الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  والقول الرابع [1] . : - وهو الذي عليه جمهور سلف الأمة وأئمتها وكثير من النظار - أن الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ، والله أعلم حيث يجعل رسالاته ، فالنبي يختص بصفات ميزه الله بها على غيره وفي عقله ودينه ، واستعد بها لأن يخصه الله بفضله ورحمته كما قال تعالى : ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ) [ ص: 417 ] [ سورة الزخرف : 31 ، 32 ] ، وقال تعالى : ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) [ سورة البقرة : 105 ] ، وقال تعالى لما ذكر الأنبياء بقوله : ( ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم [ سورة الأنعام : 84 - 87 ] فأخبر أنه اجتباهم وهداهم .

                  والأنبياء أفضل الخلق باتفاق المسلمين ، وبعدهم الصديقون والشهداء والصالحون فلولا وجوب كونهم من المقربين ، الذين هم فوق أصحاب اليمين ، لكان الصديقون أفضل منهم ، أو من بعضهم .

                  والله تعالى قد جعل خلقه ثلاثة أصناف ، فقال تعالى : في تقسيمهم في الآخرة : ( وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ) [ سورة الواقعة : 7 - 12 ] ، وقال في تقسيمهم عند الموت : ( فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم ) [ سورة الواقعة : 88 - 94 ] وكذلك ذكر في سورة الإنسان والمطففين هذه الأصناف الثلاثة .

                  [ ص: 418 ] والأنبياء أفضل الخلق ، وهم ( أصحاب ) [2] ، السياق يقتضي إثباتها . الدرجات العلى في الآخرة ، فيمتنع أن يكون النبي من الفجار بل ولا يكون من عموم أصحاب اليمين بل من أفضل السابقين المقربين ، فإنهم أفضل من عموم الصديقين والشهداء والصالحين ، وإن كان النبي أيضا يوصف بأنه صديق وصالح وقد يكون شهيدا ، لكن ذاك أمر يختص بهم لا يشركهم فيه من ليس بنبي ، كما قال عن الخليل : ( وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) [ سورة العنكبوت : 27 ] ، وقال يوسف : ( توفني مسلما وألحقني بالصالحين ) [ سورة يوسف : 101 ] .

                  فهذا مما يوجب تنزيه الأنبياء أن يكونوا من الفجار والفساق ، وعلى هذا إجماع سلف الأمة وجماهيرها .

                  وأما من جوز أن يكون غير النبي أفضل منه فهو من أقوال بعض ملاحدة المتأخرين من غلاة الشيعة والصوفية والمتفلسفة ونحوهم .

                  وما يحكى عن [3] . أنهم جوزوا الكفر على النبي ، فهذا بطريق اللازم لهم لأن كل معصية عندهم كفر ، وقد جوزوا المعاصي على النبي ، وهذا يقتضي فساد قولهم بأن كل معصية كفر [ ص: 419 ] وقولهم بجواز المعاصي عليهم ، وإلا فلم يلتزموا أن يكون النبي كافرا ، ولازم المذهب لا يجب أن يكون مذهبا .

                  وطوائف أهل الكلام الذين يجوزون بعثة كل مكلف ، من الجهمية والأشعرية ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهم ، متفقون أيضا على أن الأنبياء أفضل الخلق ، وأن النبي لا يكون فاجرا . لكن يقولون : هذا لم يعلم بالعقل بل علم بالسمع ، بناء على ما تقدم من أصلهم من أن الله يجوز أن يفعل كل ممكن .

                  وأما الجمهور الذين يثبتون الحكمة والأسباب فيقولون : نحن نعلم بما علمناه من حكمة الله أنه لا يبعث نبيا فاجرا وأن ما ينزل على البر الصادق لا يكون إلا ملائكة ، لا تكون شياطين ، كما قال تعالى : ( وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين ) - إلى قوله - ( هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) [ سورة الشعراء : 192 - 226 ] .

                  فهذا مما بين الله به الفرق بين الكاهن والنبي وبين الشاعر والنبي ، لما زعم المفترون أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - شاعر وكاهن ، وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أتاه الوحي في أول الأمر وخاف على نفسه قبل أن يستيقن أنه ملك قال لخديجة : " لقد خشيت على نفسي " . قالت : كلا ، والله لا يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل [ ص: 420 ] الكل ، وتقري الضيف ، وتكسب المعدوم ، وتعين على نوائب الحق [4] ) . . فاستدلت رضي الله عنها بحسن عقلها على أن من يكون الله قد خلقه بهذه الأخلاق الكريمة ، التي هي من أعظم صفات الأبرار الممدوحين ، أنه لا يجزيه فيفسد الشيطان عقله ودينه ، ولم يكن معها قبل ذلك وحي تعلم به انتفاء ذلك ، بل علمته بمجرد عقلها الراجح .

                  وكذلك لما ادعى النبوة من ادعاها من الكذابين ، مثل مسيلمة الكذاب والعنسي وغيرهما ، مع ما كان يشتبه من أمرهم ، لما كان ينزل عليهم من الشياطين ويوحون إليهم ، حتى يظن الجاهل أن هذا من جنس ما ينزل على الأنبياء ويوحى إليهم ، فكان ما يبلغ العقلاء وما يرونه [5] . من سيرتهم والكذب الفاحش والظلم ونحو ذلك يبين لهم أنه ليس بنبي ، إذ قد علموا أن النبي لا يكون كاذبا ولا فاجرا .

                  وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال له ذو الخويصرة : اعدل يا محمد ، فإنك لم تعدل ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لقد خبت وخسرت إن لم أعدل ، ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء " [ ص: 421 ] [6] ، فإنك تجوز أن يكون الرسول الذي آمنت به ظالما ، وهذا خيبة وخسران ، فإن ذلك ينافي النبوة ويقدح فيها .

                  وقد قال تعالى : ( وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ) [ سورة آل عمران : 161 ] ، وفيه قراءتان : يغل ويغل ، أي ينسب إلى الغلول ، بين سبحانه أنه ما لأحد أن ينسبه إلى الغلول ، كما أنه ليس له أن يغل ، فدل على أن النبي لا يكون غالا .

                  ودلائل هذا الأصل عظيمة ، لكن مع وقوع الذنب الذي هو بالنسبة إليه ذنب - وقد لا يكون ذنبا من غيره مع تعقبه بالتوبة والاستغفار لا يقدح في كون الرجل من المقربين السابقين ولا الأبرار ، ولا يلحقه بذلك وعيد في الآخرة ، فضلا عن أن يجعله من الفجار .

                  وقد قال تعالى في عموم وصف المؤمنين : ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة ) [ سورة النجم : 31 ، 32 ] . وقال : ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين ) [ سورة آل عمران : 133 - 136 ] . [ ص: 422 ] وقال تعالى : ( والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون ) [ سورة الزمر : 33 - 35 ] . وقال : ( حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ) [ سورة الأحقاف : 15 ، 16 ] .

                  وقد قال في قصة إبراهيم عليه السلام : ( فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ) [ سورة العنكبوت : 26 ] ، وقال في قصة شعيب عليه السلام : ( قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين [ سورة الأعراف : 88 ، 89 ] ، وقال في سورة إبراهيم : ( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ) [ سورة إبراهيم : 13 ] .

                  وقد ذم الله تعالى وتبارك فرعون بكونه رفع نبوة موسى بما تقدم من قتله [ ص: 423 ] نفسا بغير حق فقال : ( ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين [ سورة الشعراء : 18 - 21 ] ، وكان موسى - صلى الله عليه وسلم - قد تاب من ذلك كما أخبر الله تعالى عنه وغفر له بقوله : ( فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ) [ سورة القصص : 15 ، 16 ] .

                  فإن قيل : فإذا كان قد غفر له فلماذا يمتنعون من الشفاعة يوم القيامة لأجل ما بدا منهم [7] . ، فيقول آدم إذا طلبت منه الشفاعة : إني نهيت عن أكل الشجرة وأكلت منها ، نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح ، فيأتون نوحا [8] . فيقول : إني دعوت على أهل الأرض دعوة لم أومر بها ، والخليل يذكر تعريضاته الثلاث التي سماها كذبا وكانت تعريضا ، وموسى يذكر قتل النفس [9] . .

                  [ ص: 424 ] قيل : هذا من كمال فضلهم وخوفهم وعبوديتهم وتواضعهم ، فإن من فوائد ما يتاب [10] . منه أنه يكمل عبودية العبد ويزيده خوفا وخضوعا فيرفع الله بذلك درجته ، وهذا الامتناع مما يرفع الله به درجاتهم ، وحكمة الله تعالى في ذلك أن تصير الشفاعة لمن غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .

                  [ ص: 425 ] ولهذا كان ممن امتنع ولم يذكر ذنبا المسيح ، وإبراهيم أفضل منه وقد ذكر ذنبا ، ولكن قال المسيح : لست هناكم اذهبوا إلى عبد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر . وتأخر المسيح عن المقام المحمود الذي خص به محمد - صلى الله عليه وسلم - هو من فضائل المسيح ومما يقربه إلى الله . صلوات الله عليهم أجمعين .

                  فعلم أن تأخرهم عن الشفاعة لم يكن لنقص درجاتهم عما كانوا عليه ، بل لما علموه من عظمة المقام المحمود الذي يستدعي من كمال مغفرة الله للعبد ، وكمال عبودية العبد لله ما اختص به من غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، ولهذا قال المسيح : اذهبوا إلى محمد عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فإنه إذا غفر له ما تأخر لم يخف أن يلام إذا ذهب إلى ربه ليشفع ، وإن كان لم يشفع إلا بعد الإذن ، بل إذا سجد وحمد ربه بمحامد يفتحها عليه لم يكن يحسنها قبل ذلك ، فيقال له : أي محمد : ارفع رأسك ، وقل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، وهذا كله في الصحيحين وغيرهما .

                  وأما من ( قيل له ) [11] . تقدم ولم يعرف أنه غفر له ما تأخر فيخاف أن يكون ذهابه إلى الشفاعة - قبل أن يؤذن له في الشفاعة - ذنبا ، فتأخر لكمال خوفه من الله تعالى ، ويقول أنا قد أذنبت وما غفر لي فأخاف أن أذنب ذنبا [12] . آخر ; فإن النبي - صلى الله [ ص: 426 ] عليه وسلم - قال : " المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين " [13] \ 70 . .

                  ومن معاني ذلك أنه لا يؤتى من وجه واحد مرتين ، فإذا ذاق الذائق ما في الذنب من الألم وزال عنه خاف أن يذنب ذنبا آخر فيحصل له مثل ذلك الألم ، وهذا كمن مرض من أكلة ثم عوفي ، فإذا دعي إلى أكل شيء خاف أن يكون مثل ذلك الأول لم يأكله ، يقول قد أصابني بتلك الأكلة ما أصابني فأخاف أن تكون هذه مثل تلك ، ولبسط هذه الأمور موضع آخر .

                  والمقصود هنا أن الذين [14] ادعوا العصمة مما يتاب منه عمدتهم أنه لو صدر منهم الذنب لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة ، لأن درجتهم أعلى فالذنب منهم أقبح ، وأنه يجب أن يكون فاسقا فلا تقبل شهادته ، وأنه حينئذ يستحق العقوبة فلا يكون إيذاؤه محرما ، وأذى الرسول محرم بالنص ، وأنه يجب الاقتداء بهم ولا يجوز الاقتداء بأحد في ذنب .

                  ومعلوم أن العقوبة ونقص الدرجة إنما يكون مع عدم التوبة ، وهم معصومون من الإصرار بلا ريب .

                  وأيضا ، فهذا إنما يتأتى في بعض الكبائر دون الصغيرة [15] . ، وجمهور [ ص: 427 ] المسلمين على تنزيههم من الكبائر لا سيما الفواحش ، وما ذكر الله تعالى عن نبي كبيرة فضلا عن الفاحشة ، بل ذكر في قصة يوسف ما يبين أنه يصرف السوء والفحشاء عن عباده المخلصين ; وإنما يقتدى بهم فيما أقروا عليه ولم ينهوا عنه .

                  وأيضا ، فالذنوب أجناس ، ومعلوم أنه لا يجوز منهم كل جنس ، بل الكذب لا يجوز منهم بحال أصلا ، فإن ذلك ينافي مطلق الصدق ، ولهذا ترد شهادة الشاهد للكذبة الواحدة ، وإن لم تكن كبيرة في أحد قولي العلماء ، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد . ولو تاب شاهد الزور من الكذب هل تقبل شهادته ؟ فيه قولان للعلماء ، والمشهور عن مالك أنها لا تقبل . وكذلك من كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث واحد ثم تاب منه لم تقبل روايته في أحد قوليهم ، وهو مذهب مالك وأحمد حسما للمادة ، لأنه لا يؤمن أن يكون أظهر التوبة ليقبل حديثه .

                  فلا يجوز أن يصدر من النبي - صلى الله عليه وسلم - تعمد الكذب ألبتة ، سواء كان صغيرة ، أو كبيرة ، بل قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين " [16] . . وأما قوله : - صلى الله عليه [ ص: 428 ] وسلم - : " لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله [17] . " فتلك كانت معاريض [18] " . فكان مأمورا بها ، وكانت منه طاعة لله ، والمعاريض قد تسمى كذبا لكونه أفهم خلاف ما في نفسه .

                  وفي الصحيحين عن أم كلثوم قالت : لم أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يرخص فيما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث : حديث الرجل لامرأته ، وإصلاحه بين الناس ، وفي الحرب [19] ) . .

                  [ ص: 429 ] قالت : فيما [20] . يقول الناس إنه كذب ، وهو المعاريض .

                  وأما ما تقوله الرافضة من أن النبي قبل النبوة وبعدها لا يقع منه خطأ ولا ذنب صغير ، وكذلك الأئمة ، فهذا مما انفردوا به عن فرق الأمة كلها ، وهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف .

                  ومن مقصودهم بذلك القدح في إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لكونهما أسلما بعد الكفر ، ويدعون أن عليا رضي الله عنه لم يزل مؤمنا ، وأنه لم يخط قط ولم يذنب قط ، وكذلك تمام الاثني عشر .

                  وهذا مما يظهر كذبهم وضلالهم فيه لكل ذي عقل يعرف أحوالهم ، ولهذا كانوا هم أغلى الطوائف في ذلك وأبعدهم عن العقل والسمع .

                  ونكتة أمرهم أنهم ظنوا وقوع ذلك من الأنبياء والأئمة نقصا ، وأن ذلك يجب تنزيههم عنه ، وهم مخطئون إما في هذه المقدمة ، وإما في هذه المقدمة .

                  أما المقدمة الأولى فليس من تاب إلى الله تعالى وأناب إليه بحيث صار بعد التوبة أعلى درجة مما كان قبلها منقوصا ولا مغضوضا منه ، بل هذا مفضل عظيم مكرم ، وبهذا ينحل جميع ما يوردونه من الشبه .

                  وإذا عرف أن أولياء الله يكون الرجل منهم قد أسلم بعد كفره وآمن بعد نفاقه وأطاع بعد معصيته ، كما كان أفضل أولياء الله من هذه الأمة - وهم السابقون الأولون - يبين صحة هذا الأصل .

                  [ ص: 430 ] والإنسان ينتقل من نقص إلى كمال ، فلا ينظر إلى نقص البداية ، ولكن ينظر إلى كمال النهاية ، فلا يعاب الإنسان بكونه كان نطفة ثم صار علقة ثم صار مضغة ، إذا كان الله بعد ذلك خلقه في أحسن تقويم . ومن نظر إلى ما كان فهو من جنس إبليس الذي قال : ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) [ سورة ص : 76 ] ، وقد قال تعالى : ( إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) [ سورة ص : 71 ، 72 ] ، فأمرهم بالسجود له إكراما لما شرفه الله بنفخ الروح فيه ، وإن كان مخلوقا من طين ، والملائكة مخلوقون من نور ، وإبليس مخلوق من نار ، كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " خلق الله الملائكة من نور ، وخلق إبليس من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم " [21] . .

                  وكذلك التوبة بعد السيئات ; قال تعالى : ( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) [ سورة البقرة : 222 ] . وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه أنه قال : " لله أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فقال تحت شجرة ينتظر الموت ، فلما استيقظ إذا بدابته عليها طعامه وشرابه ، فكيف تجدون فرحه بها ؟ قالوا : عظيما يا رسول الله . قال : لله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته " [22] . .

                  [ ص: 431 ] ولهذا قال بعض السلف : إن العبد ليفعل الذنب فيدخل به الجنة .

                  وإذا ابتلى العبد بالذنب ، وقد علم أنه سيتوب منه ويتجنبه ، ففي ذلك من حكمة الله ورحمته بعبده أن ذلك يزيده عبودية وتواضعا وخشوعا وذلا ورغبة في كثرة الأعمال الصالحة ونفرة قوية عن السيئات ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " [23] . .

                  وذلك أيضا يدفع عنه العجب والخيلاء ونحو ذلك مما يعرض للإنسان وهو أيضا يوجب الرحمة لخلق الله ورجاء التوبة والرحمة لهم إذا أذنبوا وترغيبهم في التوبة .

                  وهو أيضا يبين [24] . من فضل الله وإحسانه وكرمه ما لا يحصل بدون ذلك ، كما في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم " [25] \ 414 . .

                  [ ص: 432 ] وهو أيضا يبين قوة حاجة العبد إلى الاستعانة بالله والتوكل عليه واللجأ إليه في أن يستعمله في طاعته ويجنبه معصيته ، وأنه لا يملك ذلك إلا بفضل الله عليه وإعانته له ، فإن من ذاق مرارة الابتلاء وعجزه عن دفعه إلا بفضل الله ورحمته ، كان شهود قلبه وفقره إلى ربه واحتياجه إليه في أن يعينه على طاعته ويجنبه معصيته أعظم ممن لم يكن كذلك . ولهذا قال بعضهم : كان داود - صلى الله عليه وسلم - بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة . وقال بعضهم : لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه .

                  ولهذا تجد التائب الصادق أثبت على الطاعة وأرغب فيها وأشد حذرا من الذنب من كثير من الذين لم يبتلوا بذنب ، كما في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد ، فإنه لما قتل رجلا بعد أن قال لا إله إلا الله ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ؟ " [26] ) . أثر هذا فيه حتى كان يمتنع أن يقتل أحدا يقول لا إله إلا الله وكان هذا مما أوجب امتناعه من القتال في الفتنة .

                  وقد تكون التوبة موجبة له من الحسنات ما لا يحصل لمن يكن مثله ( تائبا ) من الذنب [27] . ، كما في الصحيحين من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه ، وهو أحد الثلاثة الذين أنزل الله فيهم : [ ص: 433 ] ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم ) [ سورة التوبة : 117 ] ، ثم قال : ( وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم ) [ سورة التوبة : 118 ] .

                  وإذا ذكر حديث كعب في قضية تبين أن الله رفع درجته بالتوبة ، ولهذا قال : فوالله ما أعلم أحدا ابتلاه الله بصدق الحديث أعظم مما ابتلاني [28] . .

                  وكذلك قال بعض من كان من أشد الناس عدواة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كسهيل بن عمرو ، والحارث بن هشام ، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان من أشد الكفار هجاء وإيذاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما تاب وأسلم كان من أحسن الناس إسلاما وأشدهم حياء وتعظيما للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك الحارث بن هشام ، قال الحارث : ما نطقت بخطيئة منذ أسلمت [29] . ; ومثل هذا كثير في أخبار التوابين .

                  [ ص: 434 ] فمن يجعل التائب الذي اجتباه الله وهداه منقوصا بما كان من الذنب الذي تاب منه ، وقد صار بعد التوبة خيرا مما كان قبل التوبة ، فهو جاهل بدين الله تعالى وما بعث الله به رسوله ، وإذا لم يكن في ذلك نقص مع وجود ما ذكر فجميع ما يذكرونه هو مبني على أن ذلك نقص ، وهو نقص إذا لم يتب منه ، أو هو نقص عمن ساواه إذا لم يصر بعد التوبة مثله ، فأما إذا تاب توبة محت أثره بالكلية وبدلت سيئاته حسنات فلا نقص فيه بالنسبة إلى حاله ، وإذا صار بعد التوبة أفضل ممن يساويه أو مثله لم يكن ناقصا عنه [30] . .

                  ولسنا نقول إن كل من أذنب وتاب فهو أفضل ممن لم يذنب ذلك الذنب ، بل هذا يختلف باختلاف أحوال الناس ، فمن الناس من يكون بعد التوبة أفضل ، ومنهم من يعود إلى ما كان ، ومنهم من لا يعود إلى مثل حاله ، والأصناف الثلاثة فيهم من هو أفضل ممن لم يذنب ويتب ، وفيهم من هو مثله ، وفيهم من هو دونه .

                  وهذا الباب فيه مسائل كثيرة ليس هذا موضع تفصيلها ، ولبسطها موضع آخر ، والمقصود التنبيه .

                  ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وغيرهم من أئمة المسلمين متفقين على ما دل عليه الكتاب والسنة من أحوال الأنبياء ، لا يعرف عن أحد منهم القول بما أحدثته المعتزلة والرافضة ومن [ ص: 435 ] تبعهم في هذا الباب ، بل كتب التفسير والحديث والآثار والزهد وأخبار السلف مشحونة عن الصحابة والتابعين بمثل ما دل عليه القرآن ، وليس فيهم من حرف الآيات كتحريف هؤلاء ، ولا من كذب بما في الأحاديث كتكذيب هؤلاء ، ولا من قال هذا يمنع الوثوق ، أو يوجب التنفير ونحو ذلك كما قال هؤلاء ، بل أقوال هؤلاء الذين غلوا بجهل من الأقوال المبتدعة في الإسلام .

                  وهم قصدوا تعظيم الأنبياء بجهل كما قصدت النصارى تعظيم المسيح وأحبارهم ورهبانهم بجهل ، فأشركوا بهم واتخذوهم أربابا من دون الله وأعرضوا عن اتباعهم فيما أمروهم به ونهوهم عنه .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية