ومما يبين الكلام في مسألة العصمة أن تعرف ، فإن الناس تكلموا في ذلك بحسب أصولهم في أفعال الله [ ص: 414 ] تعالى ، إذا كان جعل الشخص نبيا رسولا من أفعال الله تعالى ، فمن نفى الحكم والأسباب في أفعاله وجعلها معلقة بمحض المشيئة وجوز عليه فعل كل ممكن ولم ينزهه عن فعل من الأفعال - كما هو قول النبوة ولوازمها وشروطها وكثير من الناس ، الجهم بن صفوان ومن وافقه من أهل الكلام من أتباع كالأشعري مالك والشافعي وغيرهم من مثبتة القدر - فهؤلاء يجوزون بعثة كل مكلف ، والنبوة عندهم مجرد إعلامه بما أوحاه إليه ، والرسالة مجرد أمره بتبليغ ما أوحاه إليه ، وليست النبوة عندهم صفة ثبوتية ولا مستلزمة لصفة يختص بها ، بل هي من الصفات الإضافية كما يقولون مثل ذلك في الأحكام الشرعية . وأحمد
وهذا قول طوائف من أهل الكلام كالجهم بن صفوان وأتباعهما ولهذا من يقول بها والأشعري كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وغيرهما يقول : إن العقل لا يوجب عصمة النبي إلا في التبليغ خاصة فإن هذا هو مدلول المعجزة وما سوى ذلك إن دل السمع عليه ، وإلا لم تجب عصمته منه .
وقال محققو هؤلاء كأبي المعالي وغيره إنه ليس في السمع قاطع يوجب العصمة ، والظواهر تدل على وقوع الذنوب منهم [1] . ، وكذلك كالقاضي أبي بكر إنما يثبت ما يثبته من العصمة في غير التبليغ إذا كان من موارد الإجماع لأن الإجماع حجة وما سوى ذلك فيقول لم يدل عليه عقل ولا سمع .
وإذا احتج المعتزلة وموافقوهم من الشيعة عليهم بأن هذا يوجب [ ص: 415 ] التنفير ونحو ذلك فيجب من حكمة الله منعهم منه ، قالوا : هذا مبني على مسألة التحسين والتقبيح العقليين . قالوا : ونحن نقول لا يجب على الله شيء ويحسن منه كل شيء ، وإنما ننفي ما ننفيه بالخبر السمعي ، ونوجب وقوع ما يقع بالخبر السمعي أيضا ، كما أوجبنا ثواب المطيعين وعقوبة الكافرين لإخباره أنه يفعل ذلك ونفينا أن يغفر لمشرك لإخباره أنه لا يفعل ذلك ، ونحو ذلك [2] " . . وكثير من القدرية المعتزلة والشيعة وغيرهم ممن يقول بأصله في التعديل والتجوير وأن الله لا يفضل شخصا على شخص إلا بعمله ، يقول : إن النبوة ، أو الرسالة جزاء على عمل متقدم ، فالنبي فعل من الأعمال الصالحة ما استحق به أن يجزيه الله بالنبوة . وهؤلاء القدرية في شق وأولئك الجهمية الجبرية في شق . وأما المتفلسفة القائلون بقدم العالم وصدوره عن علة موجبة - مع إنكارهم أن الله تعالى يفعل بقدرته ومشيئته ، وأنه يعلم الجزئيات فالنبوة عندهم فيض يفيض على الإنسان بحسب استعداده وهي مكتسبة عندهم ، ومن كان متميزا - في قوته العلمية [3] . بحيث يستغني عن التعليم ، وشكل في نفسه خطاب يسمعه كما يسمع النائم ، وشخص [ ص: 416 ] يخاطبه كما يخاطب النائم ، وفي العملية بحيث يؤثر في العنصريات تأثيرا غريبا - كان نبيا عندهم [4] " . . وهم لا يثبتون ملكا مفضلا يأتي بالوحي من الله تعالى ، ولا ملائكة [5] . بل ولا جنا يخرق الله بهم العادات للأنبياء ، إلا قوى النفس [6] " . . وقول هؤلاء ، وإن كان شرا من أقوال كفار اليهود والنصارى وهو أبعد الأقوال عما جاءت به الرسل ، فقد وقع فيه كثير من المتأخرين الذين لم يشرق عليهم نور النبوة من المدعين للنظر العقلي والكشف الخيالي الصوفي وإن كان غاية هؤلاء الأقيسة الفاسدة والشك ، وغاية هؤلاء الخيالات الفاسدة والشطح .