الوجه الثاني : أن ادعاء فاطمة ذلك كذب على فاطمة [1] ، [ وقد قال الإمام أبو العباس بن سريج [2] في الكتاب الذي صنفه في الرد على عيسى بن أبان [3] لما تكلم معه في باب اليمين والشاهد ، واحتج بما احتج ، وأجاب عما عارض به عيسى بن أبان ، قال : وأما حديث البحتري بن حسان عن زيد بن علي : أن فاطمة ذكرت لأبي بكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاها فدك ، وأنها جاءت برجل وامرأة ، فقال : رجل مع رجل ، وامرأة مع امرأة ، فسبحان الله ما أعجب هذا ! ! قد سألت فاطمة أبا بكر [4] ميراثها وأخبرها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا نورث ، وما [ ص: 230 ] حكي في شيء من الأحاديث أن فاطمة ادعتها بغير الميراث ، ولا أن أحدا شهد بذلك .
ولقد روى جرير عن مغيرة عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في فدك : " إن فاطمة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعلها لها فأبى ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفق منها ويعود على ضعفة بني هاشم ويزوج منه أيمهم ، وكانت كذلك حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر صدقة وقبلت فاطمة الحق [5] ، وإني أشهدكم أني رددتها إلى ما كانت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " [6] .
ولم يسمع أن فاطمة - رضي الله عنها - ادعت أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 231 ] أعطاها إياها في حديث ثابت متصل ، ولا أن شاهدا شهد لها . ولو كان ذلك لحكي ؛ لأنها خصومة وأمر ظاهر تنازعت فيه الأمة وتحادثت فيه ، فلم يقل أحد من المسلمين : شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاها فاطمة ولا سمعت فاطمة تدعيها حتى جاء البحتري بن حسان يحكي عن زيد شيئا لا ندري ما أصله ، ولا من جاء به ، وليس من أحاديث أهل العلم : فضل بن مرزوق عن البحتري عن زيد ، وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب أن يكف عن بعض هذا الذي لا معنى له ، وكان الحديث قد حسن بقول زيد : لو كنت أنا لقضيت بما قضى به أبو بكر . وهذا مما لا يثبت على أبي بكر ولا على فاطمة لو لم يخالفه أحد ، ولو لم تجر فيه المناظرة ويأت فيها الرواية ، فكيف وقد جاءت ؟ وأصل المذهب أن الحديث إذا ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال أبو بكر بخلافه ، إن هذا من أبي بكر رحمه الله كنحو ما كان منه في الجدة ، وأنه متى بلغه الخبر رجع إليه .
ولو ثبت هذا الحديث لم يكن فيه حجة ؛ لأن فاطمة لم تقل : إني أحلف مع شاهدي فمنعت . ولم يقل أبو بكر : إني لا أرى اليمين مع الشاهد .
قالوا : وهذا الحديث غلط ؛ لأن أسامة بن زيد يروي عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان [7] ، قال [8] : كان مما احتج به عمر أن قال : كانت [ ص: 232 ] لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث صفايا : بنو النضير [9] ، وخيبر ، وفدك . فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه . وأما فدك فكانت حبسا لأبناء السبيل ، وأما خيبر فجزأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أجزاء : جزأين بين المسلمين ، وجزءا نفقة لأهله ، فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين جزأين .
وروى الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة [10] أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما أفاء الله عليه بالمدينة [11] وفدك وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا نورث ما تركنا صدقة ، وإنما يأكل آل محمد من هذا المال ، وإني والله [12] لا أغير شيئا من صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 233 ] [13] ، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا [14] .
ورواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال : حدثني عروة : أن عائشة أخبرته بهذا الحديث . قال : وفاطمة - رضي الله عنها - حينئذ تطلب صدقة رسول الله التي بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر . قالت عائشة : فقال أبو بكر : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا نورث ما تركنا صدقة ، وإنما يأكل آل محمد في هذا المال ، يعني مال الله عز وجل ، ليس لهم أن يزيدوا على المال .
ورواه صالح عن ابن شهاب عن عروة أن عائشة قالت فيه [15] : فأبى أبو بكر عليها ذلك ، وقال : لست تاركا شيئا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل به إلا عملت به ، إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ . فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس ، فغلب علي عليها . وأما خيبر وفدك فأمسكها عمر ، وقال : هما صدقة رسول الله [ ص: 234 ] - صلى الله عليه وسلم - كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه [16] ، وأمرها إلى من ولي الأمر . قال : فهما على ذلك إلى اليوم .
فهذه الأحاديث الثابتة المعروفة عند أهل العلم ، وفيها ما يبين أن فاطمة - رضي الله عنها - طلبت ميراثها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما كانت تعرف من المواريث ، فأخبرت بما كان من رسول الله فسلمت ورجعت ، فكيف تطلبها ميراثا وهي تدعيها ملكا بالعطية ؟ هذا ما لا معنى فيه . وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب أن يتدبر ، ولا نحتج بما يوجد في الأحاديث الثابتة لرده وإبانة الغلط فيه [17] ، ولكن حبك الشيء يعمي ويصم .
وقد روي عن أنس أن أبا بكر قال لفاطمة وقد قرأت عليه إني أقرأ مثل ما قرأت [18] ولا يبلغن علمي أن يكون قاله كله . قالت فاطمة : هو لك ولقرابتك ؟ قال : لا وأنت عندي مصدقة أمينة ، فإن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إليك في هذا ، أو وعدك فيه موعدا أو أوجبه لكم حقا صدقتك . فقالت : لا غير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال حين أنزل عليه : " أبشروا يا آل محمد وقد جاءكم الله عز وجل بالغنى " . قال [ ص: 235 ] أبو بكر : صدق الله ورسوله وصدقت ، فلكم الفيء ، ولم يبلغ علمي بتأويل هذه أن أستلم هذا السهم كله كاملا إليكم ، ولكم الفيء [19] الذي يسعكم . وهذا يبين أن أبا بكر كان يقبل قولها ، فكيف يرده ومعه شاهد وامرأة ؟ ولكنه يتعلق بكل شيء يجده ] [20] .


