الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ الوجه الخامس : أن يقال الإمام هو الذي يؤتم به [1] ] [2] وذلك على وجهين : أحدهما : أن يرجع إليه في العلم والدين بحيث يطاع باختيار المطيع ، لكونه عالما بأمر الله عز وجل آمرا به ، فيطيعه المطيع لذلك ، وإن كان عاجزا عن إلزامه [3] الطاعة .

                  [ ص: 107 ] والثاني : أن يكون صاحب يد وسيف ، بحيث يطاع طوعا وكرها لكونه [4] قادرا على إلزام المطيع بالطاعة .

                  وقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) [ سورة النساء : 59 ] قد فسر بالأمراء [5] بذوي القدرة كأمراء الحرب ، وفسر بأهل العلم والدين ، وكلاهما حق . وهذان الوصفان كانا كاملين في الخلفاء الراشدين ، فإنهم كانوا كاملين في العلم والعدل والسياسة والسلطان ، وإن كان بعضهم أكمل في ذلك من بعض ، فأبو بكر ، وعمر أكمل في ذلك من عثمان وعلي ، وبعدهم لم يكمل أحد في هذه الأمور إلا عمر بن عبد العزيز ، بل قد يكون [ الرجل ] [6] أكمل في العلم والدين ممن [ يكون ] [7] له سلطان ، وقد يكون أكمل في السلطان ممن هو أعلم منه وأدين .

                  وهؤلاء إن أريد بكونهم أئمة أنهم ذوو سلطان فذلك باطل [8] ، وهم لا يقولونه . وإن أريد بذلك أنهم أئمة في العلم والدين يطاعون مع عجزهم عن إلزام غيرهم بالطاعة ، فهذا قدر مشترك بين كل من كان متصفا بهذه الصفات .

                  ثم إما أن يقال : قد كان في أعصارهم من هو أعلم منهم وأدين ، إذ [ ص: 108 ] العلم المنقول عن غيرهم أضعاف العلم المنقول عنهم ، وظهور آثار غيرهم في الأمة أعظم من ظهور آثارهم في الأمة ، والمتقدمون منهم كعلي بن الحسين ، وابنه أبي جعفر ، وابنه جعفر بن محمد قد نقل [9] عنهم من العلم قطعة معروفة ، وأخذ عن غيرهم أكثر من ذلك بكثير كثير ، وأما من بعدهم فالعلم المأخوذ عنهم قليل جدا ، ولا ذكر لأحد منهم في رجال أهل العلم المشاهير بالرواية والحديث والفتيا ، ولا غيرهم من المشاهير بالعلم . وما يذكر لهم من المناقب والمحاسن ، فمثله يوجد لغيرهم من الأئمة [10] .

                  وإما أن يقال : إنهم أفضل الأمة في العلم والدين . فعلى التقديرين فإمامتهم على هذا الاعتبار لا ينازع فيها أهل السنة ، فإنهم متفقون على أنه يؤتم [11] بكل أحد فيما يأمر به [ من طاعة الله ] [12] ويدعو إليه من دين الله ويفعله مما يحبه الله ، فما فعله هؤلاء من الخير ودعوا إليه من الخير فإنهم أئمة فيه يقتدى بهم في ذلك [13] .

                  قال تعالى : ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) [ سورة السجدة : 24 ] ، وقد قال تعالى لإبراهيم : ( إني جاعلك للناس إماما ) [ سورة البقرة : 124 ] ، ولم يكن ذلك بأن جعله ذا سيف يقاتل [ ص: 109 ] به جميع الناس ، بل جعله [ بحيث ] [14] يجب على الناس اتباعه ، سواء أطاعوه أم عصوه .

                  فهؤلاء في الإمامة [15] في الدين أسوة [16] أمثالهم ، فأهل السنة مقرون بإمامة هؤلاء فيما دلت الشريعة على الائتمام بهم فيه ، ( * وعلى الإمامة فيما يمكن الائتمام بهم فيه * ) [17] ، كما أن هذا الحكم ثابت لأمثالهم مثل أبي بكر ، وعمر وعثمان ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، ومعاذ ، وأبي الدرداء وأمثالهم من السابقين الأولين ، ومثل سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، وعبيد الله بن عبد الله ، وعروة بن الزبير ، والقاسم بن محمد ، وأبي بكر بن عبد الرحمن ، وخارجة بن زيد . وهؤلاء هم [18] فقهاء المدينة ( * السبعة الذين قيل فيهم :

                  إذا قيل من في العلم سبعة أبحر مقالة حق [19] ليست عن الحق خارجه     فقل هم عبيد الله عروة قاسم
                  سعيد أبو بكر سليمان خارجه

                  * ) [20] .

                  ومثل علقمة ، والأسود بن يزيد [21] وأسامة [22] ومحمد بن سيرين ، والحسن البصري ، ومثل سالم بن عبد الله بن عمر ، ومثل هشام بن عروة [ ص: 110 ] وعبد الرحمن بن القاسم ، وعبيد الله بن عمر [23] والزهري ، ويحيى بن سعيد الأنصاري وأبي الزناد ، ومثل مالك ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد وإسحاق بن إبراهيم وغيرهم [24] .

                  لكن المنقول الثابت عن بعض هؤلاء من الحديث والفتيا قد يكون أكثر من المنقول الثابت عن الآخر ، فتكون شهرته لكثرة علمه أو لقوة حجته أو نحو ذلك ، وإلا فلا يقول أهل السنة : إن يحيى بن سعيد ، وهشام بن عروة ، وأبا الزناد أولى بالاتباع من جعفر بن محمد ، ولا يقولون : إن الزهري ، ويحيى بن أبي كثير ، وحماد بن أبي سليمان [25] ومنصور بن المعتمر أولى بالاتباع من أبيه [26] أبي جعفر الباقر ، ولا يقولون : إن القاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير ، وسالم بن عبد الله أولى بالاتباع من علي بن الحسين ، بل كل [ واحد من ] [27] هؤلاء ثقة فيما ينقله ، مصدق في ذلك ، وما بينه من دلالة الكتاب والسنة على أمر من الأمور فهو من العلم الذي يستفاد منه ، فهو مصدق في الرواية والإسناد ، مقبول في الدلالة والإرشاد [28] ، وإذا أفتى بفتيا [ ص: 111 ] وعارضه [ غيره ] [29] رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله كما أمر الله سبحانه بذلك [30] . وهذا حكم الله ورسوله بين هؤلاء جميعهم ، وهكذا كان المسلمون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و [ عهد الخلفاء الراشدين ] [31] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية