الوجه الثاني [1] : أن يقال : أحدهما : تكليف ما لا يطاق ينقسم إلى قسمين [2] ما لا يطاق للعجز عنه ، كتكليف الزمن المشي وتكليف الإنسان الطيران ونحو ذلك [3] فهذا غير واقع في الشريعة عند [ جماهير ] [4] أهل السنة المثبتين للقدر : وليس فيما ذكره ما يقتضي لزوم [5] وقوع هذا .
والثاني : ما لا يطاق للاشتغال بضده ، كاشتغال الكافر بالكفر [6] ، فإنه هو الذي صده عن الإيمان ، وكالقاعد في حال قعوده ، فإن اشتغاله بالقعود [7] [ ص: 105 ] يمنعه أن يكون قائما . والإرادة الجازمة لأحد الضدين تنافي إرادة الضد [8] الآخر ، وتكليف الكافر الإيمان من هذا الباب .
ومثل هذا ليس بقبيح عقلا [ عند أحد من العقلاء ] [9] ، بل العقلاء متفقون على أمر الإنسان ونهيه بما [10] لا يقدر عليه حال الأمر والنهي لاشتغاله بضده ، إذا أمكن أن يترك ذلك الضد [11] ويفعل الضد المأمور به .
وإنما النزاع هل يسمى هذا تكليف ما لا يطاق لكونه تكليفا بما [12] انتفت فيه ، فمن المثبتين للقدر من يدخل هذا في تكليف ما لا يطاق ، كما يقوله القدرة المقارنة للفعل القاضي أبو بكر والقاضي أبو يعلى وغيرهما ، ويقولون : ما لا يطاق على وجهين : منه ما لا يطاق للعجز عنه ، وما لا يطاق [13] للاشتغال بضده .
ومنهم من يقول : هذا لا يدخل فيما لا يطاق ، وهذا هو الأشبه بما في الكتاب والسنة وكلام السلف ، فإنه لا يقال للمستطيع المأمور بالحج إذا لم يحج إنه كلف بما لا يطيق [14] ، ولا يقال لمن أمر بالطهارة والصلاة فترك ذلك كسلا أنه كلف [15] ما لا يطيق .
وقوله تعالى : وكانوا لا يستطيعون سمعا [ سورة الكهف : 101 ] لم يرد [ ص: 106 ] به هذا ، فإن جميع الناس قبل الفعل ليس معهم القدرة الموجبة للفعل ، فلا يختص بذلك العصاة ، بل المراد أنهم يكرهون سماع الحق كراهة شديدة لا تستطيع أنفسهم [ معها ] سماعه [16] . لبغضهم لذلك [17] لا لعجزهم عنه ، كما أن الحاسد لا يستطيع الإحسان إلى المحسود لبغضه لا لعجزه عنه [18] .
وعدم هذه الاستطاعة لا يمنع [19] الأمر والنهي فإن الله يأمر الإنسان بما يكرهه ، وينهاه عما يحبه . كما قال تعالى : كتب عليكم القتال وهو كره لكم [ سورة البقرة : 216 ] ، وقال : وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى [ سورة النازعات : 40 ] ، وهو قادر على فعل ذلك إذا أراده [20] ، وعلى ترك ما نهى عنه ، وليس من شرط المأمور به أن يكون [21] العبد مريدا له ، ولا من شرط المنهي عنه أن يكون العبد كارها له ، فإن الفعل يتوقف على القدرة والإرادة [22] ، أن يكون العبد قادرا على الفعل لا أن يكون مريدا له ، لكنه لا يوجد إلا إذا كان مريدا له ، فالإرادة والمشروط في التكليف [23] شرط في وجوده لا في وجوبه .