فإن قيل : قولكم إذا جعلنا الله فاعلا وجب وجود ذلك الفعل [1] وخلق الفعل يستلزم وجوده ، ونحو ذلك من الأقوال يقتضي الجبر ، وهو قول باطل .
[ ص: 246 ] قيل : لفظ الجبر لم يرد في كتاب ولا سنة لا بنفي ولا إثبات ، واللفظ إنما يكون له حرمة إذا ثبت عن المعصوم ، وهي ألفاظ النصوص ، فتلك علينا أن نتبع معانيها ، وأما الألفاظ المحدثة مثل لفظ الجبر فهو مثل لفظ الجهة والحيز ونحو ذلك .
ولهذا كان المنصوص عن أئمة الإسلام مثل الأوزاعي والثوري وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم أن هذا وأحمد بن حنبل . اللفظ لا يثبت ولا ينفى مطلقا ، فلا يقال مطلقا : جبر ، ولا يقال : لم يجبر ، فإنه لفظ مجمل
ومن علماء السلف [2] من أطلق نفيه ، كالزبيدي صاحب الزهري ، وهذا نظر إلى المعنى المشهور من معناه في اللغة ، فإن المشهور إطلاق لفظ الجبر والإجبار على ما يفعل بدون إرادة المجبور بل مع كراهته كما يجبر الأب ابنته على النكاح .
وهذا المعنى منتف في حق الله تعالى فإنه سبحانه لا يخلق فعل العبد الاختياري بدون اختياره ، بل هو الذي جعله مريدا مختارا ، وهذا لا يقدر عليه أحد إلا الله .
ولهذا قال من قال من السلف : الله أعظم وأجل [3] من أن يجبر ، إنما يجبر غيره من لا [4] يقدر على جعله مختارا ، والله تعالى يجعل العبد مختارا فلا يحتاج إلى إجباره .
[ ص: 247 ] ولهذا قال الأوزاعي والزبيدي وغيرهما : نقول جبل ولا نقول جبر ، لأن الجبل جاءت به السنة كما في الحديث الصحيح لأشج عبد القيس : إن فيك خلقين يحبهما الله الحلم والأناة . فقال : أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما ؟ فقال : بل خلقين جبلت عليهما . فقال : الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [5] .
فقد يراد بلفظ الجبر [6] نفس فعل ما يشاؤه ، وإن خلق اختيار العبد ؛ كما قال : الجبار هو الذي جبر العباد على ما أراده محمد بن كعب القرظي [7] .
وعن رضي الله عنه أنه قال في الدعاء المأثور عنه : اللهم داحي المدحوات ، وسامك المسموكات ، جبار علي بن أبي طالب [8] القلوب على فطرتها [9] شقيها وسعيدها .
فإذا أريد بالجبر هذا فهذا حق [10] وإن أريد به الأول فهو باطل ، ولكن الإطلاق يفهم منه الأول ، فلا يجوز إطلاقه ، فإذا قال السائل : أنا أريد بالجبر المعنى الثاني ، وهو أن نفس جعل الله للعبد [11] فاعلا قادرا [ ص: 248 ] يستلزم الجبر ، ونفس كون الداعي والقدرة يستلزم وجود الفعل " جبر " .
قيل : هذا المعنى حق ، ولا دليل لك على إبطاله ، وحذاق المعتزلة كأبي الحسين البصري وأمثاله يسلمون هذا فيسلمون أن مع وجود الداعي والقدرة يجب وجود الفعل .
وصاحب هذا الكتاب قد سلك هذه الطريقة فلا يمكنه مع هذا إنكار الجبر بهذا التفسير ، ولهذا [12] نسب أبو الحسين إلى التناقض في هذه المسألة ، فإنه وأمثاله من حذاق المعتزلة إذا سلموا أنه مع الداعي والقدرة ، يجب وجود الفعل ، وسلموا أن الله خلق الداعي والقدرة لزم أن يكون [13] الله خالق أفعال العباد .
فحذاق المعتزلة سلموا المقدمتين ومنعوا النتيجة ، والطوسي الذي قد عظمه هذا الإمامي ذكر في تلخيص المحصل لما ذكر احتجاج الرازي : بأن الفعل يجب عند وجود المرجح التام ويمتنع عند عدمه ، فبطل [14] قول المعتزلة بالكلية [15] يعني الذين يقولون إنه يفعل على وجه [ ص: 249 ] الجواز وهو المشهور من مذهبهم ، فاعترض [16] عليه الطوسي وقال : إنه قد ذكر [17] فيما مر أن المختار متمكن [18] من ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر ، [19] بلا مرجح وهنا حكم بأن ذلك [20] محال ، [21] ثم على تقدير الاحتياج إلى المؤثر [22] وامتناع عدم حصول الأثر [23] ، قال : فقد بطل قول المعتزلة بالكلية .
قال [24] : وذلك غير وارد ، لأنه قد ذكر أن أبا الحسين من المعتزلة [ ص: 250 ] وقال في موضع آخر : إنه رجل المعتزلة [25] وقال هنا [26] : إنه قد ذهب إلى أن القدرة والإرادة يوجبان وجود المقدور فكيف بطل قولهم بالكلية .
وبيانه أنهم يقولون : إن معنى الاختيار هو استواء الطرفين بالنسبة إلى القدرة وحدها ووجوب وقوع أحدهما بحسب الإرادة ، فمتى حصل المرجح التام [27] وهو الإرادة وجب الفعل ومتى لم يحصل امتنع ذلك ، وذلك غير مناف لاستواء الطرفين بالقياس إلى القدرة وحدها ، فإذا اللزوم الذي ذكره غير قاطع في إبطال قولهم .
قلت : القول الذي قطع بطلانه الرازي هو القول [28] المشهور عنهم ، وهو أن الفعل لا يتوقف على الداعي بل القادر يرجح أحد مقدوريه [29] على الآخر بلا مرجح فيحدث الداعي له الفعل كالإرادة بمجرد كونه قادرا مع استواء القدرة بالنسبة إلى وجود ذلك وعدمه .
والداعي قد يفسر بالعلم أو الاعتقاد أو الظن [30] وقد يفسر بالإرادة وقد يفسر بالمجموع وقد يفسر بما اشتمل عليه المراد مما يقتضي إرادته .
والرازي يقول : إن أبا الحسين متناقض فإن الرازي ذكر في الأقوال [ ص: 251 ] قول الذين يقولون : إن الفعل موقوف على الداعي ، فإذا حصلت القدرة وانضم إليها الداعي صار مجموعهما علة لوجوب الفعل .
قال [31] : وهذا قول جمهور الفلاسفة واختيار أبي الحسين البصري من المعتزلة ، وهو وإن كان يدعي الغلو في الاعتزال ، حتى ادعى أن العلم بأن العبد موجد لأفعاله ضروري ، إلا أنه كان من مذهبه أن الفعل موقوف على الداعي ، فإذا كان عند الاستواء يمتنع وقوعه ، فحال المرجوحية أولى بالامتناع ، وإذا امتنع المرجوح وجب الراجح لأنه لا خروج عن النقيضين وهذا عين القول بالجبر ، لأن الفعل [32] واجب الوقوع عند حصول المرجح ، وممتنع الوقوع عند عدم المرجح ، فثبت أن أبا الحسين كان عظيم الغلو في القول بالجبر ، وإن كان يدعي في ظاهر الأمر أنه عظيم الغلو في الاعتزال .
قلت : هذا القول هو [33] قول جماهير أهل السنة وأئمتهم [34] ويقرب منه قول أبي المعالي الجويني والقاضي أبي خازم [35] ابن القاضي أبي يعلى ، وقول الكرامية ، وهو حقيقة القول بأن الله خالق فعل العبد وهو ظاهر على [36] . قول جمهور أهل السنة المثبتين للأسباب الذين يقولون : لقدرة العبد تأثير في الفعل
[ ص: 252 ] وأما من قال : لا تأثير لها ، فإذا فسر الوجوب بالوجوب العادي لم يمتنع ذلك ، وإن فسر كالأشعري [37] بالعقلي امتنع .
وأما لفظ الجبر فالنزاع فيه لفظي كما تقدم ، وليس هو في اللغة ظاهرا في هذا المعنى ، ولهذا أنكر السلف إطلاقه ، فإذا قالت القدرية : هذا ينافي كونه مختارا لأنه لا معنى للمختار إلا كونه قادرا على الفعل والترك ، وأنه إذا شاء فعل هذا وإذا شاء فعل هذا .
قيل لهم : هذا مسلم ولكن يقال : هو قادر على الفعل والترك على سبيل البدل أو على سبيل الجمع ، والثاني باطل فإنه في حال كونه فاعلا لا يقدر أن يكون تاركا مع كونه فاعلا ، وكذلك حال كونه تاركا لا يقدر على كونه فاعلا مع كونه تاركا ، فإن الفعل والترك ضدان ، واجتماعهما ممتنع ، والقدرة لا تكون على ممتنع .
فعلم أن قولنا قادر على الفعل والترك ، أي يقدر أن يفعل في حال عدم الترك ، ويقدر أن يترك في حال عدم الفعل ، وكذلك قول القائل : القادر [38] إن شاء فعل وإن شاء ترك ، هو على سبيل البدل ، لا يقدر أن يشاء الفعل والترك معا ، بل حال مشيئته للفعل لا يكون مريدا للترك ( 3 وحال مشيئته للترك لا يكون مريدا للفعل [39] 3 ) .
وإذا كان كذلك فالقادر الذي [40] إن شاء فعل وإن شاء ترك ؛ حال كونه [ ص: 253 ] شاء الفعل [41] مع القدرة التامة يجب وجود الفعل ، وحال وجود الفعل يمتنع أن يكون مريدا للترك مع الفعل ، وأن يكون قادرا على وجود الترك مع الفعل ، بل قدرته على الفعل [42] بمعنى أنه يكون بعد الفعل تاركا له ، فيكون قادرا على الترك في الزمن الثاني من وجود الفعل ، لا حال وجود الفعل .
وإذا قال القائل : [43] هذا يقتضي أن يكون الفعل واجبا لا ممكنا ، فإن أراد به أنه يصير [44] واجبا بغيره بعد كونه ممكنا في نفسه ، فهذا حق كما أنه يصير موجودا بعد أن كان معدوما ، وفي حال وجوده يمتنع أن يكون معدوما .
وكل ما خلقه الله تعالى فهو بهذه المثابة فإنه ما شاء كان [45] ، فوجب وجوده بمشيئة الله وقدرته ، وما لم يشأ لم يكن فيمتنع وجوده لعدم مشيئة الله له ، مع أن ما شاءه مخلوق محدث مفعول له ، وكان قبل أن يخلقه يمكن [46] أن يوجد ويمكن أن لا يوجد ، فأما بعد أن صار موجودا بمشيئة الله وقدرته فلا يمكن أن يكون معدوما مع كونه موجودا ، ( * وإنما يمكن أن يعدم بعد وجوده ، وليس في الأشياء ما يمكن وجوده وعدمه معا في حال واحدة ، بل يمكن وجوده بدلا عن عدمه وعدمه بدل عن وجوده [ ص: 254 ] فإذا وجد كان وجوده ما دام موجودا واجبا بغيره ، وإذا سمي ممكنا بمعنى أنه مخلوق ومفعول وحادث فهو صحيح ، لا بمعنى أنه حال وجوده يمكن عدمه مع وجوده * ) [47] فإنه إذا أريد [48] أنه حال وجوده يمكن عدمه مع وجوده فهذا باطل فإنه جمع بين النقيضين .
وإن أراد [49] أنه يمكن عدمه بعد هذا الوجود فهو صحيح ، ولكن هذا لا يناقض وجوب وجوده بغيره ما دام موجودا وهذا موجود [50] بالقادر لا بنفسه وهو ممكن [51] في هذه الحال بمعنى أنه محدث مخلوق مفتقر إلى الله تعالى لا بمعنى كونه [52] يمكن أن يكون معدوما حال وجوده .
ومن فهم هذا انحلت عنه إشكالات كثيرة أشكلت على كثير من الناس في مسائل القدر ، بل وفي إثبات كون الرب قادرا مختارا ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .
والقدر يتعلق بقدرة الله تعالى ولهذا قال : الإمام أحمد [53] القدر قدرة الله تعالى يشير إلى أن من أنكر القدر فقد أنكر قدرة الله تعالى [54] وأنه يتضمن إثبات قدرة الله تعالى على كل شيء .
ولهذا جعل وغيره أخص وصف الرب تبارك وتعالى قدرته على الاختراع . الأشعري
[ ص: 255 ] وأيضا فقول القائل : القادر [55] هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك بمعنى أنه قبل الفعل والترك إن شاء وجود الفعل في الزمن الثاني وإن شاء الترك فيه ، وهذا التخيير بينهما إنما يكون عند عدمهما جميعا ، فأما حال الفعل فيمتنع الترك ، وحال الترك فيمتنع الفعل ، وحينئذ فالفعل واجب حال وجوده لا في الحال التي يكون [56] مخيرا فيها بين الفعل والترك ، فحال التخيير لم يكن واجبا وحال وجوبه لم يكن مخيرا .
نعم قد يكون حال الفعل شائيا للترك بعد الفعل ، وهذا ترك ثان ليس [57] هو ترك ذلك الفعل في حال وجوده ، فالقادر قط لا يكون مخيرا بين الشيئين في حال وجود أحدهما ( 4 إلا بمعنى التخيير في الزمن الثاني وإلا ففي حال وجود أحدهما لا [58] 4 ) يكون [59] مخيرا بين وجوده وعدمه مع وجوده ، وحالما يكون الفاعل فاعلا يمتنع أن يكون تاركا فيمتنع أن يكون هذا الترك مقدورا له ، لأن الممتنع لا يكون مقدورا ، والقدرة على الضدين قدرة على كل واحد منهما على سبيل البدل ليست قدرة على جمعهما ، [60] وهذا كما يقال : إنه قادر على تسويد الثوب وتبييضه ويسافر إلى الشرق والغرب ويذهب يمينا وشمالا وقادر على أن يتزوج هذه الأخت وهذه الأخت [61] .