الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  الوجه الثاني : أن ادعاء فاطمة ذلك كذب على فاطمة [1] ، [ وقد قال الإمام أبو العباس بن سريج [2] في الكتاب الذي صنفه في الرد على عيسى بن أبان [3] لما تكلم معه في باب اليمين والشاهد ، واحتج بما احتج ، وأجاب عما عارض به عيسى بن أبان ، قال : وأما حديث البحتري بن حسان عن زيد بن علي : أن فاطمة ذكرت لأبي بكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاها فدك ، وأنها جاءت برجل وامرأة ، فقال : رجل مع رجل ، وامرأة مع امرأة ، فسبحان الله ما أعجب هذا ! ! قد سألت فاطمة أبا بكر [4] ميراثها وأخبرها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا نورث ، وما [ ص: 230 ] حكي في شيء من الأحاديث أن فاطمة ادعتها بغير الميراث ، ولا أن أحدا شهد بذلك .

                  ولقد روى جرير عن مغيرة عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في فدك : " إن فاطمة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعلها لها فأبى ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفق منها ويعود على ضعفة بني هاشم ويزوج منه أيمهم ، وكانت كذلك حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر صدقة وقبلت فاطمة الحق [5] ، وإني أشهدكم أني رددتها إلى ما كانت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " [6] .

                  ولم يسمع أن فاطمة - رضي الله عنها - ادعت أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 231 ] أعطاها إياها في حديث ثابت متصل ، ولا أن شاهدا شهد لها . ولو كان ذلك لحكي ؛ لأنها خصومة وأمر ظاهر تنازعت فيه الأمة وتحادثت فيه ، فلم يقل أحد من المسلمين : شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاها فاطمة ولا سمعت فاطمة تدعيها حتى جاء البحتري بن حسان يحكي عن زيد شيئا لا ندري ما أصله ، ولا من جاء به ، وليس من أحاديث أهل العلم : فضل بن مرزوق عن البحتري عن زيد ، وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب أن يكف عن بعض هذا الذي لا معنى له ، وكان الحديث قد حسن بقول زيد : لو كنت أنا لقضيت بما قضى به أبو بكر . وهذا مما لا يثبت على أبي بكر ولا على فاطمة لو لم يخالفه أحد ، ولو لم تجر فيه المناظرة ويأت فيها الرواية ، فكيف وقد جاءت ؟ وأصل المذهب أن الحديث إذا ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال أبو بكر بخلافه ، إن هذا من أبي بكر رحمه الله كنحو ما كان منه في الجدة ، وأنه متى بلغه الخبر رجع إليه .

                  ولو ثبت هذا الحديث لم يكن فيه حجة ؛ لأن فاطمة لم تقل : إني أحلف مع شاهدي فمنعت . ولم يقل أبو بكر : إني لا أرى اليمين مع الشاهد .

                  قالوا : وهذا الحديث غلط ؛ لأن أسامة بن زيد يروي عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان [7] ، قال [8] : كان مما احتج به عمر أن قال : كانت [ ص: 232 ] لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث صفايا : بنو النضير [9] ، وخيبر ، وفدك . فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه . وأما فدك فكانت حبسا لأبناء السبيل ، وأما خيبر فجزأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أجزاء : جزأين بين المسلمين ، وجزءا نفقة لأهله ، فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين جزأين .

                  وروى الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة [10] أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما أفاء الله عليه بالمدينة [11] وفدك وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا نورث ما تركنا صدقة ، وإنما يأكل آل محمد من هذا المال ، وإني والله [12] لا أغير شيئا من صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 233 ] [13] ، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا [14] .

                  ورواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال : حدثني عروة : أن عائشة أخبرته بهذا الحديث . قال : وفاطمة - رضي الله عنها - حينئذ تطلب صدقة رسول الله التي بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر . قالت عائشة : فقال أبو بكر : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا نورث ما تركنا صدقة ، وإنما يأكل آل محمد في هذا المال ، يعني مال الله عز وجل ، ليس لهم أن يزيدوا على المال .

                  ورواه صالح عن ابن شهاب عن عروة أن عائشة قالت فيه [15] : فأبى أبو بكر عليها ذلك ، وقال : لست تاركا شيئا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل به إلا عملت به ، إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ . فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس ، فغلب علي عليها . وأما خيبر وفدك فأمسكها عمر ، وقال : هما صدقة رسول الله [ ص: 234 ] - صلى الله عليه وسلم - كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه [16] ، وأمرها إلى من ولي الأمر . قال : فهما على ذلك إلى اليوم .

                  فهذه الأحاديث الثابتة المعروفة عند أهل العلم ، وفيها ما يبين أن فاطمة - رضي الله عنها - طلبت ميراثها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما كانت تعرف من المواريث ، فأخبرت بما كان من رسول الله فسلمت ورجعت ، فكيف تطلبها ميراثا وهي تدعيها ملكا بالعطية ؟ هذا ما لا معنى فيه . وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب أن يتدبر ، ولا نحتج بما يوجد في الأحاديث الثابتة لرده وإبانة الغلط فيه [17] ، ولكن حبك الشيء يعمي ويصم .

                  وقد روي عن أنس أن أبا بكر قال لفاطمة وقد قرأت عليه إني أقرأ مثل ما قرأت [18] ولا يبلغن علمي أن يكون قاله كله . قالت فاطمة : هو لك ولقرابتك ؟ قال : لا وأنت عندي مصدقة أمينة ، فإن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إليك في هذا ، أو وعدك فيه موعدا أو أوجبه لكم حقا صدقتك . فقالت : لا غير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال حين أنزل عليه : " أبشروا يا آل محمد وقد جاءكم الله عز وجل بالغنى " . قال [ ص: 235 ] أبو بكر : صدق الله ورسوله وصدقت ، فلكم الفيء ، ولم يبلغ علمي بتأويل هذه أن أستلم هذا السهم كله كاملا إليكم ، ولكم الفيء [19] الذي يسعكم . وهذا يبين أن أبا بكر كان يقبل قولها ، فكيف يرده ومعه شاهد وامرأة ؟ ولكنه يتعلق بكل شيء يجده ] [20] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية