الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فإن قيل : قولكم إذا جعلنا الله فاعلا وجب وجود ذلك الفعل [1] وخلق الفعل يستلزم وجوده ، ونحو ذلك من الأقوال يقتضي الجبر ، وهو قول باطل .

                  [ ص: 246 ] قيل : لفظ الجبر لم يرد في كتاب ولا سنة لا بنفي ولا إثبات ، واللفظ إنما يكون له حرمة إذا ثبت عن المعصوم ، وهي ألفاظ النصوص ، فتلك علينا أن نتبع معانيها ، وأما الألفاظ المحدثة مثل لفظ الجبر فهو مثل لفظ الجهة والحيز ونحو ذلك .

                  ولهذا كان المنصوص عن أئمة الإسلام مثل الأوزاعي والثوري وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وغيرهم أن هذا اللفظ لا يثبت ولا ينفى مطلقا ، فلا يقال مطلقا : جبر ، ولا يقال : لم يجبر ، فإنه لفظ مجمل .

                  ومن علماء السلف [2] من أطلق نفيه ، كالزبيدي صاحب الزهري ، وهذا نظر إلى المعنى المشهور من معناه في اللغة ، فإن المشهور إطلاق لفظ الجبر والإجبار على ما يفعل بدون إرادة المجبور بل مع كراهته كما يجبر الأب ابنته على النكاح .

                  وهذا المعنى منتف في حق الله تعالى فإنه سبحانه لا يخلق فعل العبد الاختياري بدون اختياره ، بل هو الذي جعله مريدا مختارا ، وهذا لا يقدر عليه أحد إلا الله .

                  ولهذا قال من قال من السلف : الله أعظم وأجل [3] من أن يجبر ، إنما يجبر غيره من لا [4] يقدر على جعله مختارا ، والله تعالى يجعل العبد مختارا فلا يحتاج إلى إجباره .

                  [ ص: 247 ] ولهذا قال الأوزاعي والزبيدي وغيرهما : نقول جبل ولا نقول جبر ، لأن الجبل جاءت به السنة كما في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس : إن فيك خلقين يحبهما الله الحلم والأناة . فقال : أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما ؟ فقال : بل خلقين جبلت عليهما . فقال : الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله [5] .

                  فقد يراد بلفظ الجبر [6] نفس فعل ما يشاؤه ، وإن خلق اختيار العبد ؛ كما قال محمد بن كعب القرظي : الجبار هو الذي جبر العباد على ما أراده [7] .

                  وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في الدعاء المأثور عنه : اللهم داحي المدحوات ، وسامك المسموكات ، جبار [8] القلوب على فطرتها [9] شقيها وسعيدها .

                  فإذا أريد بالجبر هذا فهذا حق [10] وإن أريد به الأول فهو باطل ، ولكن الإطلاق يفهم منه الأول ، فلا يجوز إطلاقه ، فإذا قال السائل : أنا أريد بالجبر المعنى الثاني ، وهو أن نفس جعل الله للعبد [11] فاعلا قادرا [ ص: 248 ] يستلزم الجبر ، ونفس كون الداعي والقدرة يستلزم وجود الفعل " جبر " .

                  قيل : هذا المعنى حق ، ولا دليل لك على إبطاله ، وحذاق المعتزلة كأبي الحسين البصري وأمثاله يسلمون هذا فيسلمون أن مع وجود الداعي والقدرة يجب وجود الفعل .

                  وصاحب هذا الكتاب قد سلك هذه الطريقة فلا يمكنه مع هذا إنكار الجبر بهذا التفسير ، ولهذا [12] نسب أبو الحسين إلى التناقض في هذه المسألة ، فإنه وأمثاله من حذاق المعتزلة إذا سلموا أنه مع الداعي والقدرة ، يجب وجود الفعل ، وسلموا أن الله خلق الداعي والقدرة لزم أن يكون [13] الله خالق أفعال العباد .

                  فحذاق المعتزلة سلموا المقدمتين ومنعوا النتيجة ، والطوسي الذي قد عظمه هذا الإمامي ذكر في تلخيص المحصل لما ذكر احتجاج الرازي : بأن الفعل يجب عند وجود المرجح التام ويمتنع عند عدمه ، فبطل [14] قول المعتزلة بالكلية [15] يعني الذين يقولون إنه يفعل على وجه [ ص: 249 ] الجواز وهو المشهور من مذهبهم ، فاعترض [16] عليه الطوسي وقال : إنه قد ذكر [17] فيما مر أن المختار متمكن [18] من ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر ، [19] بلا مرجح وهنا حكم بأن ذلك [20] محال ، [21] ثم على تقدير الاحتياج إلى المؤثر [22] وامتناع عدم حصول الأثر [23] ، قال : فقد بطل قول المعتزلة بالكلية .

                  قال [24] : وذلك غير وارد ، لأنه قد ذكر أن أبا الحسين من المعتزلة [ ص: 250 ] وقال في موضع آخر : إنه رجل المعتزلة [25] وقال هنا [26] : إنه قد ذهب إلى أن القدرة والإرادة يوجبان وجود المقدور فكيف بطل قولهم بالكلية .

                  وبيانه أنهم يقولون : إن معنى الاختيار هو استواء الطرفين بالنسبة إلى القدرة وحدها ووجوب وقوع أحدهما بحسب الإرادة ، فمتى حصل المرجح التام [27] وهو الإرادة وجب الفعل ومتى لم يحصل امتنع ذلك ، وذلك غير مناف لاستواء الطرفين بالقياس إلى القدرة وحدها ، فإذا اللزوم الذي ذكره غير قاطع في إبطال قولهم .

                  قلت : القول الذي قطع بطلانه الرازي هو القول [28] المشهور عنهم ، وهو أن الفعل لا يتوقف على الداعي بل القادر يرجح أحد مقدوريه [29] على الآخر بلا مرجح فيحدث الداعي له الفعل كالإرادة بمجرد كونه قادرا مع استواء القدرة بالنسبة إلى وجود ذلك وعدمه .

                  والداعي قد يفسر بالعلم أو الاعتقاد أو الظن [30] وقد يفسر بالإرادة وقد يفسر بالمجموع وقد يفسر بما اشتمل عليه المراد مما يقتضي إرادته .

                  والرازي يقول : إن أبا الحسين متناقض فإن الرازي ذكر في الأقوال [ ص: 251 ] قول الذين يقولون : إن الفعل موقوف على الداعي ، فإذا حصلت القدرة وانضم إليها الداعي صار مجموعهما علة لوجوب الفعل .

                  قال [31] : وهذا قول جمهور الفلاسفة واختيار أبي الحسين البصري من المعتزلة ، وهو وإن كان يدعي الغلو في الاعتزال ، حتى ادعى أن العلم بأن العبد موجد لأفعاله ضروري ، إلا أنه كان من مذهبه أن الفعل موقوف على الداعي ، فإذا كان عند الاستواء يمتنع وقوعه ، فحال المرجوحية أولى بالامتناع ، وإذا امتنع المرجوح وجب الراجح لأنه لا خروج عن النقيضين وهذا عين القول بالجبر ، لأن الفعل [32] واجب الوقوع عند حصول المرجح ، وممتنع الوقوع عند عدم المرجح ، فثبت أن أبا الحسين كان عظيم الغلو في القول بالجبر ، وإن كان يدعي في ظاهر الأمر أنه عظيم الغلو في الاعتزال .

                  قلت : هذا القول هو [33] قول جماهير أهل السنة وأئمتهم [34] ويقرب منه قول أبي المعالي الجويني والقاضي أبي خازم [35] ابن القاضي أبي يعلى ، وقول الكرامية ، وهو حقيقة القول بأن الله خالق فعل العبد وهو ظاهر على [36] قول جمهور أهل السنة المثبتين للأسباب الذين يقولون : لقدرة العبد تأثير في الفعل .

                  [ ص: 252 ] وأما من قال : لا تأثير لها كالأشعري ، فإذا فسر الوجوب بالوجوب العادي لم يمتنع ذلك ، وإن فسر [37] بالعقلي امتنع .

                  وأما لفظ الجبر فالنزاع فيه لفظي كما تقدم ، وليس هو في اللغة ظاهرا في هذا المعنى ، ولهذا أنكر السلف إطلاقه ، فإذا قالت القدرية : هذا ينافي كونه مختارا لأنه لا معنى للمختار إلا كونه قادرا على الفعل والترك ، وأنه إذا شاء فعل هذا وإذا شاء فعل هذا .

                  قيل لهم : هذا مسلم ولكن يقال : هو قادر على الفعل والترك على سبيل البدل أو على سبيل الجمع ، والثاني باطل فإنه في حال كونه فاعلا لا يقدر أن يكون تاركا مع كونه فاعلا ، وكذلك حال كونه تاركا لا يقدر على كونه فاعلا مع كونه تاركا ، فإن الفعل والترك ضدان ، واجتماعهما ممتنع ، والقدرة لا تكون على ممتنع .

                  فعلم أن قولنا قادر على الفعل والترك ، أي يقدر أن يفعل في حال عدم الترك ، ويقدر أن يترك في حال عدم الفعل ، وكذلك قول القائل : القادر [38] إن شاء فعل وإن شاء ترك ، هو على سبيل البدل ، لا يقدر أن يشاء الفعل والترك معا ، بل حال مشيئته للفعل لا يكون مريدا للترك ( 3 وحال مشيئته للترك لا يكون مريدا للفعل [39] 3 ) .

                  وإذا كان كذلك فالقادر الذي [40] إن شاء فعل وإن شاء ترك ؛ حال كونه [ ص: 253 ] شاء الفعل [41] مع القدرة التامة يجب وجود الفعل ، وحال وجود الفعل يمتنع أن يكون مريدا للترك مع الفعل ، وأن يكون قادرا على وجود الترك مع الفعل ، بل قدرته على الفعل [42] بمعنى أنه يكون بعد الفعل تاركا له ، فيكون قادرا على الترك في الزمن الثاني من وجود الفعل ، لا حال وجود الفعل .

                  وإذا قال القائل : [43] هذا يقتضي أن يكون الفعل واجبا لا ممكنا ، فإن أراد به أنه يصير [44] واجبا بغيره بعد كونه ممكنا في نفسه ، فهذا حق كما أنه يصير موجودا بعد أن كان معدوما ، وفي حال وجوده يمتنع أن يكون معدوما .

                  وكل ما خلقه الله تعالى فهو بهذه المثابة فإنه ما شاء كان [45] ، فوجب وجوده بمشيئة الله وقدرته ، وما لم يشأ لم يكن فيمتنع وجوده لعدم مشيئة الله له ، مع أن ما شاءه مخلوق محدث مفعول له ، وكان قبل أن يخلقه يمكن [46] أن يوجد ويمكن أن لا يوجد ، فأما بعد أن صار موجودا بمشيئة الله وقدرته فلا يمكن أن يكون معدوما مع كونه موجودا ، ( * وإنما يمكن أن يعدم بعد وجوده ، وليس في الأشياء ما يمكن وجوده وعدمه معا في حال واحدة ، بل يمكن وجوده بدلا عن عدمه وعدمه بدل عن وجوده [ ص: 254 ] فإذا وجد كان وجوده ما دام موجودا واجبا بغيره ، وإذا سمي ممكنا بمعنى أنه مخلوق ومفعول وحادث فهو صحيح ، لا بمعنى أنه حال وجوده يمكن عدمه مع وجوده * ) [47] فإنه إذا أريد [48] أنه حال وجوده يمكن عدمه مع وجوده فهذا باطل فإنه جمع بين النقيضين .

                  وإن أراد [49] أنه يمكن عدمه بعد هذا الوجود فهو صحيح ، ولكن هذا لا يناقض وجوب وجوده بغيره ما دام موجودا وهذا موجود [50] بالقادر لا بنفسه وهو ممكن [51] في هذه الحال بمعنى أنه محدث مخلوق مفتقر إلى الله تعالى لا بمعنى كونه [52] يمكن أن يكون معدوما حال وجوده .

                  ومن فهم هذا انحلت عنه إشكالات كثيرة أشكلت على كثير من الناس في مسائل القدر ، بل وفي إثبات كون الرب قادرا مختارا ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .

                  والقدر يتعلق بقدرة الله تعالى ولهذا قال الإمام أحمد : [53] القدر قدرة الله تعالى يشير إلى أن من أنكر القدر فقد أنكر قدرة الله تعالى [54] وأنه يتضمن إثبات قدرة الله تعالى على كل شيء .

                  ولهذا جعل الأشعري وغيره أخص وصف الرب تبارك وتعالى قدرته على الاختراع .

                  [ ص: 255 ] وأيضا فقول القائل : القادر [55] هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك بمعنى أنه قبل الفعل والترك إن شاء وجود الفعل في الزمن الثاني وإن شاء الترك فيه ، وهذا التخيير بينهما إنما يكون عند عدمهما جميعا ، فأما حال الفعل فيمتنع الترك ، وحال الترك فيمتنع الفعل ، وحينئذ فالفعل واجب حال وجوده لا في الحال التي يكون [56] مخيرا فيها بين الفعل والترك ، فحال التخيير لم يكن واجبا وحال وجوبه لم يكن مخيرا .

                  نعم قد يكون حال الفعل شائيا للترك بعد الفعل ، وهذا ترك ثان ليس [57] هو ترك ذلك الفعل في حال وجوده ، فالقادر قط لا يكون مخيرا بين الشيئين في حال وجود أحدهما ( 4 إلا بمعنى التخيير في الزمن الثاني وإلا ففي حال وجود أحدهما لا [58] 4 ) يكون [59] مخيرا بين وجوده وعدمه مع وجوده ، وحالما يكون الفاعل فاعلا يمتنع أن يكون تاركا فيمتنع أن يكون هذا الترك مقدورا له ، لأن الممتنع لا يكون مقدورا ، والقدرة على الضدين قدرة على كل واحد منهما على سبيل البدل ليست قدرة على جمعهما ، [60] وهذا كما يقال : إنه قادر على تسويد الثوب وتبييضه ويسافر إلى الشرق والغرب ويذهب يمينا وشمالا وقادر على أن يتزوج هذه الأخت وهذه الأخت [61] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية