الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما قوله [1] : إن هذا ينفي الوثوق ويوجب التنفير ، فليس [ هذا ] [2] بصحيح [ فيما قبل النبوة ولا فيما يقع خطأ ، ولكن غايته أن يقال : هذا موجود فيما تعمد [3] من الذنب . فيقال ] [4] : بل [5] إذا اعترف الرجل الجليل القدر بما هو عليه من الحاجة إلى توبته واستغفاره ومغفرة الله [ له ] [6] ورحمته دل ذلك على صدقه وتواضعه وعبوديته لله وبعده عن الكبر والكذب ، بخلاف من يقول : ما بي [7] حاجة إلى شيء من هذا ولا يصدر [ مني ] [8] ما يحوجني إلى مغفرة الله لي وتوبته علي ، ويصر [9] على كل ما يقوله ويفعله بناء [10] على [ ص: 404 ] أنه [ لا ] يصدر منه [11] ما يرجع عنه ، فإن مثل هذا إذا عرف من رجل نسبه [12] . الناس إلى الكذب والكفر والجهل . وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لن يدخل أحد منكن الجنة بعمله " . قالوا : ولا أنت [ يا رسول الله ] [13] ؟ قال : " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " [14] ، فكان هذا من أعظم ممادحه [15] .

                  وكذلك قوله [ - صلى الله عليه وسلم - ] [16] : " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم [17] فإنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله " [18] . وكل من سمع هذا عظمه بمثل هذا الكلام . [ ص: 405 ] وفي الصحيحين عنه أنه كان يقول : " اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري ، وما أنت أعلم به مني ، [ اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي ، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني ] [19] ، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير " [20] . [21] [ وهذا كما أنه لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني " رواه أبو داود وغيره [22] ) . ، وقال : " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " رواه مالك وغيره [23] . - كان [ ص: 406 ] هذا التواضع مما زاده الله به رفعة . وكذلك لما سجد له بعض أصحابه فنهاه عن ذلك وقال : " إنه لا يصلح السجود إلا لله " [24] . . وكذلك لما كان بعض الناس يقول : ما شاء الله وشاء محمد ، قال : " أجعلتني ندا لله ؟ ! قل ما شاء الله ثم شاء محمد " [25] . . وقوله في دعائه : " أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المعترف المقر بذنبه ، أسألك مسألة المسكين ، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف ، من خضعت له رقبته ، وذل جسده ، ورغم أنفه لك " [26] . . ونحو [ ص: 407 ] هذه الأحوال التي رفع الله بها درجاته بما اعترف به من فقر العبودية وكمال الربوبية ] [27] . . والغنى عن الحاجة من خصائص الربوبية ، فأما العبد [ فكماله ] [28] ) . في حاجته إلى ربه وعبوديته وفقره وفاقته فكلما [29] . كانت عبوديته أكمل كان أفضل وصدور ما يحوجه إلى التوبة والاستغفار مما يزيده عبودية وفقرا وتواضعا .

                  ومن المعلوم أن ذنوبهم ليست كذنوب غيرهم ، بل كما يقال : " حسنات الأبرار سيئات المقربين " لكن كل يخاطب [30] . على قدر مرتبته ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون " [31]

                  وما ذكره من عدم الوثوق والتنفير قد يحصل مع الإصرار والإكثار ونحو ذلك . وأما اللمم الذي يقترن [32] . به التوبة والاستغفار ، [ أو ما يقع بنوع من [ ص: 408 ] التأويل ، وما كان قبل النبوة فإنه ] [33] . مما ب ( فقط ) : فمما . يعظم به الإنسان عند أولي الأبصار . وهذا عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] [34] . قد علم تعظيم رعيته له وطاعتهم ، مع كونه دائما كان يعترف [35] . بما يرجع عنه [36] . من خطأ وكان إذا اعترف بذلك وعاد إلى الصواب زاد في أعينهم وازدادوا [37] . له محبة وتعظيما .

                  ومن أعظم ما نقمه الخوارج ( 7 على علي أنه لم يتب من تحكيم الحكمين ، وهم 7 ) [38] . وإن كانوا جهالا [ في ذلك ] [39] . [ فهو ] يدل [40] . على أن التوبة لم تكن تنفرهم ، وإنما نفرهم الإصرار على ما ظنوه هم ذنبا . والخوارج من أشد الناس تعظيما للذنوب ونفورا عن أهلها ، حتى إنهم يكفرون بالذنب ولا يحتملون لمقدمهم ن [41] . ذنبا ، ومع هذا فكل مقدم لهم تاب عظموه وأطاعوه ، ومن لم يتب عادوه فيما يظنونه ذنبا [42] . وإن لم يكن ذنبا .

                  [ ص: 409 ] فعلم أن التوبة والاستغفار لا توجب تنفيرا ولا تزيل وثوقا ، بخلاف دعوى البراءة مما يتاب منه ويستغفر ، [ ودعوى ] السلامة [43] . مما يحوج الرجوع ب [44] . إلى الله واللجأ [45] . إليه ، فإنه هو الذي ينفر القلوب ويزيل الثقة . فإن هذا لم يعلم أنه صدر إلا عن كذاب ، أو جاهل ، وأما الأول فإنه يصدر [46] . عن الصادقين العالمين .

                  [47] . [ ومما يبين ذلك أنه لم يعلم أحد طعن في نبوة أحد من الأنبياء ولا قدح في الثقة به بما دلت عليه النصوص التي تيب منها ، ولا احتاج المسلمون إلى تأويل النصوص بما هو من جنس التحريف لها ، كما يفعله من يفعل ذلك . والتوراة فيها قطعة من هذا ، وما أعلم أن بني إسرائيل قدحوا في نبي من الأنبياء بتوبته في أمر من الأمور ، وإنما كانوا يقدحون فيهم بالافتراء عليهم كما كانوا يؤذون موسى عليه السلام ، وإلا فموسى قد قتل القبطي قبل النبوة وتاب من سؤال الرؤية وغير ذلك بعد النبوة ، وما أعلم أحدا من بني إسرائيل قدح فيه بمثل هذا .

                  وما جرى في سورة " النجم " من قوله : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتها لترتجى ، على المشهور عند السلف والخلف من أن ذلك جرى على لسانه ، ثم نسخه الله وأبطله [48] ، هو من أعظم المفتريات على قول [ ص: 410 ] هؤلاء ، ولهذا كان كثير من الناس يكذب هذا وإن كان مجوزا عليهم غيره : إما قبل النبوة وإما بعدها ، لظنه أن في ذلك خطأ في التبليغ ، وهو معصوم في التبليغ بالاتفاق . والعصمة المتفق عليها أنه لا يقر على خطأ في التبليغ بالإجماع ، ومن هذا فلم يعلم أحد من المشركين نفر برجوعه عن هذا ، وقوله : إن هذا مما ألقاه الشيطان ، ولكن روى أنهم نفروا لما رجع إلى ذم آلهتهم بعد ظنهم أنه مدحها ، فكان رجوعهم لدوامه على ذمها ، لا لأنه قال شيئا ثم قال : إن الشيطان ألقاه . وإذا كان هذا لم ينفر فغيره أولى أن لا ينفر .

                  وأيضا ، فقد ثبت أن النسخ نفر طائفة كما قال : ( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) [ سورة البقرة : 142 ] ، وقوله : ( وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا ) [ سورة النحل : 101 - 102 ] ، فالتبديل الذي صرحوا بأنه منفر ونفروا به عنه لم يكن مما يجب نفيه عنه ، فكيف بالرجوع إلى الحق الذي لم يعلم أنهم نفروا منه ، وهو أقل تنفيرا ؟ ! لأن النسخ فيه رجوع عن الحق إلى حق ، وهذا رجوع إلى حق من غير حق .

                  ومعلوم أن الإنسان يحمد على ترك الباطل إلى الحق ما لا يحمد على [ ص: 411 ] ترك ما لم يزل يقول إنه حق [49] . . وإذا كان جائزا فهذا أولى ، وإذا كان في ذلك مصلحة ففي هذا أيضا مصالح عظيمة ، ولولا أن فيها وفي العلم بها مصالح لعباده لم يقصها في غير موضع من كتابه . وهو سبحانه - وله الحمد - لم يذكر عن نبي من الأنبياء ذنبا إلا ذكر معه توبته لينزهه عن النقص والعيب ، ويبين أنه ارتفعت منزلته وعظمت درجته وعظمت حسناته وقربه إليه بما أنعم الله عليه من التوبة والاستغفار والأعمال الصالحة التي فعلها بعد ذلك ، وليكون ذلك أسوة لمن يتبع الأنبياء ويقتدي بهم إلى يوم القيامة .

                  ولهذا لما لم يذكر عن يوسف توبة في قصة امرأة العزيز دل على أن يوسف لم يذنب أصلا ، في تلك القصة كما يذكر من يذكر أشياء نزهه الله منها بقوله تعالى : ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ) [ سورة يوسف : 24 ] ، وقد قال تعالى : ( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) [ سورة يوسف : 24 ] . والهم - كما قال الإمام أحمد رضي الله عنه - : همان ، هم خطرات وهم إصرار . وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال إن الله تعالى يقول إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة كاملة ، فإن عملها فاكتبوها عشرا إلى سبعمائة ضعف ، وإذا هم بسيئة فلا تكتبوها عليه ، فإن تركها فاكتبوها له حسنة فإنما تركها من جراي " [50] . [ ص: 412 ] فيوسف - عليه الصلاة والسلام - لما هم ترك همه لله ، فكتب الله به حسنة كاملة ولم يكتب عليه سيئة قط ، بخلاف امرأة العزيز فإنها همت وقالت وفعلت ، فراودته بفعلها وكذبت عليه عند سيدها واستعانت بالنسوة ، وحبسته لما اعتصم وامتنع عن الموافقة على الذنب ولهذا قالت : ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ) [ سورة يوسف : 53 ] ، وهذا من قولها كما دل عليه القرآن ، ليس من كلام يوسف عليه السلام ، بل لما قالت هذا كان يوسف غائبا في السجن لم يحضر عند الملك ، بل لما برأته هي والنسوة استدعاه الملك بعد هذا وقال : ( ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين ) [ سورة يوسف : 54 ] . وأما من ذكر الله تعالى وتبارك عنه ذنبا كآدم عليه السلام فإنه لما قال : ( وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ) [ سورة طه : 121 ، 122 ] وقال : ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ) [ سورة البقرة : 37 ] . [ ص: 413 ] وقال تعالى عن داود عليه السلام : ( وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ) [ سورة ص : 24 ، 25 ] . وقال لموسى عليه السلام والصلاة : ( إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم ) [ سورة النمل : 10 ، 11 ] ومن احتج على امتناع ذلك بأن الاقتداء بهم مشروع ، والاقتداء بالذنب لا يجوز . قيل له : إنما يقتدى بهم فيما أقروا عليه ، لا فيما نهوا [51] . عنه ، كما أنه إنما يقتدى بهم فيما أقروا عليه ولم ينسخ ولم ينسه فيما نسخ ، وحينئذ فيكون التأسي بهم مشروعا مأمورا به لا يمنع وقوع ما ينهون عنه ولا يقرون عليه لا من هذا ولا من هذا ، وإن كان اتباعهم في المنسوخ لا يجوز بالاتفاق . ومما يبين أن النسخ أشد تنفيرا أن الإنسان إذا رجع عن شيء إلى آخر ، وقال : الأول الذي كنت عليه حق أمرني الله به ، ورجوعي عنه حق أمرني الله به ، كان هذا أقرب إلى النفور عنه من أن يقول : رجعت عما لم يأمرني الله به ، فإن الناس كلهم يحمدون من قال هذا . وأما من قال : أمري بهذا حق ونهيي عنه حق ، فهذا مما نفر عنه كثير من السفهاء ، وأنكره من أنكره من اليهود وغيرهم .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية