الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  الوجه الثاني [1] : أن يقال : تكليف ما لا يطاق ينقسم إلى قسمين أحدهما : [2] ما لا يطاق للعجز عنه ، كتكليف الزمن المشي وتكليف الإنسان الطيران ونحو ذلك [3] فهذا غير واقع في الشريعة عند [ جماهير ] [4] أهل السنة المثبتين للقدر : وليس فيما ذكره ما يقتضي لزوم [5] وقوع هذا .

                  والثاني : ما لا يطاق للاشتغال بضده ، كاشتغال الكافر بالكفر [6] ، فإنه هو الذي صده عن الإيمان ، وكالقاعد في حال قعوده ، فإن اشتغاله بالقعود [7] [ ص: 105 ] يمنعه أن يكون قائما . والإرادة الجازمة لأحد الضدين تنافي إرادة الضد [8] الآخر ، وتكليف الكافر الإيمان من هذا الباب .

                  ومثل هذا ليس بقبيح عقلا [ عند أحد من العقلاء ] [9] ، بل العقلاء متفقون على أمر الإنسان ونهيه بما [10] لا يقدر عليه حال الأمر والنهي لاشتغاله بضده ، إذا أمكن أن يترك ذلك الضد [11] ويفعل الضد المأمور به .

                  وإنما النزاع هل يسمى هذا تكليف ما لا يطاق لكونه تكليفا بما [12] انتفت فيه القدرة المقارنة للفعل ، فمن المثبتين للقدر من يدخل هذا في تكليف ما لا يطاق ، كما يقوله القاضي أبو بكر والقاضي أبو يعلى وغيرهما ، ويقولون : ما لا يطاق على وجهين : منه ما لا يطاق للعجز عنه ، وما لا يطاق [13] للاشتغال بضده .

                  ومنهم من يقول : هذا لا يدخل فيما لا يطاق ، وهذا هو الأشبه بما في الكتاب والسنة وكلام السلف ، فإنه لا يقال للمستطيع المأمور بالحج إذا لم يحج إنه كلف بما لا يطيق [14] ، ولا يقال لمن أمر بالطهارة والصلاة فترك ذلك كسلا أنه كلف [15] ما لا يطيق .

                  وقوله تعالى : وكانوا لا يستطيعون سمعا [ سورة الكهف : 101 ] لم يرد [ ص: 106 ] به هذا ، فإن جميع الناس قبل الفعل ليس معهم القدرة الموجبة للفعل ، فلا يختص بذلك العصاة ، بل المراد أنهم يكرهون سماع الحق كراهة شديدة لا تستطيع أنفسهم [ معها ] سماعه [16] . لبغضهم لذلك [17] لا لعجزهم عنه ، كما أن الحاسد لا يستطيع الإحسان إلى المحسود لبغضه لا لعجزه عنه [18] .

                  وعدم هذه الاستطاعة لا يمنع [19] الأمر والنهي فإن الله يأمر الإنسان بما يكرهه ، وينهاه عما يحبه . كما قال تعالى : كتب عليكم القتال وهو كره لكم [ سورة البقرة : 216 ] ، وقال : وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى [ سورة النازعات : 40 ] ، وهو قادر على فعل ذلك إذا أراده [20] ، وعلى ترك ما نهى عنه ، وليس من شرط المأمور به أن يكون [21] العبد مريدا له ، ولا من شرط المنهي عنه أن يكون العبد كارها له ، فإن الفعل يتوقف على القدرة والإرادة [22] ، والمشروط في التكليف أن يكون العبد قادرا على الفعل لا أن يكون مريدا له ، لكنه لا يوجد إلا إذا كان مريدا له ، فالإرادة [23] شرط في وجوده لا في وجوبه .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية