قالوا : وبهذا يعلم حدوث الجسم ; لأن الجسم لا يخلو عن الحوادث ، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث .
ولم يفرق هؤلاء بين ما لا يخلو عن نوع الحوادث ، وبين ما لا يخلو عن عين الحوادث [1] ، ولا فرقوا فيما لا يخلو عن الحوادث بين أن يكون مفعولا معلولا . أو أن يكون فاعلا . واجبا بنفسه [2] .
فقال . [3] لهؤلاء أئمة الفلاسفة ، وأئمة [ أهل ] [4] الملل وغيرهم : فهذا الدليل الذي أثبتم به حدوث العالم ( 6 هو يدل على امتناع حدوث العالم 6 ) [5] ، وكان ما ذكرتموه إنما يدل على نقيض ما قصدتموه .
وذلك لأن الحادث إذا حدث بعد أن لم يكن [6] محدثا ، فلا بد أن [ ص: 159 ] يكون ممكنا ، والإمكان ليس له وقت محدود ، فما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله ، فليس لإمكان الفعل وجواز ذلك وصحته مبدأ ينتهى إليه ، فيجب أنه لم يزل الفعل ممكنا جائزا صحيحا ، ( 1 فيلزم أنه لم يزل الرب قادرا عليه 1 ) [7] ، فيلزم جواز حوادث لا نهاية لأولها [8] .
قال المناظر عن أولئك [9] المتكلمين من الجهمية ، والمعتزلة وأتباعهم : نحن لا نسلم أن إمكان الحوادث لا بداية له لكن نقول إمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية له ، وذلك لأن الحوادث عندنا يمتنع أن تكون قديمة النوع ، بل يجب حدوث نوعها ، ويمتنع قدم نوعها لكن لا يجب الحدوث في وقت بعينه ، فإمكان الحوادث بشرط [10] كونها مسبوقة العدم لا أول له بخلاف جنس الحوادث .
فيقال لهم : هب أنكم تقولون ذلك لكن يقال : إمكان جنس الحوادث عندكم له بداية ، فإنه صار جنس الحدوث [11] عندكم ممكنا بعد أن لم يكن ممكنا ، وليس لهذا الإمكان وقت معين ، بل ما من وقت يفرض إلا والإمكان ثابت قبله ، فيلزم دوام الإمكان ، وإلا لزم انقلاب الجنس من الإمكان إلى الامتناع من غير حدوث شيء ولا تجدد شيء .
[ ص: 160 ] . ومعلوم أن انقلاب حقيقة جنس الحدوث أو جنس [12] الحوادث ، أو جنس الفعل ، أو جنس الإحداث ، أو ما يشبه هذا من العبارات من الامتناع إلى الإمكان هو مصير ذلك ممكنا جائزا بعد أن كان ممتنعا من غير سبب تجدد [13] ، وهذا ممتنع في صريح العقل ، وهو أيضا
وهذا الانقلاب لا يختص بوقت معين ، فإنه ما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله ، ( 3 فيلزم أنه لم يزل هذا الانقلاب 3 ) انقلاب الجنس من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي ، فإن ذات جنس الحوادث عندهم تصير ممكنة بعد أن كانت ممتنعة . [14] ، فيلزم أنه لم يزل الممتنع ممكنا ، وهذا أبلغ في الامتناع من قولنا لم يزل الحادث ممكنا ، فقد لزمهم فيما فروا [ إليه أبلغ مما لزمهم فيما فروا ] [15] منه ، فإنه يعقل كون الحادث ممكنا [16] ، ويعقل أن هذا الإمكان لم يزل ، وأما كون الممتنع ممكنا ، فهو ممتنع في نفسه ، فكيف إذا قيل : لم يزل إمكان هذا الممتنع ! .
وأيضا [17] كونها مسبوقة بالعدم - لم يزل ممكنا ، فإنه يتضمن الجمع بين النقيضين أيضا ، فإن كون هذا فما ذكروه من الشرط : وهو أن جنس الفعل ، أو جنس الحوادث - بشرط [18] لم يزل يقتضي أنه لا بداية لإمكانه ، . [ ص: 161 ] وأن إمكانه قديم أزلي ، وكونه مسبوقا بالعدم يقتضي أن له بداية ، وأنه ليس بقديم أزلي [19] ، فصار قولهم مستلزما أن الحوادث يجب أن يكون لها بداية ، وأنه لا يجب أن يكون لها بداية .
وذلك لأنهم قدروا تقديرا ممتنعا ، والتقدير الممتنع قد يلزمه حكم ممتنع كقوله تعالى : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) [ سورة الأنبياء : 22 ] .
فإن قولهم : إمكان جنس الحوادث - بشرط كونها مسبوقة بالعدم - لا بداية له مضمونة أن ما له بداية ليس له بداية ، فإن المشروط بسبق العدم له بداية [20] ، وإن [21] قدر أنه لا بداية له كان جمعا بين النقيضين .
وأيضا فيقال : هذا تقدير لا حقيقة له في الخارج ، فصار بمنزلة قول القائل : جنس الحوادث بشرط [22] كونها ملحوقة بالعدم هل لإمكانها نهاية ؟ أم ليس لإمكانها نهاية ؟ فكما أن هذا يستلزم الجمع بين النقيضين في النهاية ، فكذلك الأمل يستلزم الجمع بين النقيضين في البداية [23] .
وأيضا ، وقد يقولون : لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام يستلزم وجود ذلك الممكن . فالممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح تام يجب به الممكن
[ وهذا الثاني أصوب ، كما عليه نظار المسلمين المثبتين ، فإن بقاءه [ ص: 162 ] معدوما لا يفتقر إلى مرجح ، ومن قال : إنه يفتقر إلى مرجح قال : عدم مرجحه يستلزم عدمه ، ولكن يقال : هذا مستلزم لعدمه لا أن هذا هو الأمر الموجب لعدمه ، ولا يجب عدمه في نفس الأمر ، بل عدمه في نفس الأمر لا علة له ، فإن عدم المعلول يستلزم عدم العلة ، وليس هو علة له ، والملزوم أعم من كونه علة ] [24] ; لأن ذلك المرجح التام لو لم يستلزم وجود الممكن لكان وجود الممكن مع المرجح التام جائزا لا واجبا ولا ممتنعا ، وحينئذ فيكون ممكنا ، فيتوقف على مرجح ; لأن الممكن لا يحصل إلا بمرجح .
فدل ذلك على أن الممكن إن لم يحصل مرجح يستلزم وجوده امتنع وجوده ، وما دام وجوده ممكنا جائزا غير لازم لا يوجد ، وهذا هو الذي يقوله أئمة أهل السنة المثبتين للقدر مع موافقة أئمة الفلاسفة لهم [25] ، وهذا مما احتجوا به على أن . الله خالق أفعال العباد