا مبدعا كما يقوله ابن سينا ، بل منهم من لا يثبت له علة فاعلة . وأرسطو يثبت له علة غائية يتشبه بها الفلك ، لم يثبت علة فاعلة ، كما يقوله ابن سينا وأمثاله ، وأما من قبل أرسطو فكانوا يقولون بحدوث السماوات ، كما يقوله أهل الملل .

                  ثم قال الرازي : " وعندي أن الخلاف في هذا المقام لفظي ؛ لأن المتكلمين يمتنعون من إسناد القديم [28] . إلى المؤثر الموجب بالذات ، وكذلك زعم مثبتو الحال [29] . بناء على أن عالمية الله وعلمه [30] . قديمان [31] . ، مع أن العالمية والقادرية معللة بالعلم والقدرة المحصل : مع أن العالمية معللة بالعلم . . وزعم أبو هاشم أن العالمية والقادرية والحيية والموجودية [32] معللة بحال [33] . خامسة مع أن الكل [ ص: 283 ] قديم . وزعم أبو الحسين [34] . أن العالمية حال [35] . معللة بالذات ، وهؤلاء وإن كانوا يمتنعون عن إطلاق لفظ القديم على هذه الأحوال ، ولكنهم يغطون المعنى [36] . في الحقيقة " .

                  فيقال : ليس في المتكلمين من يقول بأن المفعول قد يكون قديما : سواء كان الفاعل يفعل بمشيئته ، أو قدر أنه يفعل بذاته بلا مشيئة ، والصفات اللازمة للموصوف : فإن قيل : إنها قديمة فليست مفعولة عند أحد من العقلاء ، بل هي لازمة للذات بخلاف المفعولات الممكنة المباينة للفاعل ، فإن هذا هو المفعول الذي أنكر جمهور العقلاء على من قال بقدمه ، والمتكلمون وسائر جمهور العقلاء متفقون على أن المفعول لا يكون قديما ، وإن قدر أنه فاعل بالطبع كما تفعل الأجسام الطبيعية ، فما ذكره عن المتكلمين فليس بلازم لهم .

                  ثم قال [37] . : " وأما الفلاسفة فإنهم إنما جوزوا إسناد العالم القديم إلى البارئ لكونه عندهم [38] . موجبا بالذات ، حتى لو اعتقدو فيه كونه فاعلا بالاختيار لما جوزوا كونه موجبا [39] . للعالم القديم " .

                  [ ص: 284 ] قال [40] . : " فظهر من هذا اتفاق الكل على جواز إسناد القديم إلى الموجب القديم وامتناع إسناده إلى المختار " .

                  فيقال : بل الفلاسفة في كونه يفعل بمشيئته على قولين معروفين لهم . وأبو البركات وغيره يقولون بأنه فاعل بمشيئته مع قولهم بقدم العالم ، فتبين أن ما ذكره عن المتكلمين باطل ، وما ذكره عن الفلاسفة باطل .

                  أما الفلاسفة فعلى قولين ، وأما المتكلمون فمتفقون على بطلان ما حكاه عنهم أو ألزمهم به ، بل هم وجمهور العقلاء يقولون : يعلم بالضرورة أن كل مفعول فهو محدث ، ثم كونه مفعولا بالمشيئة أو بالطبع مقام ثان [41] . .

                  وليس العلم بكون المفعول محدثا مبنيا على كون الفاعل مريدا ، فإن الفعل عندهم لا يكون ابتداؤه إلا من قادر مريد ، لكن هذه قضية قائمة بنفسها ، وهذه قضية قائمة بنفسها ، وكل منهما دليل على حدوث كل ما سوى الله ، وهما أيضا قضيتان متلازمتان .

                  وهذه الأمور لبسطها موضع آخر ، ولكن المقصود هنا أن المبطلين لأصول الجهمية والمعتزلة من أهل السنة والشيعة وغيرهم يقولون بهذه [ ص: 285 ] الطرق ] [42] . ، فهذه الطرق [43] . وغيرها مما يبين [44] . به حدوث كل [45] ما سوى الله [ تعالى ] [46] . ، سواء قيل بأن كل حادث مسبوق بحادث أو لم يقل .

                  وأيضا [47] . ، فما يقوله قدماء الشيعة والكرامية ونحوهم ، لهؤلاء [48] . أن يقولوا : نحن علمنا أن العالم مخلوق بما فيه من آثار الحاجة ، كما قد تبين [49] . قبل هذا أن كل جزء من العالم محتاج ، فلا يكون ( 9 واجبا بنفسه ، فيكون 9 ) [50] . مفتقرا إلى الصانع ، فثبت [51] . الصانع بهذا الطريق .

                  ثم يقولوا [52] . : ويمتنع وجود حوادث لا أول لها ، فثبت حدوثه بهذا الطريق .

                  ولهذا كان محمد بن الهيصم [53] . ومن وافقه كالقاضي أبي خازم بن [ ص: 286 ] القاضي أبي يعلى [54] . [ في كتابه المسمى " بالتلخيص " ] [55] . لا يسلكون في إثبات الصانع الطريق التي يسلكها [ أولئك " المعتزلة [56] . ومن وافقهم [ حيث يثبتون أولا حدوث العالم بحدوث الأجسام ، ويجعلون ذلك هو الطريق إلى إثبات الصانع ] [57] . ، بل يبتدئون [58] . بإثبات الصانع ثم يثبتون حدوث العالم بتناهي الحوادث ولا يحتاجون أن يقولوا : كل جسم [ محدث ] [59] . .

                  وبالجملة فالتقديرات أربعة ، فإن الحوادث : إما أن يجوز دوامها ، [ وإما أن يمتنع دوامها ويجب أن يكون لها ابتداء ] [60] ، وعلى التقديرين : [ ص: 287 ] فإما أن يكون كل جسم محدثا [61] . وإما أن [ لا ] يكون ، [ وقد قال ] بكل قول طائفة من أهل القبلة وغيرهم [62] . .

                  وكل هؤلاء يقولون بحدوث الأفلاك وأن الله أحدثها بعد عدمها ، ليس فيهم من يقول بقدمها ، فإن ذلك قول الدهرية ، سواء قالوا : [ مع ذلك بإثبات عالم معقول كالعلة الأولى ، كما يقوله الإلهيون منهم ، أو لم يقولوا بذلك ، كما يقوله الطبيعيون منهم ; وسواء قالوا : إن تلك العلة الأولى هي علة غائية ، بمعنى أن الفلك يتحرك للتشبه بها ، كما هو قول أرسطو وأتباعه ، أو قالوا : إنها علة مبدعة للعالم ، كما يقوله ابن سينا وأمثاله ; أو قيل بالقدماء الخمسة كما يقوله الحرنانيون [63] . ونحوهم ، أو قيل بعدم صانع لها ] [64] . : سواء قيل بوجوب [ ثبوت ] وجودها [65] . أو حدوثها لا بنفسها ، أو وجوب وجود المادة وحدوث الصورة بلا محدث ، كما يذكر عن الدهرية المحضة منهم .

                  مع أن كثيرا من الناس يقولون [66] . : إن هذه الأقوال من جنس أقوال [67] السوفسطائية التي لا تعرف عن قوم معينين ، وإنما هي شيء يخطر لبعض الناس في بعض الأحوال [68] .

                  [ ص: 288 ] وإذا كان كذلك ، فقد تبين أنه ليس لهذا الإمامي ، وأمثاله من متأخري الإمامية والمعتزلة وموافقيهم حجة [69] . عقلية على بطلان قول إخوانهم من متقدمي الإمامية وموافقيهم ( 2 الذين نازعوهم في مسائل الصفات والقرآن وما يتبع 2 ) [70] . ذلك فكيف يكون حالهم [71] مع أهل السنة الذين هم أصح عقلا ونقلا ؟ ! [72] . .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية