nindex.php?page=treesubj&link=28776فالإيمان بالقدر ، والرضا بما قدره الله من المصائب والتسليم لذلك ، هو من حقيقة [1] الإيمان . وأما الذنوب فليس لأحد أن يحتج فيها بقدر الله
[ ص: 27 ] تعالى
[2] ، بل عليه أن لا يفعلها ، وإذا فعلها فعليه أن يتوب منها ، كما فعل
[3] آدم . ولهذا قال بعض الشيوخ :
[4] اثنان أذنبا ذنبا :
آدم وإبليس
[5] فآدم تاب فتاب الله عليه [ واجتباه وهداه ] ، وإبليس
[6] أصر واحتج بالقدر ، فمن تاب من ذنبه أشبه أباه
آدم ، ومن أصر واحتج بالقدر أشبه إبليس .
وإذا كان الفرق بين الفاعل المختار
[7] وبين غيره مستقرا في بدائه
[8] العقول ، حصل المقصود . وكذلك إذا كان مستقرا في بدائه
[9] العقول أن الأفعال الاختيارية تكسب نفس الإنسان صفات محمودة وصفات مذمومة ، بخلاف لونه وطوله وعرضه ، فإنها لا تكسبه ذلك .
فالعلم النافع ، والعمل الصالح ، والصلاة الحسنة ، وصدق الحديث ، وإخلاص العمل لله ، وأمثال ذلك : تورث القلب صفات محمودة . كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إن للحسنة لنورا في القلب ، وضياء في الوجه ، وسعة في الرزق ، وقوة في البدن ، ومحبة في قلوب الخلق . وإن للسيئة لسوادا في الوجه ، وظلمة
[10] في القلب ، ووهنا في البدن ، ونقصا في الرزق ، وبغضا في قلوب الخلق .
[ ص: 28 ] nindex.php?page=treesubj&link=28847_28852ففعل الحسنة له آثار محمودة موجودة
[11] في النفس وفي الخارج ، وكذلك فعل
[12] السيئات . والله تعالى جعل الحسنات سببا لهذا ، [ والسيئات سببا لهذا ، كما جعل أكل السم سببا للمرض والموت . وأسباب الشر لها أسباب تدفع بمقتضاها ]
[13] ، فالتوبة والأعمال الصالحة تمحى بها السيئات ،
nindex.php?page=treesubj&link=26613والمصائب في الدنيا تكفر بها السيئات ، كما أن السم تارة يدفع موجبه بالدواء ، وتارة يورث مرضا يسيرا ، ثم تحصل العافية .
وإذا قيل : خلق الفعل مع حصول العقوبة عليه
[14] ظلم ، كان بمنزلة أن يقال : خلق أكل
[15] السم ثم حصول الموت به ظلم . والظلم وضع الشيء في غير موضعه ، واستحقاق هذا الفاعل لأثر فعله الذي هو معصية الله ، كاستحقاقه لأثره إذا ظلم العباد
[16] .
وهذا الآن ينزع
[17] إلى مسألة
nindex.php?page=treesubj&link=20691التحسين والتقبيح ، فإن الناس متفقون على أن كون الفعل يكون سببا لمنفعة العبد وحصول ما يلائمه ، وسببا لحصول مضرته ، وحصول ما ينافيه ، قد يعلم بالعقل ، وكذلك كونه قد يكون صفة كمال وصفة نقص ، وإنما تنازعوا في كونه [ يكون ]
[18] سببا للعقاب والذم على قولين مشهورين .
[ ص: 29 ] والنزاع في ذلك بين أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد ، وبين أصحاب
[19] nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك ، وبين أصحاب
[20] nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وغيرهم . وأما
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة وأصحابه فيقولون بالتحسين والتقبيح ، وهو قول جمهور الطوائف من المسلمين وغيرهم ، وفي الحقيقة فهذا النزاع
[21] يرجع إلى الملاءمة والمنافرة
[22] ، والمنفعة والمضرة ، فإن الذم والعقاب مما يضر العبد ولا يلائمه ، فلا يخرج الحسن
[23] والقبح عن حصول المحبوب والمكروه ، فالحسن ما حصل المحبوب المطلوب المراد لذاته
[24] ، والقبيح ما حصل المكروه البغيض ، فإذا كان الحسن يرجع إلى المحبوب ، والقبيح يرجع إلى المكروه ، بمنزلة النافع والضار ، والطيب والخبيث ، ولهذا يتنوع بتنوع الأحوال ، فكما أن الشيء الواحد يكون نافعا إذا صادف حاجة ، ويكون ضارا في موضع آخر ، كذلك الفعل كأكل الميتة يكون قبيحا تارة ويكون حسنا أخرى .
وإذا كان كذلك فهذا الأمر لا يختلف ، سواء كان العبد هو الفاعل
[25] بغير أن يخلق الله له القدرة والإرادة ، أو بأن يخلق الله له ذلك ، كما في سائر ما هو نافع وضار ومحبوب ومكروه .
وقد
nindex.php?page=treesubj&link=28785دلت الدلائل اليقينية على أن كل حادث فالله خالقه ، وفعل العبد من جملة الحوادث ، وكل ممكن يقبل الوجود والعدم ، فإن شاء الله كان وإن لم يشأ
[ ص: 30 ] لم يكن ، وفعل العبد من جملة الممكنات ; وذلك لأن
[26] العبد إذا فعل الفعل فنفس الفعل حادث بعد أن لم يكن ، فلا بد له
[27] من سبب .
وإذا قيل : حدث بالإرادة ، فالإرادة أيضا حادثة ، فلا بد لها من سبب . وإن شئت قلت
[28] : الفعل ممكن فلا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح . وعلى طريقة بعضهم
[29] فلا
[30] يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح . وكون العبد فاعلا له حادث ممكن ، فلا بد له من محدث مرجح ، ولا فرق في ذلك بين حادث وحادث . ( * [ والمرجح لوجود الممكن لا بد أن يكون تاما مستلزما
[31] وجود الممكن ، وإلا فلو كان مع وجود المرجح يمكن وجود الفعل تارة وعدمه أخرى ، لكان ممكنا بعد حصول المرجح ، يمكن وجوده وعدمه ، وحينئذ فلا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح ، وهذا المرجح إما أن يكون تاما مستلزما وجود الفعل ، ( وإما أن يكون الفعل )
[32] معه يمكن
[33] وجوده وعدمه ، فإن كان الثاني لزم أن لا يوجد الفعل بحال ، ولزم التسلسل الباطل .
[ ص: 31 ] فعلم أن الفعل لا يوجد إلا إذا وجد مرجح تام يستلزم وجوده ، وذلك المرجح التام هو الداعي التام ( والقدرة )
[34] وهذا مما سلمه طائفة من
المعتزلة كأبي الحسين البصري وغيره ؛ سلموا أنه إذا وجد الداعي التام والقدرة التامة لزم وجود الفعل ، وأن الداعي والقدرة خلق لله عز وجل ، وهذا حقيقة قول أهل السنة
[35] الذين يقولون : ( إن الله خالق أفعال العباد كما أن الله خالق كل شيء ، فإن أئمة أهل السنة يقولون : )
[36] إن الله خالق الأشياء بالأسباب ، وأنه خلق للعبد قدرة
[37] يكون بها فعله ، وأن
[38] العبد فاعل لفعله حقيقة ، فقولهم في خلق فعل العبد بإرادته وقدرته
[39] كقولهم في خلق سائر الحوادث بأسبابها ، ولكن ليس هذا قول من ينكر الأسباب والقوى التي في الأجسام وينكر تأثير القدرة ( التي للعبد )
[40] التي بها يكون الفعل ، ويقول : إنه لا أثر لقدرة العبد أصلا في فعله
[41] ، كما يقول ذلك جهم وأتباعه
[42] ، والأشعري ومن وافقه .
وليس قول هؤلاء قول أئمة السنة ولا جمهورهم ، بل أصل هذا القول هو قول
nindex.php?page=showalam&ids=15658الجهم بن صفوان ، فإنه كان يثبت مشيئة الله تعالى ، وينكر أن يكون له
[ ص: 32 ] حكمة أو رحمة ، وينكر أن يكون للعبد فعل أو قدرة مؤثرة . وحكي عنه أنه كان يخرج إلى الجذمى ويقول : أرحم الراحمين يفعل ( مثل )
[43] هذا ؟ إنكارا لأن تكون له رحمة يتصف بها ، وزعما منه أنه ليس إلا مشيئة محضة لا اختصاص لها بحكمة ، بل يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح .
وهذا قول طائفة من المتأخرين ، وهؤلاء يقولون : إنه لم يخلق لحكمة ، ولم يأمر لحكمة ، وأنه ليس في القرآن " لام " كي ، لا في خلق الله ولا في أمر الله .
[44] وهؤلاء الجهمية المجبرة هم والمعتزلة والقدرية في
[45] طرفين متقابلين
[46] .
وقول سلف الأمة وأئمة السنة وجمهورها ليس قول هؤلاء ولا قول هؤلاء ، وإن كان كثير من المثبتين للقدر يقول بقول
nindex.php?page=showalam&ids=15658جهم ، فالكلام
[47] إنما هو في أهل السنة المثبتين لإمامة
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر nindex.php?page=showalam&ids=2وعمر nindex.php?page=showalam&ids=7وعثمان والمثبتين للقدر . وهذا الاسم يدخل فيه الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، وأئمة التفسير والحديث والفقه
[ ص: 33 ] والتصوف ، وجمهور المسلمين ، وجمهور طوائفهم ، لا يخرج عن هذا إلا بعض
الشيعة ، وأئمة هؤلاء وجمهورهم على القول الوسط الذي ليس هو قول
المعتزلة ولا قول
nindex.php?page=showalam&ids=15658جهم وأتباعه
الجبرية ، فمن قال إن شيئا من الحوادث أفعال الملائكة والجن والإنس لم يخلقها الله تعالى ، فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع السلف والأدلة العقلية ]
[48] * )
[49] .
ولهذا قال بعض السلف من قال : إن كلام الآدميين أو أفعال
[50] العباد غير مخلوقة ، فهو بمنزلة من قال : إن سماء الله وأرضه غير مخلوقة .
والله تعالى يخلق ما يخلق
[51] لحكمة كما تقدم ، ومن جملة المخلوقات ما قد يحصل به
[52] ضرر عارض لبعض الناس ، كالأمراض والآلام وأسباب ذلك ، فخلق الصفات والأفعال التي هي أسبابه
[53] من جملة ذلك . فنحن نعلم أن لله في ذلك حكمة ، ( * وإذا كان قد فعل ذلك لحكمة خرج عن أن يكون سفها ، وإذا كان العقاب على فعل العبد الاختياري لم يكن ظلما . فهذا الحادث بالنسبة إلى الرب له فيه حكمة * )
[54] يحسن
[55] لأجل تلك الحكمة وبالنسبة
[56] إلى العبد عدل ، لأنه عوقب على فعله ، فما ظلمه الله ولكن هو ظلم نفسه .
[ ص: 34 ] واعتبر ذلك بأن يكون غير الله هو الذي عاقبه على ظلمه ، لو
[57] عاقبه ولي أمر على عدوانه على الناس فقطع
[58] يد السارق ، أليس ذلك عدلا
[59] من هذا الوالي ؟ وكون الوالي مأمورا بذلك يبين
[60] أنه عادل .
لكن المقصود هنا أنه مستقر في فطر الناس وعقولهم أن ولي الأمر إذا أمر الغاصب برد المغصوب إلى مالكه ، وضمن التالف بمثله ، أنه يكون حاكما بالعدل ، وما زال العدل معروفا في القلوب والعقول . ولو قال هذا المعاقب : أنا قد قدر علي هذا ، لم يكن هذا
[61] حجة له ، ولا مانعا لحكم الوالي أن يكون عدلا .
فالله تعالى أعدل العادلين إذا اقتص
[62] للمظلوم من ظالمه في الآخرة أحق بأن يكون ذلك عدلا منه ، فإن
[63] قال الظالم : هذا كان مقدرا علي ، لم يكن هذا عذرا صحيحا ولا مسقطا لحق المظلوم ، وإذا كان الله هو الخالق لكل شيء فذاك
[64] لحكمة أخرى له في الفعل ، فخلقه حسن بالنسبة إليه لما [ له ]
[65] فيه من الحكمة ، والفعل القبيح المخلوق قبيح من فاعله
[66] ، لما عليه
[ ص: 35 ] فيه من المضرة ، كما أن أمر الوالي بعقوبة الظالم يسر الوالي لما فيه من الحكمة
[67] ، وهو عدله وأمره بالعدل ، وذلك يضر المعاقب لما عليه فيه من الألم .
ولو قدر أن هذا الوالي كان سببا في حصول ذلك الظلم ، على وجه لا يلام عليه ، لم يكن عذرا للظالم ، مثل حاكم شهد عنده بينة
[68] بمال لغريم
[69] ، فأمر بحبسه أو عقوبته ، حتى ألجأه ذلك إلى أخذ مال آخر بغير حق ليوفيه إياه ، فإن الحاكم أيضا يعاقبه [ فيه ]
[70] ، فإذا قال : أنت
[71] حبستني وكنت عاجزا عن الوفاء ، ولا
[72] طريق لي إلى الخلاص إلا أخذ مال هذا ، لكان حبسه الأول ضررا عليه ، وعقوبته ثانيا على أخذ مال [ الغير ]
[73] ضررا عليه والوالي يقول : أنا حكمت بشهادة العدول ، فلا ذنب لي في ذلك ، وغايتي أني أخطأت ، والحاكم إذا أخطأ له أجر . وقد يفعل كل من الرجلين بالآخر
[74] من الضرر ما يكون فيه
[75] معذورا ، والآخر معاقبا ، بل
[76] مظلوما لكن بتأويل .
[ ص: 36 ] وهذه الأمثال ليست مثل فعل الله تعالى ، فإن الله ليس كمثله شيء : لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، فإنه سبحانه يخلق الاختيار في المختار ، والرضا في الراضي ، والمحبة في المحب . وهذا لا يقدر عليه إلا الله .
ولهذا أنكر الأئمة على من قال : جبر الله العباد ،
كالثوري nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي والزبيدي nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل وغيرهم ، وقالوا : الجبر لا يكون إلا من عاجز ، كما يجبر الأب ابنته على خلاف مرادها .
والله خالق الإرادة والمراد ، فيقال : جبل ، كما جاءت به السنة ، ولا يقال : جبر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم [ في الحديث الصحيح ]
[77] .
[78] .
[79] .
ومما يبين هذا أن الله سبحانه وتعالى جهة خلقه وتقديره غير جهة أمره وتشريعه ، فإن أمره وتشريعه ، مقصوده بيان ما ينفع العباد إذا فعلوه وما يضرهم ، بمنزلة أمر الطبيب للمريض بما ينفعه ، فأخبر الله على ألسن رسله بمصير السعداء والأشقياء ، وأمر بما يوصل إلى السعادة ، ونهى عما يوصل إلى الشقاوة .
[ ص: 37 ] وخلقه وتقديره يتعلق به وبجملة المخلوقات ، فهو يفعل لما فيه حكمة متعلقة بعموم خلقه ،
[80] وإن كان في ضمن ذلك مضرة لبعض الناس ، كما أنه ينزل المطر لما فيه من الرحمة والنعمة العامة والحكمة
[81] وإن كان في ضمن ذلك تضرر
[82] بعض الناس بسقوط منزله وانقطاعه عن
[83] سفره وتعطيل معيشته وكذلك يرسل نبيه [
محمدا ] صلى
[84] الله عليه وسلم لما في إرساله من الرحمة العامة ، وإن كان في ضمن ذلك سقوط رياسة قوم وتألمهم بذلك . فإذا قدر على الكافر كفره ، قدره الله لما له في ذلك من الحكمة والمصلحة العامة ، وعاقبه لاستحقاقه ذلك بفعله الاختياري وإن كان مقدرا
[85] ، ولما له في عقوبته من الحكمة والمصلحة العامة .
وقياس أفعال الله على أفعال العباد خطأ ظاهر ، لأن السيد إذا أمر عبده بأمر أمره لحاجته إليه ولغرض السيد فإذا أثابه على ذلك كان من باب المعاوضة ، وليس له حكمة يطلبها إلا حصول ذلك [ المأمور به ]
[86] وليس هو الخالق لفعل المأمور . فإذا قدر أن السيد لم يعوض المأمور ، أو لم
[87] يقم بحق عبده الذي يقضي حوائجه كان ظالما كالذي يأخذ سلعة ولا يعطي
[88] ثمنها ، أو يستوفي منفعة الأجير ولم يوفه أجره .
[ ص: 38 ] والله تعالى غني عن العباد ، إنما أمرهم بما ينفعهم ، ونهاهم عما يضرهم فهو محسن إلى عباده بالأمر لهم ، محسن
[89] لهم بإعانتهم على الطاعة ولو قدر أن عالما صالحا أمر الناس بما ينفعهم ، ثم أعان بعض الناس
[90] على فعل ما أمرهم به ولم يعن آخرين ، لكان محسنا إلى هؤلاء إحسانا تاما ، ولم يكن ظالما لمن لم يحسن إليه . وإذا قدر أنه عاقب المذنب
[91] العقوبة التي يقتضيها عدله وحكمته
[92] ، لكان [ أيضا ] محمودا على هذا وهذا ، وأين هذا من حكمة [ أحكم الحاكمين ] ، وأرحم الراحمين
[93] ؟ ! .
فأمره
[94] لهم إرشاد وتعليم وتعريف
[95] بالخير ، فإن أعانهم على فعل المأمور كان قد أتم النعمة على المأمور ، وهو مشكور على هذا وهذا ، وإن لم يعنه وخذله حتى فعل الذنب كان له في ذلك حكمة أخرى ، وإن كانت مستلزمة تألم هذا ، فإنما تألم بأفعاله الاختيارية التي من شأنها أن تورثه نعيما أو ألما ، وإن كان ذلك الإيراث بقضاء الله وقدره فلا منافاة بين هذا وهذا ، فجعله المختار
[96] مختارا من كمال قدرته وحكمته ، وترتيب آثار الاختيار عليه من تمام حكمته وقدرته .
[ ص: 39 ] لكن يبقى الكلام في نفس الحكمة الكلية
[97] في هذه الحوادث ، فهذه ليس على الناس معرفتها ، ويكفيهم التسليم لما قد علموا أنه بكل شيء عليم ، وعلى كل شيء قدير ، وأنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها .
ومن المعلوم
[98] ما لو علمه كثير من الناس لضرهم علمه ، ونعوذ بالله من علم لا ينفع . وليس اطلاع كثير من الناس بل أكثرهم على حكم
[99] الله في كل شيء نافعا لهم بل قد يكون ضارا . قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=101لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم [ سورة المائدة : 101 ] .
nindex.php?page=treesubj&link=28776فَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ ، وَالرِّضَا بِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالتَّسْلِيمِ لِذَلِكَ ، هُوَ مِنْ حَقِيقَةِ [1] الْإِيمَانِ . وَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْتَجَّ فِيهَا بِقَدَرِ اللَّهِ
[ ص: 27 ] تَعَالَى
[2] ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَفْعَلَهَا ، وَإِذَا فَعَلَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ مِنْهَا ، كَمَا فَعَلَ
[3] آدَمُ . وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ :
[4] اثْنَانِ أَذْنَبَا ذَنْبًا :
آدَمُ وَإِبْلِيسُ
[5] فَآدَمُ تَابَ فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ [ وَاجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ ] ، وَإِبْلِيسُ
[6] أَصَرَّ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ ، فَمَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ أَشْبَهَ أَبَاهُ
آدَمَ ، وَمَنْ أَصَرَّ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ أَشْبَهَ إِبْلِيسَ .
وَإِذَا كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ
[7] وَبَيْنَ غَيْرِهِ مُسْتَقِرًّا فِي بَدَائِهِ
[8] الْعُقُولِ ، حَصَلَ الْمَقْصُودُ . وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُسْتَقِرًّا فِي بَدَائِهِ
[9] الْعُقُولِ أَنَّ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ تُكْسِبُ نَفْسَ الْإِنْسَانِ صِفَاتٍ مَحْمُودَةً وَصِفَاتٍ مَذْمُومَةً ، بِخِلَافِ لَوْنِهِ وَطُولِهِ وَعَرْضِهِ ، فَإِنَّهَا لَا تُكْسِبُهُ ذَلِكَ .
فَالْعِلْمُ النَّافِعُ ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ ، وَالصَّلَاةُ الْحَسَنَةُ ، وَصِدْقُ الْحَدِيثِ ، وَإِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ : تُورِثُ الْقَلْبَ صِفَاتٍ مَحْمُودَةً . كَمَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ لِلْحَسَنَةِ لَنُورًا فِي الْقَلْبِ ، وَضِيَاءً فِي الْوَجْهِ ، وَسِعَةً فِي الرِّزْقِ ، وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ ، وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ . وَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ لَسَوَادًا فِي الْوَجْهِ ، وَظُلْمَةً
[10] فِي الْقَلْبِ ، وَوَهَنًا فِي الْبَدَنِ ، وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ ، وَبُغْضًا فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ .
[ ص: 28 ] nindex.php?page=treesubj&link=28847_28852فَفِعْلُ الْحَسَنَةِ لَهُ آثَارٌ مَحْمُودَةٌ مَوْجُودَةٌ
[11] فِي النَّفْسِ وَفِي الْخَارِجِ ، وَكَذَلِكَ فِعْلُ
[12] السَّيِّئَاتِ . وَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْحَسَنَاتِ سَبَبًا لِهَذَا ، [ وَالسَّيِّئَاتِ سَبَبًا لِهَذَا ، كَمَا جَعَلَ أَكْلَ السُّمِّ سَبَبًا لِلْمَرَضِ وَالْمَوْتِ . وَأَسْبَابُ الشَّرِّ لَهَا أَسْبَابٌ تُدْفَعُ بِمُقْتَضَاهَا ]
[13] ، فَالتَّوْبَةُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ تُمْحَى بِهَا السَّيِّئَاتُ ،
nindex.php?page=treesubj&link=26613وَالْمَصَائِبُ فِي الدُّنْيَا تُكَفَّرُ بِهَا السَّيِّئَاتُ ، كَمَا أَنَّ السُّمَّ تَارَةً يَدْفَعُ مُوجِبَهُ بِالدَّوَاءِ ، وَتَارَةً يُورِثُ مَرَضًا يَسِيرًا ، ثُمَّ تَحْصُلُ الْعَافِيَةُ .
وَإِذَا قِيلَ : خَلْقُ الْفِعْلِ مَعَ حُصُولِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ
[14] ظُلْمٌ ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ : خَلْقُ أَكْلِ
[15] السُّمِّ ثُمَّ حُصُولِ الْمَوْتِ بِهِ ظُلْمٌ . وَالظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، وَاسْتِحْقَاقُ هَذَا الْفَاعِلِ لِأَثَرِ فِعْلِهِ الَّذِي هُوَ مَعْصِيَةُ اللَّهِ ، كَاسْتِحْقَاقِهِ لِأَثَرِهِ إِذَا ظَلَمَ الْعِبَادَ
[16] .
وَهَذَا الْآنَ يَنْزِعُ
[17] إِلَى مَسْأَلَةِ
nindex.php?page=treesubj&link=20691التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ ، فَإِنَّ النَّاسَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ يَكُونُ سَبَبًا لِمَنْفَعَةِ الْعَبْدِ وَحُصُولِ مَا يُلَائِمُهُ ، وَسَبَبًا لِحُصُولِ مَضَرَّتِهِ ، وَحُصُولِ مَا يُنَافِيهِ ، قَدْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ ، وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ قَدْ يَكُونُ صِفَةَ كَمَالٍ وَصِفَةَ نَقْصٍ ، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي كَوْنِهِ [ يَكُونُ ]
[18] سَبَبًا لِلْعِقَابِ وَالذَّمِّ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ .
[ ص: 29 ] وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَصْحَابِ
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدَ ، وَبَيْنَ أَصْحَابِ
[19] nindex.php?page=showalam&ids=16867مَالِكٍ ، وَبَيْنَ أَصْحَابِ
[20] nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ . وَأَمَّا
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فَيَقُولُونَ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الطَّوَائِفِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ ، وَفِي الْحَقِيقَةِ فَهَذَا النِّزَاعُ
[21] يَرْجِعُ إِلَى الْمُلَاءَمَةِ وَالْمُنَافَرَةِ
[22] ، وَالْمُنَفِّعَةِ وَالْمُضِرَّةِ ، فَإِنَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ مِمَّا يَضُرُّ الْعَبْدَ وَلَا يُلَائِمُهُ ، فَلَا يَخْرُجُ الْحُسْنُ
[23] وَالْقُبْحُ عَنْ حُصُولِ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ ، فَالْحَسَنُ مَا حَصَّلَ الْمَحْبُوبَ الْمَطْلُوبَ الْمُرَادَ لِذَاتِهِ
[24] ، وَالْقَبِيحُ مَا حَصَّلَ الْمَكْرُوهَ الْبَغِيضَ ، فَإِذَا كَانَ الْحَسَنُ يَرْجِعُ إِلَى الْمَحْبُوبِ ، وَالْقَبِيحُ يَرْجِعُ إِلَى الْمَكْرُوهِ ، بِمَنْزِلَةِ النَّافِعِ وَالضَّارِّ ، وَالطَّيِّبِ وَالْخَبِيثِ ، وَلِهَذَا يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الْأَحْوَالِ ، فَكَمَا أَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ يَكُونُ نَافِعًا إِذَا صَادَفَ حَاجَةً ، وَيَكُونُ ضَارًّا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، كَذَلِكَ الْفِعْلُ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ يَكُونُ قَبِيحًا تَارَةً وَيَكُونُ حَسَنًا أُخْرَى .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الْأَمْرُ لَا يَخْتَلِفُ ، سَوَاءً كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْفَاعِلُ
[25] بِغَيْرِ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ لَهُ الْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ ، أَوْ بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ ، كَمَا فِي سَائِرِ مَا هُوَ نَافِعٌ وَضَارٌّ وَمَحْبُوبٌ وَمَكْرُوهٌ .
وَقَدْ
nindex.php?page=treesubj&link=28785دَلَّتِ الدَّلَائِلَ الْيَقِينِيَّةَ عَلَى أَنَّ كُلَّ حَادِثٍ فَاللَّهُ خَالِقُهُ ، وَفِعْلُ الْعَبْدِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَوَادِثِ ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ ، فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ
[ ص: 30 ] لَمْ يَكُنْ ، وَفِعْلُ الْعَبْدِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُمْكِنَاتِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ
[26] الْعَبْدَ إِذَا فَعَلَ الْفِعْلَ فَنَفْسُ الْفِعْلِ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ، فَلَا بُدَّ لَهُ
[27] مِنْ سَبَبٍ .
وَإِذَا قِيلَ : حَدَثَ بِالْإِرَادَةِ ، فَالْإِرَادَةُ أَيْضًا حَادِثَةٌ ، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ سَبَبٍ . وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ
[28] : الْفِعْلُ مُمْكِنٌ فَلَا يَتَرَجَّحُ وَجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ إِلَّا بِمُرَجِّحٍ . وَعَلَى طَرِيقَةِ بَعْضِهِمْ
[29] فَلَا
[30] يَتَرَجَّحُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ عَلَى الْآخَرِ إِلَّا بِمُرَجِّحٍ . وَكَوْنُ الْعَبْدِ فَاعِلًا لَهُ حَادِثٌ مُمْكِنٌ ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ مُرَجِّحٍ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ حَادِثٍ وَحَادِثٍ . ( * [ وَالْمُرَجِّحُ لِوُجُودِ الْمُمْكِنِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ تَامًّا مُسْتَلْزِمًا
[31] وُجُودَ الْمُمْكِنِ ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ مَعَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ يُمْكِنُ وُجُودَ الْفِعْلِ تَارَةً وَعَدَمِهِ أُخْرَى ، لَكَانَ مُمْكِنًا بَعْدَ حُصُولِ الْمُرَجِّحِ ، يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَتَرَجَّحُ وَجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ إِلَّا بِمُرَجَّحٍ ، وَهَذَا الْمُرَجَّحُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَامًّا مُسْتَلْزِمًا وُجُودَ الْفِعْلِ ، ( وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ )
[32] مَعَهُ يُمْكِنُ
[33] وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَزِمَ أَنْ لَا يُوجَدَ الْفِعْلُ بِحَالٍ ، وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ الْبَاطِلُ .
[ ص: 31 ] فَعُلِمَ أَنَّ الْفِعْلَ لَا يُوجَدُ إِلَّا إِذَا وُجِدَ مُرَجِّحٌ تَامٌّ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَهُ ، وَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ التَّامُّ هُوَ الدَّاعِي التَّامُّ ( وَالْقُدْرَةُ )
[34] وَهَذَا مِمَّا سَلَّمَهُ طَائِفَةٌ مِنَ
الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ ؛ سَلَّمُوا أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ الدَّاعِي التَّامُّ وَالْقُدْرَةُ التَّامَّةُ لَزِمَ وُجُودُ الْفِعْلِ ، وَأَنَّ الدَّاعِيَ وَالْقُدْرَةَ خَلْقٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ
[35] الَّذِينَ يَقُولُونَ : ( إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَمَا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِنَّ أَئِمَّةَ أَهْلِ السُّنَّةِ يَقُولُونَ : )
[36] إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ بِالْأَسْبَابِ ، وَأَنَّهُ خَلَقَ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً
[37] يُكَوِّنُ بِهَا فِعْلُهُ ، وَأَنَّ
[38] الْعَبْدَ فَاعِلٌ لِفِعْلِهِ حَقِيقَةً ، فَقَوْلُهُمْ فِي خُلُقِ فِعْلِ الْعَبْدِ بِإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ
[39] كَقَوْلِهِمْ فِي خَلْقِ سَائِرِ الْحَوَادِثِ بِأَسْبَابِهَا ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُ الْأَسْبَابَ وَالْقُوَى الَّتِي فِي الْأَجْسَامِ وَيُنْكِرُ تَأْثِيرَ الْقُدْرَةِ ( الَّتِي لِلْعَبْدِ )
[40] الَّتِي بِهَا يُكَوِّنُ الْفِعْلَ ، وَيَقُولُ : إِنَّهُ لَا أَثَرَ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ أَصْلًا فِي فِعْلِهِ
[41] ، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ جَهْمٌ وَأَتْبَاعُهُ
[42] ، وَالْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ .
وَلَيْسَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ قَوْلَ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَلَا جُمْهُورِهِمْ ، بَلْ أَصْلُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=15658الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ ، فَإِنَّهُ كَانَ يُثْبِتُ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَيُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ لَهُ
[ ص: 32 ] حِكْمَةً أَوْ رَحْمَةً ، وَيُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَبْدِ فِعْلٌ أَوْ قُدْرَةٌ مُؤَثِّرَةٌ . وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْجَذْمَى وَيَقُولُ : أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ يَفْعَلُ ( مَثَلَ )
[43] هَذَا ؟ إِنْكَارًا لِأَنْ تَكُونَ لَهُ رَحْمَةً يَتَّصِفُ بِهَا ، وَزَعْمًا مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا مَشِيئَةٌ مَحْضَةٌ لَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِحِكْمَةٍ ، بَلْ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُرَجِّحٍ .
وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إِنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ لِحِكْمَةٍ ، وَلَمْ يَأْمُرْ لِحِكْمَةٍ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ " لَامُ " كَيْ ، لَا فِي خَلْقِ اللَّهِ وَلَا فِي أَمْرِ اللَّهِ .
[44] وَهَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةُ الْمُجْبِرَةُ هُمْ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ فِي
[45] طَرَفَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ
[46] .
وَقَوْلُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَجُمْهُورِهَا لَيْسَ قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَلَا قَوْلَ هَؤُلَاءِ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ يَقُولُ بِقَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=15658جَهْمٍ ، فَالْكَلَامُ
[47] إِنَّمَا هُوَ فِي أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُثْبِتِينَ لِإِمَامَةِ
nindex.php?page=showalam&ids=1أَبِي بَكْرٍ nindex.php?page=showalam&ids=2وَعُمَرَ nindex.php?page=showalam&ids=7وَعُثْمَانَ وَالْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ . وَهَذَا الِاسْمُ يَدْخُلُ فِيهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ ، وَأَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ
[ ص: 33 ] وَالتَّصَوُّفِ ، وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ ، وَجُمْهُورُ طَوَائِفِهِمْ ، لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا إِلَّا بَعْضُ
الشِّيعَةِ ، وَأَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى الْقَوْلِ الْوَسَطِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ قَوْلَ
الْمُعْتَزِلَةِ وَلَا قَوْلَ
nindex.php?page=showalam&ids=15658جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ
الْجَبْرِيَّةِ ، فَمَنْ قَالَ إِنَّ شَيْئًا مِنَ الْحَوَادِثِ أَفْعَالَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَمْ يَخْلُقْهَا اللَّهُ تَعَالَى ، فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسَّنَةَ وَإِجْمَاعَ السَّلَفِ وَالْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ ]
[48] * )
[49] .
وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ مَنْ قَالَ : إِنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ أَوْ أَفْعَالَ
[50] الْعِبَادِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ : إِنَّ سَمَاءَ اللَّهِ وَأَرْضَهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ .
وَاللَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ مَا يَخْلُقُ
[51] لِحِكْمَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ مَا قَدْ يَحْصُلُ بِهِ
[52] ضَرَرٌ عَارِضٌ لِبَعْضِ النَّاسِ ، كَالْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ وَأَسْبَابِ ذَلِكَ ، فَخَلْقُ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ أَسْبَابُهُ
[53] مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ . فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ لِلَّهِ فِي ذَلِكَ حِكْمَةً ، ( * وَإِذَا كَانَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ سَفَهًا ، وَإِذَا كَانَ الْعِقَابُ عَلَى فِعْلِ الْعَبْدِ الِاخْتِيَارِيِّ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا . فَهَذَا الْحَادِثُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّبِّ لَهُ فِيهِ حِكْمَةٌ * )
[54] يَحْسُنُ
[55] لِأَجْلِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ وَبِالنِّسْبَةِ
[56] إِلَى الْعَبْدِ عَدْلٌ ، لِأَنَّهُ عُوقِبَ عَلَى فِعْلِهِ ، فَمَا ظَلَمَهُ اللَّهُ وَلَكِنْ هُوَ ظَلَمَ نَفْسَهُ .
[ ص: 34 ] وَاعْتَبَرَ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ غَيْرُ اللَّهِ هُوَ الَّذِي عَاقَبَهُ عَلَى ظُلْمِهِ ، لَوْ
[57] عَاقَبَهُ وَلِيُّ أَمْرٍ عَلَى عُدْوَانِهِ عَلَى النَّاسِ فَقَطَعَ
[58] يَدَ السَّارِقِ ، أَلَيْسَ ذَلِكَ عَدْلًا
[59] مِنْ هَذَا الْوَالِي ؟ وَكَوْنُ الْوَالِي مَأْمُورًا بِذَلِكَ يُبَيِّنُ
[60] أَنَّهُ عَادِلٌ .
لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ النَّاسِ وَعُقُولِهِمْ أَنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ إِذَا أَمَرَ الْغَاصِبَ بِرَدِّ الْمَغْصُوبِ إِلَى مَالِكِهِ ، وَضَمِنَ التَّالِفَ بِمِثْلِهِ ، أَنَّهُ يَكُونُ حَاكِمًا بِالْعَدْلِ ، وَمَا زَالَ الْعَدْلُ مَعْرُوفًا فِي الْقُلُوبِ وَالْعُقُولِ . وَلَوْ قَالَ هَذَا الْمُعَاقَبُ : أَنَا قَدْ قُدِّرَ عَلَيَّ هَذَا ، لَمْ يَكُنْ هَذَا
[61] حُجَّةً لَهُ ، وَلَا مَانِعًا لِحُكْمِ الْوَالِي أَنْ يَكُونَ عَدْلًا .
فَاللَّهُ تَعَالَى أَعْدَلُ الْعَادِلِينَ إِذَا اقْتَصَّ
[62] لِلْمَظْلُومِ مِنْ ظَالِمِهِ فِي الْآخِرَةِ أَحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَدْلًا مِنْهُ ، فَإِنْ
[63] قَالَ الظَّالِمُ : هَذَا كَانَ مُقَدَّرًا عَلَيَّ ، لَمْ يَكُنْ هَذَا عُذْرًا صَحِيحًا وَلَا مُسْقِطًا لِحَقِّ الْمَظْلُومِ ، وَإِذَا كَانَ اللَّهُ هُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ فَذَاكَ
[64] لِحِكْمَةٍ أُخْرَى لَهُ فِي الْفِعْلِ ، فَخَلْقُهُ حَسَنٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لِمَا [ لَهُ ]
[65] فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ ، وَالْفِعْلُ الْقَبِيحُ الْمَخْلُوقُ قَبِيحٌ مِنْ فَاعِلِهِ
[66] ، لِمَا عَلَيْهِ
[ ص: 35 ] فِيهِ مِنَ الْمَضَرَّةِ ، كَمَا أَنَّ أَمْرَ الْوَالِي بِعُقُوبَةِ الظَّالِمِ يَسُرُّ الْوَالِي لِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ
[67] ، وَهُوَ عَدْلُهُ وَأَمْرُهُ بِالْعَدْلِ ، وَذَلِكَ يَضُرُّ الْمُعَاقَبَ لِمَا عَلَيْهِ فِيهِ مِنَ الْأَلَمِ .
وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ هَذَا الْوَالِيَ كَانَ سَبَبًا فِي حُصُولِ ذَلِكَ الظُّلْمِ ، عَلَى وَجْهٍ لَا يُلَامُ عَلَيْهِ ، لَمْ يَكُنْ عُذْرًا لِلظَّالِمِ ، مِثْلَ حَاكِمٍ شَهِدَ عِنْدَهُ بَيِّنَةٌ
[68] بِمَالٍ لِغَرِيمٍ
[69] ، فَأَمَرَ بِحَبْسِهِ أَوْ عُقُوبَتِهِ ، حَتَّى أَلْجَأَهُ ذَلِكَ إِلَى أَخْذِ مَالٍ آخَرَ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُوَفِّيَهُ إِيَّاهُ ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ أَيْضًا يُعَاقِبُهُ [ فِيهِ ]
[70] ، فَإِذَا قَالَ : أَنْتَ
[71] حَبَسَتْنِي وَكُنْتَ عَاجِزًا عَنِ الْوَفَاءِ ، وَلَا
[72] طَرِيقَ لِي إِلَى الْخَلَاصِ إِلَّا أَخْذَ مَالِ هَذَا ، لَكَانَ حَبْسُهُ الْأَوَّلُ ضَرَرًا عَلَيْهِ ، وَعُقُوبَتُهُ ثَانِيًا عَلَى أَخْذِ مَالِ [ الْغَيْرِ ]
[73] ضَرَرًا عَلَيْهِ وَالْوَالِي يَقُولُ : أَنَا حَكَمْتُ بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ ، فَلَا ذَنَبَ لِي فِي ذَلِكَ ، وَغَايَتِي أَنِّي أَخْطَأْتُ ، وَالْحَاكِمُ إِذَا أَخْطَأَ لَهُ أَجْرٌ . وَقَدْ يَفْعَلُ كُلٌّ مِنَ الرَّجُلَيْنِ بِالْآخَرِ
[74] مِنَ الضَّرَرِ مَا يَكُونُ فِيهِ
[75] مَعْذُورًا ، وَالْآخَرُ مُعَاقَبًا ، بَلْ
[76] مَظْلُومًا لَكِنْ بِتَأْوِيلٍ .
[ ص: 36 ] وَهَذِهِ الْأَمْثَالُ لَيْسَتْ مِثْلَ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ : لَا فِي ذَاتِهِ ، وَلَا فِي صِفَاتِهِ ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ الِاخْتِيَارَ فِي الْمُخْتَارِ ، وَالرِّضَا فِي الرَّاضِي ، وَالْمَحَبَّةَ فِي الْمُحِبِّ . وَهَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ .
وَلِهَذَا أَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ عَلَى مَنْ قَالَ : جَبَرَ اللَّهُ الْعِبَادَ ،
كَالثَّوْرِيِّ nindex.php?page=showalam&ids=13760وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالزُّبَيْدِيِّ nindex.php?page=showalam&ids=12251وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ ، وَقَالُوا : الْجَبْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عَاجِزٍ ، كَمَا يَجْبُرُ الْأَبُ ابْنَتَهُ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهَا .
وَاللَّهُ خَالِقُ الْإِرَادَةِ وَالْمُرَادِ ، فَيُقَالُ : جَبَلَ ، كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ ، وَلَا يُقَالُ : جَبَرَ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ]
[77] .
[78] .
[79] .
وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جِهَةُ خَلْقِهِ وَتَقْدِيرِهِ غَيْرُ جِهَةِ أَمْرِهِ وَتَشْرِيعِهِ ، فَإِنَّ أَمْرَهُ وَتَشْرِيعَهُ ، مَقْصُودُهُ بَيَانُ مَا يَنْفَعُ الْعِبَادَ إِذَا فَعَلُوهُ وَمَا يَضُرُّهُمْ ، بِمَنْزِلَةِ أَمْرِ الطَّبِيبِ لِلْمَرِيضِ بِمَا يَنْفَعُهُ ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ بِمَصِيرِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ ، وَأَمَرَ بِمَا يُوصِلُ إِلَى السَّعَادَةِ ، وَنَهَى عَمَّا يُوصِلُ إِلَى الشَّقَاوَةِ .
[ ص: 37 ] وَخَلْقُهُ وَتَقْدِيرُهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ وَبِجُمْلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ ، فَهُوَ يَفْعَلُ لِمَا فِيهِ حِكْمَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِعُمُومِ خَلْقِهِ ،
[80] وَإِنْ كَانَ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ مَضَرَّةٌ لِبَعْضِ النَّاسِ ، كَمَا أَنَّهُ يُنَزِّلُ الْمَطَرَ لِمَا فِيهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالنِّعْمَةِ الْعَامَّةِ وَالْحِكْمَةِ
[81] وَإِنْ كَانَ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ تَضَرُّرُ
[82] بَعْضِ النَّاسِ بِسُقُوطِ مَنْزِلِهِ وَانْقِطَاعِهِ عَنْ
[83] سَفَرِهِ وَتَعْطِيلِ مَعِيشَتِهِ وَكَذَلِكَ يُرْسِلُ نَبِيَّهُ [
مُحَمَّدًا ] صَلَّى
[84] اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا فِي إِرْسَالِهِ مِنَ الرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ سُقُوطُ رِيَاسَةِ قَوْمٍ وَتَأَلُّمِهِمْ بِذَلِكَ . فَإِذَا قُدِّرَ عَلَى الْكَافِرِ كُفْرُهُ ، قَدَّرَهُ اللَّهُ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ ، وَعَاقَبَهُ لِاسْتِحْقَاقِهِ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ الِاخْتِيَارِيِّ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا
[85] ، وَلِمَا لَهُ فِي عُقُوبَتِهِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ .
وَقِيَاسُ أَفْعَالِ اللَّهِ عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ خَطَأٌ ظَاهِرٌ ، لِأَنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَمَرَ عَبْدَهُ بِأَمْرٍ أَمَرَهُ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ وَلِغَرَضِ السَّيِّدِ فَإِذَا أَثَابَهُ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مِنْ بَابِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَلَيْسَ لَهُ حِكْمَةٌ يَطْلُبُهَا إِلَّا حُصُولَ ذَلِكَ [ الْمَأْمُورِ بِهِ ]
[86] وَلَيْسَ هُوَ الْخَالِقُ لِفِعْلِ الْمَأْمُورِ . فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ السَّيِّدَ لَمْ يُعَوِّضِ الْمَأْمُورَ ، أَوْ لَمْ
[87] يَقُمْ بِحَقِّ عَبْدِهِ الَّذِي يَقْضِي حَوَائِجَهُ كَانَ ظَالِمًا كَالَّذِي يَأْخُذُ سِلْعَةً وَلَا يُعْطِي
[88] ثَمَنَهَا ، أَوْ يَسْتَوْفِي مَنْفَعَةَ الْأَجِيرِ وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ .
[ ص: 38 ] وَاللَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الْعِبَادِ ، إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ ، وَنَهَاهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ فَهُوَ مُحْسِنٌ إِلَى عِبَادِهِ بِالْأَمْرِ لَهُمْ ، مُحْسِنٌ
[89] لَهُمْ بِإِعَانَتِهِمْ عَلَى الطَّاعَةِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ عَالِمًا صَالِحًا أَمَرَ النَّاسَ بِمَا يَنْفَعُهُمْ ، ثُمَّ أَعَانَ بَعْضَ النَّاسِ
[90] عَلَى فِعْلِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَلَمْ يُعِنْ آخَرِينَ ، لَكَانَ مُحْسِنًا إِلَى هَؤُلَاءِ إِحْسَانًا تَامًّا ، وَلَمْ يَكُنْ ظَالِمًا لِمَنْ لَمْ يُحْسِنْ إِلَيْهِ . وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ عَاقَبَ الْمُذْنِبَ
[91] الْعُقُوبَةَ الَّتِي يَقْتَضِيهَا عَدْلُهُ وَحِكْمَتُهُ
[92] ، لَكَانَ [ أَيْضًا ] مَحْمُودًا عَلَى هَذَا وَهَذَا ، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ حِكْمَةِ [ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ] ، وَأَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ
[93] ؟ ! .
فَأَمْرُهُ
[94] لَهُمْ إِرْشَادٌ وَتَعْلِيمٌ وَتَعْرِيفٌ
[95] بِالْخَيْرِ ، فَإِنْ أَعَانَهُمْ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ كَانَ قَدْ أَتَمَّ النِّعْمَةَ عَلَى الْمَأْمُورِ ، وَهُوَ مَشْكُورٌ عَلَى هَذَا وَهَذَا ، وَإِنْ لَمْ يُعِنْهُ وَخَذَلَهُ حَتَّى فَعَلَ الذَّنْبَ كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ أُخْرَى ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَلْزِمَةَ تَأَلُّمِ هَذَا ، فَإِنَّمَا تَأَلَّمَ بِأَفْعَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُورِثَهُ نَعِيمًا أَوْ أَلَمًا ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْإِيرَاثُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ، فَجَعَلَهُ الْمُخْتَارَ
[96] مُخْتَارًا مِنْ كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ ، وَتَرْتِيبِ آثَارِ الِاخْتِيَارِ عَلَيْهِ مِنْ تَمَامِ حِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ .
[ ص: 39 ] لَكِنْ يَبْقَى الْكَلَامُ فِي نَفْسِ الْحِكْمَةِ الْكُلِّيَّةِ
[97] فِي هَذِهِ الْحَوَادِثِ ، فَهَذِهِ لَيْسَ عَلَى النَّاسِ مَعْرِفَتُهَا ، وَيَكْفِيهِمُ التَّسْلِيمُ لِمَا قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا .
وَمِنَ الْمَعْلُومِ
[98] مَا لَوْ عَلِمَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَضَرَّهُمْ عِلْمُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ . وَلَيْسَ اطِّلَاعُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ عَلَى حُكْمِ
[99] اللَّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ نَافِعًا لَهُمْ بَلْ قَدْ يَكُونُ ضَارًّا . قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=101لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [ سُورَةُ الْمَائِدَةِ : 101 ] .