الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 217 ] ( فصل )

                  قال [ الرافضي ] : [1] " ومنها أنه [2] لا يبقى وثوق بوعد الله ووعيده ، لأنهم إذا جوزوا استناد [3] الكذب في العالم إليه ، جاز أن يكذب في إخباراته كلها ، فتنتفي فائدة بعثة الأنبياء [4] ، بل [5] وجاز منه إرسال الكذاب [6] ، فلا يبقى لنا طريق إلى تمييز الصادق من الأنبياء والكاذب " .

                  والجواب عن هذا من وجوه :

                  أحدها [7] : أنه تقدم غير مرة أنه فرق [8] بين ما خلقه صفة لغيره ، وبين ما اتصف هو [ به ] [9] في نفسه ، وفرق بين إضافة المخلوق إلى خالقه ، وإضافة الصفة إلى الموصوف بها .

                  وهذا الفرق معلوم باتفاق العقلاء ، فإنه إذا خلق [10] لغيره حركة لم يكن [ ص: 218 ] هو المتحرك بها [11] ، وإذا خلق للرعد صوتا لم يكن هو المتصف بذلك الصوت ، وإذا خلق الألوان في النباتات والحيوانات والجمادات لم يكن هو المتصف بتلك الألوان ، وإذا خلق في غيره علما وقدرة وحياة لم تكن تلك المخلوقات في غيره صفات له ، وإذا خلق في غيره عمى وصمما وبكما لم يكن هو الموصوف بذلك العمى [12] والبكم والصمم ، وإذا خلق في غيره خبثا أو فسوقا لم يكن هو المتصف بذلك الخبث والفسوق ، وإذا خلق في غيره كذبا وكفرا لم يكن هو المتصف بذلك الكذب وبذلك الكفر ، كما أنه إذا قدر أنه [13] خلق فيه طوافا وسعيا ورمي جمار وصياما وركوعا وسجودا ، لم يكن هو الطائف الساعي الراكع الساجد الرامي بتلك الحجارة [14] .

                  وقوله تعالى : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى [ سورة الأنفال : 17 ] معناه : ما أصبت إذ حذفت ولكن الله هو الذي أصاب ، فالمضاف إليه الحذف باليد ، والمضاف إلى الله تعالى الإيصال إلى العدو وإصابتهم به ، وليس المراد بذلك ما يظنه بعض الناس أنه لما خلق الرامي [ والرمي ] [15] ، قالوا [16] : كان هو الرامي في الحقيقة ، فإن ذلك لو كان صحيحا لكونه خالقا لرميه لاطرد ذلك في سائر الأفعال ، فكان يقول : [ ص: 219 ] وما مشيت [ إذا مشيت ] [17] ولكن الله مشى ، وما لطمت ولكن الله لطم ، وما طعنت ولكن الله طعن ، وما ضربت بالسيف ولكن الله ضرب ، وما ركبت الفرس [18] ولكن الله ركب ، وما صمت ، وما صليت ، وما حججت [19] ، ولكن الله صام وصلى وحج .

                  ومن المعلوم بالضرورة [20] بطلان هذا كله ، وهذا [21] من غلو المثبتين للقدر . ولهذا يروى عن عثمان بن عفان [ رضي الله عنه ] [22] أنهم [23] كانوا يرمونه بالحجارة لما حصر [24] ، فقال لهم : لماذا ترمونني ؟ [25] فقالوا : ما رميناك ولكن الله رماك . فقال : لو أن الله رماني لأصابني ، ولكن أنتم ترمونني وتخطئونني .

                  وهذا مما احتج به القدرية النفاة على أن الصحابة لم يكونوا يقولون : إن الله خالق أفعال العباد . كما احتج بعض المثبتة [26] بقوله تعالى : ولكن الله رمى [ سورة الأنفال : 17 ] وكلاهما خطأ . فإن الله إذا خلق في [ ص: 220 ] عبد [27] فعلا ، لم يجب أن يكون ذلك المخلوق صوابا من العبد ، كما أنه إذا خلق في الجسم طعما أو ريحا ، لم يجب أن يكون [ ذلك ] [28] طيبا ، وإذا خلق للعبد عينين [29] ولسانا ، لم يجب أن يكون بصيرا ناطقا . فاستناد الكذب الذي في الناس ، كاستناد جميع ما يكون في المخلوقين [30] من الصفات القبيحة والأحوال المذمومة وذلك لا يقتضي أنه في نفسه مذموم ، ولا أنه موصوف بتلك الصفات . ولكن لفظ " الاستناد " لفظ مجمل . أتراه [ أنه ] [31] إذا استند إليه العجز المخلوق في الناس لكونه خالقه ، يكون هو عاجزا ؟ فهذا مما يبين فساد هذه الحجة [32] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية