الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( 7 الثاني : أن يقال 7 ) : [1] : والقرآن مملوء بما يدل [2] على أن أفعال العباد حادثة بمشيئة الله [ وقدرته ] [3] وخلقه ، فيجب الإيمان بكل ما في القرآن ، ولا يجوز أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض .

                  [ ص: 258 ] قال الله تعالى : ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد [ سورة البقرة : 253 ] .

                  وقال تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء [ سورة الأنعام : 125 ] .

                  وقال تعالى : ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون [ سورة الأنعام : 112 ] .

                  وقال تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [ سورة الكهف : 23 ، 24 ] وأجمع علماء المسلمين [4] على أن الرجل لو قال : لأصلين الظهر غدا إن شاء الله ، أو : لأقضين الدين الذي علي ، وصاحبه مطالبه ، أو : لأردن هذه الوديعة [5] ، ونحو ذلك ، ثم لم يفعله - أنه لا يحنث في يمينه ، ولو كانت المشيئة بمعنى الأمر لحنث [6] .

                  وقال عن إبراهيم : ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا [ سورة البقرة : 128 ] .

                  وقال تعالى : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا [ سورة البقرة : 26 ] .

                  وقال تعالى : واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه [ سورة الأنفال : 24 ] .

                  [ ص: 259 ] وقال تعالى : إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون [ سورة يس : 8 ، 9 ] ( * [7] .

                  وقال تعالى : وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا [ سورة الأنبياء : 73 ] .

                  وقال تعالى : وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا [ سورة الأنبياء : 73 ] .

                  وقال عن بني إسرائيل : وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون [ سورة السجدة : 24 ] .

                  وقال عن آل فرعون وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون [ سورة القصص : 41 ] .

                  وقال عن الخليل - صلى الله عليه وسلم - : رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء [ سورة إبراهيم : 40 ] .

                  وقال : ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم .

                  وقال تعالى : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون [ سورة يس : 41 ، 42 ] والفلك من مصنوعات بني آدم .

                  وهذا مثل قوله تعالى : والله خلقكم وما تعملون [ سورة الصافات : 96 ] [ ص: 260 ] فإن طائفة من المثبتة [8] للقدر قالوا : إن " ما " هاهنا مصدرية ، وإن المراد : خلقكم وخلق أعمالكم ، وهذا ضعيف جدا .

                  والصواب أن " ما " هاهنا بمعنى الذي ، وأن المراد : والله خلقكم [9] والأصنام التي تعملونها .

                  كما في حديث حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [10] : " إن الله خلق كل صانع وصنعته " . [11]

                  وأنه [12] قال : أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون [ سورة الصافات : 95 ، 96 ] فذمهم وأنكر عليهم عبادة ما ينحتونه [13] من الأصنام ، ثم ذكر أن الله خلق العابد والمعبود والمنحوت .

                  وهو سبحانه الذي يستحق أن يعبد ، ولو أريد : والله خلقكم [ ص: 261 ] وأعمالكم كلها ، لم يكن هذا مناسبا ، فإنه قد ذمهم على العبادة ، وهي من أعمالهم ، فلم يكن في ذكر كونه خالقا لأعمالهم ما يناسب الذم بل هو إلى العذر أقرب .

                  ولكن هذه الآية تدل على أنه خالق لأعمال [14] العباد من وجه آخر ، وهو أنه إذا خلق المعمول الذي عملوه وهو الصنم المنحوت فقد خلق التأليف القائم به ، وذلك مسبب من [15] عمل ابن آدم وخالق المسبب [16] خالق السبب بطريق الأولى .

                  وصار هذا كقوله : وخلقنا لهم من مثله ما يركبون [ سورة يس : 42 ] .

                  ومعلوم أن السفن إنما ينجر [17] خشبها ويركبها بنو آدم ، فالفلك معمولة لهم [18] كما هي [19] الأصنام معمولة لهم وكذلك سائر ما يصنعونه من الثياب [20] والأطعمة والأبنية ، فإذا كان الله قد أخبر أنه خلق الفلك المشحون وجعل ذلك من آياته ومما أنعم الله به على عباده - علم أنه خالق أفعالهم .

                  وعلى قول القدرية لم يخلق إلا الخشب الذي يصلح أن يكون سفنا وغير سفن ، ومعلوم أن مجرد خلق المادة لا يوجب خلق الصورة التي حصلت بأفعال بني آدم إن لم يكن خالقا [21] للصورة .

                  [ ص: 262 ] ومثل هذا قوله تعالى : والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم [ سورة النحل : 80 ] إلى قوله : والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون [ سورة النحل : 81 ] [22] .

                  ومعلوم أن خلق البيوت المبنية والسرابيل المصنوعة هو كخلق السفن المنجورة [23] ، وقد أخبر الله [24] أن الفلك صنعة بني آدم مع إخباره أنه خلقها كما قال تعالى عن نوح عليه السلام : ويصنع الفلك .

                  وأيضا ففي القرآن من ذكر [25] وأنه هو تبارك وتعالى يحدث من ذلك ما يطول وصفه كقوله تعالى : فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة [ سورة الأعراف : 30 ] ، وقوله تعالى : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه [ سورة البقرة : 213 ] ، وقوله : ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون [ سورة الحجرات : 7 ] ومعلوم أنه لم يرد بذلك الهداية المشتركة بين المؤمن والكافر ، مثل إرسال الرسل والتمكين [26] من الفعل وإزاحة العلل ، بل أراد ما يختص به المؤمن .

                  [ ص: 263 ] كما دل عليه القرآن في مثل [27] قوله تعالى : واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم [ سورة الأنعام : 87 ] وقوله : وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم [ سورة الصافات : 117 ، 118 ] .

                  ومنه قولنا [28] في الصلاة : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ سورة الفاتحة : 6 ، 7 ] فإن الهداية المشتركة حاصلة لا تحتاج أن تسأل [29] ، وإنما تسأل الهداية التي خص بها المهتدين ، ومن تأول ذلك بمعنى زيادة الهدى والتثبيت وقال [30] : كان ذلك جزاء - كان متناقضا .

                  فإنه يقال : هذا المطلوب إن لم يكن حاصلا [31] باختيار العبد لم يثب عليه ، فإنه إنما يثاب على ما فعله باختياره ( 6 وإن كان باختياره 6 ) [32] فقد ثبت أن الله يحدث الفعل الذي يختاره العبد ، وهذا مذهب أهل السنة .

                  وكذلك ما أخبر الله في القرآن من إضلال وهدى ونحو ذلك ، فإنهم قد يتأولون ذلك بأنه جزاء على ما تقدم ، وعامة تأويلاتهم مما يعلم بالاضطرار أن الله ورسوله لم يردها بكلامه مع أن هذا الجزاء مما يثاب الفاعل عليه وإن جوزوا أن الله يثيب العبد على ما ينعم به على العبد [33] [ ص: 264 ] من فعله الاختياري جاز أن ينعم عليه ابتداء باختياره الطاعة ، وإن لم يجز عندهم الثواب والعقاب على ما يجعل العبد فاعلا له بطل أن يريد [34] هدى أو ضلالة يثاب عليها أو يعاقب عليها ، وامتنع أن يكون ما أخبر أنه فعله من جعل الأغلال في أعناقهم وجعله من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا ونحو ذلك هو مما يعاقبون عليه . [35] وقد قال تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل [ سورة النحل : 37 ] فأخبر أنه من أضله [36] الله لا يهتدي .

                  وفي الجملة ففي القرآن من الآيات المبينة أن الله خالق أفعال العباد ، وأنه هو الذي يقلب قلوب العباد [37] فيهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وأنه هو المنعم بالهدى على من أنعم عليه ، ما يتعذر استقصاؤه في هذه المواضع [38] .

                  وكذلك فيه ما يبين عموم [39] خلقه لكل شيء كقوله : الله خالق كل شيء [ سورة الرعد : 16 ] وغير ذلك ، وفيه ما يبين أنه فعال لما يريد ، وفيه ما يبين أنه لو شاء لهدى الناس جميعا ، وأمثال ذلك مما يطول وصفه .

                  وإذا قيل : هذه متأولة عند [40] القدرية لأنها من المتشابه عندهم .

                  [ ص: 265 ] كان الجواب من وجهين ؛ أحدهما : أن هذا مقابل بتأويلات الجبرية لما احتجوا به ، وبقولهم هذا متشابه وهو [41] لم يذكر إلا مجرد النصوص ، فذكرنا النصوص من الطرفين .

                  الثاني : أن نبين فساد تأويلاتهم واحدا واحدا كما بسط في موضع آخر ، وفي تأويلاتهم من تحريف الكلم عن مواضعه ومخالفة اللغة وتناقض المعاني ومخالفة إجماع سلف الأمة وأئمتها - ما يبين بعضه بطلان تحريفاتهم ، ويبين أنه ليس في القرآن محكم يناقض هذا حتى يقال : إن هذا متشابه وذلك محكم ، بل القرآن يصدق بعضه بعضا .

                  ومن فتح هذا الباب من أهل البدع لم يكن له ثبات ، فإن خصمه يفعل كما يفعل ، فلا يبقى في يده [42] حجة سليمة عن المعارضة بمثلها ، كيف وعامة تأويلاتهم مما يعلم بالاضطرار أن الله ورسوله لم يردها بكلامه ] ( * ) [43] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية