الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما قوله [1] : " وأنه تعالى غير مرئي ولا مدرك بشيء من الحواس [2] لقوله تعالى : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) [3] [ سورة الأنعام : 103 ] ولأنه [4] ليس في جهة " .

                  فيقال : [ له ] [5] : أولا : النزاع في هذه المسألة بين [ طوائف ] [6] الإمامية كما النزاع فيها بين غيرهم [7] ، فالجهمية والمعتزلة والخوارج [8] وطائفة من غير ( * الإمامية [9] تنكرها . والإمامية لهم فيها قولان : فجمهور قدمائهم يثبت [10] الرؤية ، وجمهور * ) [11] متأخريهم ينفونها . وقد تقدم أن أكثر قدمائهم يقولون بالتجسيم [12] .

                  [ ص: 316 ] قال الأشعري [13] : " وكل المجسمة [14] إلا نفرا قليلا [15] يقول [16] بإثبات الرؤية ، وقد يثبت الرؤية من لا يقول بالتجسيم " .

                  قلت : وأما الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين ، كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي حنيفة وأبي يوسف وأمثال هؤلاء ، وسائر أهل السنة [17] والحديث والطوائف المنتسبين [18] إلى السنة والجماعة كالكلابية والأشعرية والسالمية وغيرهم ، فهؤلاء كلهم متفقون على إثبات الرؤية لله تعالى ، والأحاديث بها متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أهل العلم بحديثه .

                  [ وكذلك الآثار بها متواترة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وقد ذكر الإمام أحمد وغيره من الأئمة العالمين بأقوال السلف أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان متفقون على أن الله يرى في الآخرة بالأبصار ، ومتفقون على أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه ، ولم يتنازعوا في ذلك إلا في نبينا - صلى الله عليه وسلم - خاصة : منهم من نفى رؤيته بالعين في الدنيا ومنهم من أثبتها . وقد بسطت هذه الأقوال والأدلة من الجانبين في غير هذا الموضع . والمقصود هنا نقل إجماع السلف على إثبات الرؤية [ ص: 317 ] بالعين في الآخرة ونفيها في الدنيا ، إلا الخلاف في النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة ] [19] .

                  وأما احتجاجه [ واحتجاج النفاة أيضا ] بقوله [ تعالى ] [20] : ( لا تدركه الأبصار ) [ سورة الأنعام : 103 ] فالآية حجة عليهم لا لهم ، لأن الإدراك : إما أن يراد به مطلق الرؤية ، أو الرؤية ، أو الرؤية المقيدة بالإحاطة ، والأول باطل ، لأنه ليس كل من رأى شيئا يقال : إنه [ أدركه ، كما لا يقال : ] [21] أحاط به ، كما سئل ابن عباس [ رضي الله عنهما ] [22] عن ذلك فقال [23] : ألست ترى السماء ؟ قال : بلى ، قال : أكلها ترى [24] ؟ قال : لا .

                  ومن رأى جوانب الجيش أو الجبل [25] أو البستان أو المدينة لا يقال : إنه أدركها [26] ، وإنما يقال : أدركها إذا أحاط بها رؤية [27] ، ونحن في هذا المقام ليس علينا بيان ذلك ، وإنما ذكرنا هذا بيانا لسند [28] المنع ، بل المستدل بالآية عليه أن يبين أن الإدراك في لغة العرب مرادف للرؤية ، وأن كل من رأى شيئا يقال في لغتهم إنه أدركه ، وهذا لا سبيل إليه ، كيف وبين لفظ [ ص: 318 ] الرؤية ولفظ الإدراك [29] عموم وخصوص [ أو اشتراك لفظي ] [30] ، فقد تقع رؤية بلا إدراك ، [ وقد يقع إدراك بلا رؤية ] [31] ، فإن الإدراك [32] يستعمل في إدراك العلم وإدراك القدرة ، فقد [33] يدرك الشيء بالقدرة وإن لم يشاهد ، كالأعمى الذي طلب رجلا هاربا منه [34] فأدركه ولم يره ، وقد قال تعالى : ( فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين ) [ سورة الشعراء : 61 ، 62 ] فنفى موسى الإدراك مع إثبات الترائي [35] ، فعلم [36] أنه قد يكون رؤية بلا إدراك . والإدراك هنا هو إدراك القدرة ، أي ملحوقون [37] محاط بنا وإذا انتفى [38] هذا الإدراك فقد تنتفي [39] إحاطة البصر [ أيضا ] [40] .

                  ومما يبين ذلك أن الله [ تعالى ] [41] ، ذكر هذه الآية يمدح بها [42] نفسه [ ص: 319 ] سبحانه وتعالى ، ومعلوم أن كون الشيء لا يرى ليس صفة مدح ، لأن النفي المحض لا يكون مدحا إن لم يتضمن أمرا ثبوتيا ، ولأن المعدوم [43] أيضا لا يرى ، والمعدوم لا يمدح ، فعلم أن مجرد نفي الرؤية لا مدح فيه .

                  [ وهذا أصل مستمر ، وهو أن العدم المحض الذي لا يتضمن ثبوتا لا مدح فيه ولا كمال ، فلا يمدح الرب نفسه به ، بل ولا يصف نفسه به ، وإنما يصفها بالنفي المتضمن معنى ثبوت ، كقوله : ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) وقوله : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) ، وقوله : ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) ، وقوله : ( ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم ) [ سورة البقرة : 255 ] وقوله : ( لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ) [ سورة سبأ : 3 ] ، وقوله : ( وما مسنا من لغوب ) [ سورة ق : 38 ] ، ونحو ذلك من القضايا السلبية التي يصف الرب تعالى بها نفسه ، وأنها تتضمن اتصافه بصفات الكمال الثبوتية ، مثل كمال حياته وقيوميته وملكه وقدرته وعلمه وهدايته وانفراده بالربوبية والإلهية ونحو ذلك . وكل ما يوصف به العدم المحض فلا يكون إلا عدما محضا ، ومعلوم أن العدم المحض يقال فيه : إنه يرى ، فعلم أن نفي الرؤية عدم محض ، ولا يقال في العدم المحض : لا يدرك ، وإنما يقال : هذا فيما لا يدرك لعظمته لا لعدمه ] [44] .

                  [ وإذا [45] كان المنفي هو الإدراك ، فهو سبحانه وتعالى [46] لا يحاط به [ ص: 320 ] رؤية ، كما لا يحاط به علما ، ولا يلزم من نفي إحاطة العلم والرؤية نفي العلم [47] والرؤية ، بل يكون ذلك دليلا على أنه يرى ولا يحاط به ( 2 كما يعلم ولا يحاط به 2 ) [48] فإن تخصيص الإحاطة بالنفي [49] يقتضي أن مطلق الرؤية ليس بمنفي ، وهذا الجواب قول أكثر العلماء من السلف وغيرهم ، وقد روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما [50] وغيره ] [51] . ( 6 وقد روي في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم 6 ) [52] . ولا [53] تحتاج [ ص: 321 ] الآية إلى تخصيص ولا خروج عن ظاهر الآية ، فلا [54] نحتاج أن نقول : لا نراه في الدنيا ، أو نقول : لا تدركه الأبصار بل المبصرون ، أو لا تدركه كلها بل بعضها ، ونحو ذلك من الأقوال التي فيها تكلف .

                  [ ثم نحن في هذا المقام يكفينا أن نقول : الآية تحتمل ذلك ، فلا يكون فيها دلالة على نفي الرؤية ، فبطل استدلال من استدل بها على الرؤية ، وإذا أردنا أن نثبت دلالة الآية على الرؤية مع نفيها للإدراك الذي هو الإحاطة أقمنا الدلالة على أن الإدراك في اللغة ليس هو مرادفا للرؤية ، بل هو أخص منها ، وأثبتنا ذلك باللغة وأقوال المفسرين من السلف وبأدلة أخرى سمعية وعقلية ] [55] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية