[ فصل ]
قال المصنف [1] الرافضي [2] : " وهذا يستلزم أشياء شنيعة منها : ، ولم يخلق فيه قدرة على الإيمان ، فكما أنه يلزم الظلم لو عذبه على لونه وطوله وقصره لأنه لا قدرة له فيها ، كذا أن يكون الله أظلم من كل ظالم ، لأنه يعاقب الكافر على كفره وهو قدره عليه [3] يكون ظالما لو عذبه على المعصية التي فعلها فيه " .
فيقال : الظلم قد تقدم أن للجمهور المثبتين للقدر في تفسيره قولين : [4] أحدهما : أن الظلم ممتنع لذاته غير مقدور ، كما يصرح بذلك ، الأشعري والقاضي أبو بكر ، وأبو المعالي ، ، والقاضي أبو يعلى وابن الزاغوني [5] ، وغير [ ص: 21 ] هؤلاء : [6] يقولون : [7] إنه يمتنع أن يوصف بالقدرة على الكذب [8] والظلم وغيرهما من أنواع [9] القبائح ، ولا يصح وصفه بشيء من ذلك .
قالوا : والدلالة على استحالة وقوع الظلم والقبيح [10] منه [ أن الظلم والقبيح ] [11] ما شرع الله وجوب ذم فاعله ، وذم الفاعل لما ليس له فعله ، ولن يكون كذلك حتى يكون متصرفا فيما غيره أملك به وبالتصرف فيه منه ، فوجب استحالة ذلك في حقه من حيث [ إنه ] [12] لم يكن آمرا لنا [13] بذمه ، ولا كان ممن يجوز دخول أفعاله تحت تكليف من نفسه لنفسه [14] ، ولا يكون فعله تصرفا في شيء غيره أملك به [15] ، فثبت [ بذلك ] [16] استحالة تصوره في حقه .
وحقيقة قول هؤلاء أن الذم إنما يكون لمن تصرف في ملك غيره ومن عصى الآمر [17] [ الذي فوقه ] [18] ، والله سبحانه وتعالى يمتنع أن يأمره أحد ، ويمتنع أن يتصرف في ملك غيره ، فإن له كل شيء .
[ ص: 22 ] وهذا القول يروى عن [19] إياس بن معاوية [20] ، قال : ما خاصمت بعقلي كله إلا القدرية ، قلت : لهم [21] أخبروني ما الظلم ؟ قالوا : [22] أن يتصرف الإنسان في ما ليس له . قلت : فلله كل شيء .
وهم [23] لا يسلمون أنه لو عذبه بسبب لونه وطوله وقصره كان ظالما حتى يحتج عليهم بهذا القياس ، بل يجوزون التعذيب لا بجرم [24] سابق ولا لغرض لاحق . وهذا المشنع لم يذكر دليلا على بطلانه ، فلم يذكر دليلا على بطلان قولهم .
والقول الثاني : أن . وهذا قول الجمهور [ من المثبتين للقدر ونفاته ، وهو قول كثير من النظار المثبتة للقدر ، الظلم مقدور ، والله تعالى منزه عنه كالكرامية ، وغيرهم ، وكثير من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم ، وهو قول وأحمد القاضي أبي خازم [25] . [26] وغيره وهذا ] [27] كتعذيب الإنسان بذنب غيره ، كما قال تعالى : ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما [ سورة طه 112 ] .
[ ص: 23 ] وهؤلاء يقولون : الفرق بين تعذيب الإنسان على فعله الاختياري وغير فعله الاختياري مستقر في فطر العقول ، فإن الإنسان لو كان له ابن [28] في جسمه مرض [29] أو عيب خلق فيه لم يحسن [30] ذمه ولا عقابه على ذلك ، ولو ظلم ابنه أحدا لحسن [31] عقوبته على ذلك .
ويقولون : ، فإن الظالم لغيره لو احتج بالقدر لاحتج ظالمه بالقدر أيضا الاحتجاج بالقدر على الذنوب مما يعلم بطلانه بضرورة العقل [32] ، فإن كان القدر حجة لهذا فهو حجة لهذا ، وإلا فلا . [33]
والأولون أيضا يمنعون ، فإن الاحتجاج به باطل باتفاق أهل الملل وذوي العقول ، وإنما يحتج به على القبائح والمظالم من هو متناقض القول متبع لهواه ، كما قال بعض العلماء : أنت عند الطاعة قدري ، وعند المعصية جبري ، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به . الاحتجاج بالقدر
ولو كان القدر حجة لفاعل الفواحش والمظالم لم يحسن أن يلوم [34] أحد أحدا ، ولا يعاقب أحد أحدا ، فكان [35] للإنسان أن يفعل في دم غيره وماله وأهله ما يشتهيه [36] من المظالم والقبائح ، ويحتج بأن ذلك مقدر عليه [37] .
[ ص: 24 ] والمحتجون على المعاصي بالقدر أعظم بدعة وأنكر قولا وأقبح طريقا من المنكرين للقدر ، فالمكذبون بالقدر من المعتزلة والشيعة وغيرهم المعظمون للأمر [38] والنهي والوعد والوعيد ، خير من الذين يرون القدر حجة لمن ترك المأمور وفعل المحظور ، كما يوجد ذلك[39] في كثير من المدعين للحقيقة [40] الذين يشهدون القدر [41] ، ويعرضون عن الأمر والنهي ، من الفقراء والصوفية والعامة وغيرهم ، فلا عذر لأحد في ترك مأمور ولا فعل محظور [42] بكون ذلك مقدرا [43] عليه ، بل لله الحجة البالغة على خلقه .
، وهم أعداء الملل . وأكثر ما أوقع الناس في التكذيب بالقدر احتجاج هؤلاء به . ولهذا اتهم بمذهب القدر غير واحد ولم يكونوا قدرية ، بل كانوا والقدرية المحتجون بالقدر على المعاصي شر من القدرية المكذبين بالقدر [44] لا يقبلون الاحتجاج على المعاصي بالقدر [45] ، كما قيل : كان للإمام أحمد قدريا ، فقال : الناس ابن أبي ذئب [46] كل من شدد عليهم المعاصي ، قالوا هذا قدري [47] وقد قيل إنه بهذا السبب [48] نسب إلى [ ص: 25 ] الحسن [49] القدر ، لكونه كان شديد الإنكار للمعاصي ناهيا عنها ، ولذلك نجد الواحد من هؤلاء ينكر على من ينكر المنكر ، ويقول : هؤلاء قدر عليهم ما فعلوه [50] . فيقال لهذا [51] : وإنكار هذا المنكر أيضا بقدر الله ، فنقضت قولك بقولك .
وهؤلاء يقول بعض مشايخهم : أنا كافر برب يعصى ، ويقول : لو قتلت سبعين نبيا لم أكن مخطئا [52] ويقول بعض شعرائهم : أصبحت منفعلا لما يختاره مني ففعلي كله طاعات [53] .
ومن الناس من يظن أن احتجاج آدم على موسى بالقدر كان من هذا الباب ، وهذا [54] جهل عظيم ، فإن الأنبياء من أعظم الناس أمرا بما أمر الله به ، ونهيا عما نهى الله عنه ، وذما لمن ذمه الله ، وإنما بعثوا بالأمر بالطاعة لله [55] ، والنهي عن معصية الله ، فكيف يسوغ أحد منهم [56] أن يعصي عاص لله محتجا بالقدر ؟ ولأن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ، ولأنه لو كان القدر حجة لكان حجة لإبليس وفرعون وسائر الكفار ، ولكن كان ملام موسى لآدم [ عليهما السلام ] [57] لأجل المصيبة [58] [ ص: 26 ] التي لحقتهم بسبب أكله ، ولهذا قال له [59] : لماذا أخرجتنا ونفسك [60] من الجنة ؟ .
والمؤمن مأمور أن يرجع إلى القدر عند المصائب ، لا عند الذنوب والمعاصي [61] ، فيصبر على المصائب ، ويستغفر من الذنوب ، كما قال تعالى : فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك [ سورة غافر 55 ] وقال تعالى : ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها الأية [ سورة الحديد 22 ] وقال : ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه [ سورة التغابن : 11 ] قال [ رضي الله عنه ] ابن مسعود [62] : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم .
و [ لهذا ] قال [63] غير واحد من السلف [ والصحابة والتابعين لهم بإحسان ] لا يبلغ [64] الرجل [65] حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه .