وأما قوله [1] : " وأنه تعالى غير مرئي ولا مدرك بشيء من الحواس [2] لقوله تعالى : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) [3] [ سورة الأنعام : 103 ] ولأنه [4] ليس في جهة " .
فيقال : [ له ] [5] : أولا : النزاع في هذه المسألة بين [ طوائف ] [6] الإمامية كما النزاع فيها بين غيرهم [7] ، فالجهمية والمعتزلة والخوارج [8] وطائفة من غير ( * الإمامية [9] تنكرها . والإمامية لهم فيها قولان : فجمهور قدمائهم يثبت [10] الرؤية ، وجمهور * ) [11] متأخريهم ينفونها . وقد تقدم أن أكثر قدمائهم يقولون بالتجسيم [12] .
[ ص: 316 ] قال الأشعري [13] : " وكل المجسمة [14] إلا نفرا قليلا [15] يقول [16] بإثبات الرؤية ، وقد يثبت الرؤية من لا يقول بالتجسيم " .
قلت : وأما الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين ، كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي حنيفة وأمثال هؤلاء ، وسائر أهل السنة وأبي يوسف [17] والحديث والطوائف المنتسبين [18] إلى السنة والجماعة كالكلابية والأشعرية والسالمية وغيرهم ، فهؤلاء كلهم متفقون على ، والأحاديث بها متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أهل العلم بحديثه . إثبات الرؤية لله تعالى
[ وكذلك الآثار بها متواترة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وقد ذكر الإمام وغيره من الأئمة العالمين بأقوال السلف أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان متفقون على أن أحمد ، ومتفقون على أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه ، ولم يتنازعوا في ذلك إلا في نبينا - صلى الله عليه وسلم - خاصة : منهم من نفى رؤيته بالعين في الدنيا ومنهم من أثبتها . وقد بسطت هذه الأقوال والأدلة من الجانبين في غير هذا الموضع . والمقصود هنا نقل إجماع السلف على إثبات الرؤية [ ص: 317 ] بالعين في الآخرة ونفيها في الدنيا ، إلا الخلاف في النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة ] الله يرى في الآخرة بالأبصار [19] .
وأما احتجاجه [ واحتجاج النفاة أيضا ] بقوله [ تعالى ] [20] : ( لا تدركه الأبصار ) [ سورة الأنعام : 103 ] فالآية حجة عليهم لا لهم ، لأن الإدراك : إما أن يراد به مطلق الرؤية ، أو الرؤية ، أو الرؤية المقيدة بالإحاطة ، والأول باطل ، لأنه ليس كل من رأى شيئا يقال : إنه [ أدركه ، كما لا يقال : ] [21] أحاط به ، كما سئل [ رضي الله عنهما ] ابن عباس [22] عن ذلك فقال [23] : ألست ترى السماء ؟ قال : بلى ، قال : أكلها ترى [24] ؟ قال : لا .
ومن رأى جوانب الجيش أو الجبل [25] أو البستان أو المدينة لا يقال : إنه أدركها [26] ، وإنما يقال : أدركها إذا أحاط بها رؤية [27] ، ونحن في هذا المقام ليس علينا بيان ذلك ، وإنما ذكرنا هذا بيانا لسند [28] المنع ، بل المستدل بالآية عليه أن يبين أن الإدراك في لغة العرب مرادف للرؤية ، وأن كل من رأى شيئا يقال في لغتهم إنه أدركه ، وهذا لا سبيل إليه ، كيف وبين لفظ [ ص: 318 ] الرؤية ولفظ الإدراك [29] عموم وخصوص [ أو اشتراك لفظي ] [30] ، فقد تقع رؤية بلا إدراك ، [ وقد يقع إدراك بلا رؤية ] [31] ، فإن الإدراك [32] يستعمل في إدراك العلم وإدراك القدرة ، فقد [33] يدرك الشيء بالقدرة وإن لم يشاهد ، كالأعمى الذي طلب رجلا هاربا منه [34] فأدركه ولم يره ، وقد قال تعالى : ( فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين ) [ سورة الشعراء : 61 ، 62 ] فنفى موسى الإدراك مع إثبات الترائي [35] ، فعلم [36] أنه قد يكون رؤية بلا إدراك . والإدراك هنا هو إدراك القدرة ، أي ملحوقون [37] محاط بنا وإذا انتفى [38] هذا الإدراك فقد تنتفي [39] إحاطة البصر [ أيضا ] [40] .
ومما يبين ذلك أن الله [ تعالى ] [41] ، ذكر هذه الآية يمدح بها [42] نفسه [ ص: 319 ] سبحانه وتعالى ، ومعلوم أن كون الشيء لا يرى ليس صفة مدح ، لأن النفي المحض لا يكون مدحا إن لم يتضمن أمرا ثبوتيا ، ولأن المعدوم [43] أيضا لا يرى ، والمعدوم لا يمدح ، فعلم أن مجرد نفي الرؤية لا مدح فيه .
[ وهذا أصل مستمر ، وهو أن العدم المحض الذي لا يتضمن ثبوتا لا مدح فيه ولا كمال ، فلا يمدح الرب نفسه به ، بل ولا يصف نفسه به ، وإنما يصفها بالنفي المتضمن معنى ثبوت ، كقوله : ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) وقوله : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) ، وقوله : ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) ، وقوله : ( ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم ) [ سورة البقرة : 255 ] وقوله : ( لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ) [ سورة سبأ : 3 ] ، وقوله : ( وما مسنا من لغوب ) [ سورة ق : 38 ] ، ونحو ذلك من القضايا السلبية التي يصف الرب تعالى بها نفسه ، وأنها تتضمن اتصافه بصفات الكمال الثبوتية ، مثل كمال حياته وقيوميته وملكه وقدرته وعلمه وهدايته وانفراده بالربوبية والإلهية ونحو ذلك . وكل ما يوصف به العدم المحض فلا يكون إلا عدما محضا ، ومعلوم أن العدم المحض يقال فيه : إنه يرى ، فعلم أن نفي الرؤية عدم محض ، ولا يقال في العدم المحض : لا يدرك ، وإنما يقال : هذا فيما لا يدرك لعظمته لا لعدمه ] [44] .
[ وإذا [45] كان المنفي هو الإدراك ، فهو سبحانه وتعالى [46] لا يحاط به [ ص: 320 ] رؤية ، كما لا يحاط به علما ، ولا يلزم من نفي إحاطة العلم والرؤية نفي العلم [47] والرؤية ، بل يكون ذلك دليلا على أنه يرى ولا يحاط به ( 2 كما يعلم ولا يحاط به 2 ) [48] فإن تخصيص الإحاطة بالنفي [49] يقتضي أن مطلق الرؤية ليس بمنفي ، وهذا الجواب قول أكثر العلماء من السلف وغيرهم ، وقد روي معناه عن رضي الله عنهما ابن عباس [50] وغيره ] [51] . ( 6 وقد روي في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم 6 ) [52] . ولا [53] تحتاج [ ص: 321 ] الآية إلى تخصيص ولا خروج عن ظاهر الآية ، فلا [54] نحتاج أن نقول : لا نراه في الدنيا ، أو نقول : لا تدركه الأبصار بل المبصرون ، أو لا تدركه كلها بل بعضها ، ونحو ذلك من الأقوال التي فيها تكلف .
[ ثم نحن في هذا المقام يكفينا أن نقول : الآية تحتمل ذلك ، فلا يكون فيها دلالة على نفي الرؤية ، فبطل استدلال من استدل بها على الرؤية ، وإذا أردنا أن نثبت دلالة الآية على الرؤية مع نفيها للإدراك الذي هو الإحاطة أقمنا الدلالة على أن الإدراك في اللغة ليس هو مرادفا للرؤية ، بل هو أخص منها ، وأثبتنا ذلك باللغة وأقوال المفسرين من السلف وبأدلة أخرى سمعية وعقلية ] [55] .