الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  الوجه الرابع :

                  أن قوله عن أهل السنة إنهم لم يثبتوا العدل ، والحكمة ، وجوزوا عليه فعل القبيح ، والإخلال بالواجب نقل باطل عنهم من وجهين :

                  أحدهما : أن كثيرا من أهل السنة الذين لا يقولون في الخلافة بالنص [1] على علي ، ولا بإمامة الاثني عشر يثبتون ما ذكره من العدل ، والحكمة على الوجه الذي قاله هو - وشيوخه عن هؤلاء أخذوا ذلك - كالمعتزلة ، وغيرهم ممن وافقهم متأخرو [2] الرافضة على القدر ، فنقله عن جميع أهل السنة [ ص: 134 ] - الذين هم في اصطلاحه ، واصطلاح العامة [ من ] [3] سوى الشيعة - هذا القول كذب بين [4] منه .

                  الوجه الثاني : أن سائر أهل السنة الذين يقرون بالقدر ليس فيهم من يقول : إن الله [ تعالى ] [5] ليس بعدل ، ولا من يقول : [ إنه ] [6] ليس بحكيم ، ولا فيهم من يقول : إنه يجوز أن يترك . واجبا ، ولا أن يفعل قبيحا .

                  فليس في المسلمين من يتكلم بمثل هذا الكلام الذي أطلقه ، ومن أطلقه كان [7] كافرا مباح الدم باتفاق المسلمين .

                  ولكن هذه مسألة القدر ، والنزاع فيها معروف بين المسلمين : فأما نفاة القدر - كالمعتزلة ، ونحوهم - فقولهم هو الذي ذهب إليه متأخرو الإمامية .

                  و [ أما ] المثبتون [8] للقدر ، وهو جمهور الأمة ، وأئمتها كالصحابة ، والتابعين لهم بإحسان ، وأهل البيت ، وغيرهم ، فهؤلاء تنازعوا في تفسير عدل الله ، وحكمته ، والظلم الذي يجب تنزيهه عنه ، وفي تعليل أفعاله ، وأحكامه ، ونحو ذلك .

                  فقالت طائفة : إن الظلم ممتنع منه غير مقدور ، وهو محال لذاته كالجمع بين النقيضين [9] ، وإن كل ممكن مقدور ، فليس هو ظلما ، وهؤلاء . [ ص: 135 ] هم الذين قصدوا الرد عليهم ، وهؤلاء يقولون : إنه لو عذب المطيعين ، ونعم العصاة لم يكن ظالما [10] ، وقالوا : الظلم التصرف فيما ليس له ، والله تعالى له كل شيء ، أو هو مخالفة الأمر ، والله لا آمر له ، وهذا قول كثير من أهل الكلام المثبتين للقدر ، ومن وافقهم من الفقهاء أصحاب الأئمة الأربعة .

                  وقالت طائفة : بل الظلم مقدور ممكن ، والله تعالى منزه [11] لا يفعله لعدله ، ولهذا مدح الله نفسه [12] حيث أخبر أنه لا يظلم الناس شيئا ، والمدح إنما يكون بترك المقدور [ عليه ] [13] لا بترك الممتنع .

                  قالوا : وقد قال تعالى : ( ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما ) [ سورة طه : 112 ] قالوا : الظلم أن يحمل عليه سيئات غيره والهضم أن يهضم حسناته .

                  وقال تعالى : ( ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ) [ سورة هود : 100 - 101 ] ، فأخبر [14] أنه لم يظلمهم لما أهلكهم ، بل أهلكهم بذنوبهم .

                  وقال تعالى : ( وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ) [ سورة الزمر : 69 ] ، فدل على أن القضاء بينهم بغير القسط ظلم ، والله منزه عنه .

                  وقال تعالى : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا ) [ سورة الأنبياء : 47 ] . [ ص: 136 ] أي لا تنقص من حسناتها ، ولا [15] تعاقب بغير سيئاتها ، فدل على أن ذلك ظلم ينزه الله عنه .

                  وقال تعالى : ( قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد ) [ سورة ق : 28 - 29 ] ، وإنما نزه نفسه عن أمر يقدر عليه لا عن الممتنع [16] لنفسه .

                  ومثل هذا في القرآن في غير موضع مما يبين أن الله ينتصف من العباد ، ويقضي بينهم بالعدل ، وأن القضاء بينهم بغير العدل ظلم ينزه [17] الله عنه ، وأنه لا يحمل على أحد ذنب غيره .

                  وقال تعالى : [18] ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) [ سورة الأنعام : 164 ] ، فإن ذلك ينزه الله عنه ، بل لكل نفس ما كسبت ، [ وعليها ما اكتسبت ] [19] .

                  وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله [ تعالى ] [20] يقول : ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا . ) [21] ، فقد حرم على نفسه الظلم ، كما كتب على نفسه الرحمة في قوله : ( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) [ سورة الأنعام : 54 ] .

                  [ ص: 137 ] وفي [ الحديث ] الصحيح : [22] ( لما قضى الله الخلق كتب في كتاب [23] فهو موضوع عنده فوق العرش : إن رحمتي غلبت غضبي . ) [24] ، والأمر الذي كتبه الله [25] على نفسه ، أو حرمه على نفسه لا يكون إلا مقدورا له [26] [ سبحانه ] [27] ، فالممتنع لنفسه لا يكتبه على نفسه ، ولا يحرمه على نفسه .

                  وهذا القول قول أكثر أهل السنة ، والمثبتين [28] للقدر من أهل الحديث ، والتفسير ، والفقه ، والكلام ، والتصوف [ من أتباع الأئمة الأربعة ، وغيرهم ] [29] .

                  وعلى هذا القول ، فهؤلاء هم [30] القائلون بعدل الله [ تعالى ] [31] ، وإحسانه دون من يقول من القدرية : إن من فعل كبيرة حبط إيمانه ، فإن هذا نوع من الظلم الذي نزه الله [ سبحانه ] [32] نفسه عنه ، وهو القائل : [ ص: 138 ] ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) [ سورة الزلزلة : 7 - 8 . ] .

                  وأما من اعتقد أن منته على المؤمنين بالهداية دون الكافرين ظلم منه ، فهذا جهل لوجهين :

                  أحدهما : أن هذا تفضل [ منه ] [33] ، كما قال تعالى : ( بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ) [ سورة الحجرات : 17 ] .

                  وكما قالت الأنبياء : ( إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ) [ سورة إبراهيم : 11 ] ، وقال تعالى : ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ) [ سورة الأنعام : 53 ] .

                  فتخصيص هذا بالإيمان كتخصيص هذا بمزيد علم ، وقوة ، وصحة ، وجمال [34] ، ومال . قال تعالى : ( أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ) [ سورة الزخرف : 32 ] .

                  وإذا خص أحد الشخصين بقوة ، وطبيعة تقضي غذاء صالحا خصه بما يناسب ذلك من الصحة ، [ والعافية ] [35] ، وإذا [36] لم يعط الآخر ذلك [37] نقص عنه ، وحصل له ضعف ، ومرض .

                  [ ص: 139 ] والظلم . [38] وضع الشيء في غير موضعه ، فهو لا يضع العقوبة إلا في المحل الذي يستحقها لا يضعها [39] على محسن أبدا .

                  وفي الصحيحين [40] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض ، فإنه لم يغض ما في يمينه ، والقسط بيده الأخرى يقبض ، ويبسط . ) [41] فبين [42] أنه سبحانه يحسن ، ويعدل ، ولا يخرج فعله عن العدل ، والإحسان ، ولهذا قيل : كل نعمة منه فضل ، وكل نقمة منه عدل .

                  ولهذا يخبر أنه تعالى يعاقب الناس بذنوبهم ، وأن إنعامه عليهم إحسان منه ، كما في الحديث الصحيح الإلهي : يقول الله تعالى : ( يا عبادي [ إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا ] [43] إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن [ ص: 140 ] وجد خيرا ، فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومن إلا نفسه . ) [44] .

                  وقد قال [45] تعالى : ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) [ سورة النساء : 79 ] أي ما أصابك من نعم تحبها كالنصر ، والرزق ، فالله أنعم بذلك عليك ، وما أصابك من نقم [46] تكرهها ، فبذنوبك ، وخطاياك ، فالحسنات ، والسيئات هنا [47] أراد بها النعم ، والمصائب ، كما قال تعالى : ( وبلوناهم بالحسنات والسيئات ) [ سورة الأعراف : 68 ] ، وكما قال [ تعالى ] [48] : ( إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ) [ سورة التوبة : 50 ] ، وقوله تعالى : ( إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ) [ سورة آل عمران : 120 ] .

                  ومثل هذا قوله [ تعالى ] [49] : ( وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون ) [ سورة الروم : 36 ] .

                  فأخبر أن ما يصيب به الناس من الخير فهو رحمة منه أحسن بها إلى [ ص: 141 ] عباده ، وما أصابهم [ به ] [50] من العقوبات ، فبذنوبهم ، وتمام الكلام على هذا مبسوط في مواضع أخر [51] .

                  وكذلك الحكمة أجمع المسلمون على أن الله تعالى موصوف بالحكمة لكن تنازعوا في تفسير ذلك .

                  فقالت طائفة : الحكمة ترجع إلى علمه بأفعال العباد ، وإيقاعها على الوجه الذي أراده ، ولم يثبتوا إلا العلم والإرادة والقدرة .

                  وقال الجمهور من أهل السنة ، وغيرهم : بل هو حكيم في خلقه ، وأمره ، والحكمة ليست مطلق المشيئة إذ لو كان كذلك لكان كل مريد حكيما ، ومعلوم أن الإرادة تنقسم إلى محمودة ومذمومة ، بل الحكمة [ تتضمن ] [52] ما في خلقه وأمره من العواقب المحمودة والغايات المحبوبة ، والقول بإثبات هذه الحكمة ليس هو قول المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة فقط ، بل هو قول جماهير طوائف المسلمين من أهل التفسير ، والفقه والحديث والتصوف والكلام وغيرهم . فأئمة الفقهاء متفقون على إثبات الحكمة والمصالح في أحكامه الشرعية ، وإنما ينازع . [53] في ذلك [ ص: 142 ] طائفة من نفاة القياس [54] . وغير نفاته ، وكذلك ما في خلقه من المنافع والحكم والمصالح لعباده معلوم .

                  وأصحاب القول الأول كجهم [ بن صفوان وموافقيه ] : كالأشعري ومن وافقه [55] من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم يقولون : ليس في القرآن لام التعليل في أفعال الله ، بل ليس فيه إلا لام العاقبة .

                  وأما الجمهور فيقولون : بل [56] لام التعليل داخلة في أفعال الله تعالى ، [ وأحكامه ] [57] .

                  والقاضي أبو يعلى [58] ، وأبو الحسن بن الزاغوني [59] ، ونحوهما من أصحاب أحمد ، وإن كانوا [ قد ] [60] يقولون بالأول ، فهم يقولون بالثاني أيضا في غير موضع ، وكذلك أمثالهم من الفقهاء [ أصحاب مالك ، والشافعي ، وغيرهما ] [61] .

                  [ ص: 143 ] . وأما ابن عقيل [62] . والقاضي . [63] في بعض المواضع ، وأبو خازم بن القاضي أبي يعلى [64] ، وأبو الخطاب [65] ، فيصرحون بالتعليل والحكمة في أفعال الله تعالى موافقة لمن قال ذلك من أهل النظر .

                  والحنفية هم من أهل السنة القائلين بالقدر ، وجمهورهم يقولون بالتعليل ( * والمصالح ، والكرامية [66] ، وأمثالهم هم [67] أيضا من القائلين [ ص: 144 ] بالقدر المثبتين لخلافة الخلفاء المفضلين لأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وهم أيضا يقولون بالتعليل * ) [68] ، والحكمة ، وكثير من أصحاب [ مالك ] [69] ، والشافعي وأحمد يقولون بالتعليل ، والحكمة ، وبالتحسين والتقبيح [ العقليين ] [70] كأبي بكر القفال [71] ، وأبي علي ابن أبي هريرة [72] ، وغيرهم من أصحاب الشافعي ، وأبي الحسن التميمي [73] ، وأبي الخطاب

                  [74] من أصحاب أحمد .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية