الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 359 ] وأما قوله : " كيف أطاعها على ذلك عشرات ألوف من المسلمين [1] وساعدوها

                  [2] على حرب أمير المؤمنين ، ولم ينصر أحد منهم بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما طلبت حقها من أبي بكر - رضي الله عنه - ولا شخص واحد [ كلمه ]

                  [3] بكلمة واحدة " .

                  فيقال : أولا : هذا من أعظم الحجج عليك ; فإنه لا يشك عاقل أن القوم كانوا يحبون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعظمونه ويعظمون قبيلته وبنته أعظم مما يعظمون أبا بكر وعمر ، ولو لم يكن هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فكيف إذا كان [ هو ]

                  [4] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أحب إليهم من أنفسهم وأهليهم ؟ ولا

                  [5] يستريب عاقل أن العرب - قريشا وغير قريش

                  [6] - كانت تدين لبني عبد مناف وتعظمهم أعظم مما يعظمون بني تيم وعدي

                  [7] ، ولهذا لما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتولى أبو بكر ، قيل لأبي قحافة : مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال : حدث عظيم ، فمن ولي

                  [8] بعده ؟ قالوا : أبو بكر .

                  [ ص: 360 ] قال : أو رضيت بنو عبد مناف

                  [9] وبنو مخزوم ؟ قالوا : نعم . قال : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، أو كما قال .

                  ولهذا جاء أبو سفيان إلى علي فقال : أرضيتم أن يكون هذا الأمر في بني تيم ؟ فقال : يا أبا سفيان إن أمر الإسلام ليس كأمر الجاهلية ، أو كما قال .

                  فإذا كان المسلمون كلهم ليس فيهم من قال : إن فاطمة - رضي الله عنها - مظلومة ، ولا أن لها حقا عند أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ولا أنهما ظلماها ، ولا تكلم أحد في هذا بكلمة واحدة - دل ذلك على أن

                  [10] القوم كانوا يعلمون أنها ليست مظلومة ، إذ لو علموا

                  [11] أنها مظلومة لكان تركهم لنصرتها : إما عجزا عن نصرتها ، وإما إهمالا وإضاعة لحقها ، وإما بغضا فيها ، إذ الفعل الذي يقدر عليه الإنسان إذا أراده إرادة جازمة فعله لا محالة ، فإذا لم يرده - مع قيام المقتضى لإرادته - فإما أن يكون جاهلا به ، أو له معارض يمنعه من إرادته ، فلو كانت مظلومة مع شرفها وشرف قبيلتها وأقاربها ، وأن أباها أفضل الخلق وأحبهم إلى أمته ، وهم يعلمون

                  [12] أنها مظلومة - لكانوا إما عاجزين عن نصرتهما

                  [13] ، وإما أن يكون لهم معارض عارض إرادة النصر من بغضها

                  [14] ، وكلا الأمرين باطل ; فإن [ ص: 361 ] القوم ما كانوا كلهم عاجزين أن يتكلم واحد منهم بكلمة حق ، وهم كانوا أقدر

                  [15] على تغيير ما هو أعظم من هذا .

                  وأبو بكر لم يكن ممتنعا من سماع كلام أحد منهم ، ولا هو معروفا بالظلم والجبروت . واتفاق هؤلاء كلهم ، مع توفر

                  [16] دواعيهم على بغض فاطمة ، مع قيام الأسباب الموجبة لمحبتها ، مما يعلم بالضرورة امتناعه . وكذلك علي - رضي الله عنه - لا سيما وجمهور قريش والأنصار والمسلمين لم يكن [17] لعلي إلى أحد منهم إساءة ، لا في الجاهلية ولا في الإسلام ، ولا قتل أحدا من أقاربهم ، فإن الذين قتلهم علي

                  [18] لم يكونوا من أكبر القبائل ، وما من أحد من الصحابة إلا وقد قتل

                  [19] أيضا .

                  وكان عمر - رضي الله عنه - أشد على الكفار وأكثر عداوة لهم من علي ، فكلامهم فيه وعداوتهم له

                  [20] معروفة ، ومع هذا تولى عليهم ، فما مات

                  [21] إلا وكلهم يثني عليه خيرا ، ويدعو له ، ويتوجع لمصاب المسلمين به .

                  وهذا وغيره مما يبين أن الأمر على نقيض ما تقوله الرافضة من أكاذيبهم ، وأن القوم كانوا يعلمون أن فاطمة لم تكن مظلومة أصلا ، فكيف ينتصر القوم لعثمان حتى سفكوا دماءهم ، ولا ينتصرون لمن هو [ ص: 362 ] أحب إليهم من عثمان ، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته ؟ ! وكيف يقاتلون مع معاوية

                  [22] حتى سفكت دماؤهم معه ، وقد اختلف عليه بنو عبد مناف ، ولا يقاتلون مع علي وبنو عبد مناف معه ؟ فالعباس بن عبد المطلب أكبر بني هاشم ، وأبو سفيان بن حرب أكبر بني أمية ، وكلاهما كانا يميلان إلى علي ، فلم لا قاتل الناس معه إذ ذاك ، والأمر في أوله ؟ والقتال

                  [23] إذ ذاك لو كان حقا كان مع علي أولى

                  [24] ، وولاية علي أسهل ; فإنه لو عرض نفر قليل فقالوا : الأمر لعلي ، وهو الخليفة والوصي ، ونحن لا نبايع إلا له ، ولا نعصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نظلم وصيه وأهل بيته ، ولا نقدم الظالمين أو المنافقين من آل تيم على بني هاشم ، الذين هم خيرنا في الجاهلية والإسلام - لكان القائل لهذا يستجيب له جمهور الناس ، بل يستجيبون له إلا القليل ، لا سيما وأبو بكر ليس عنده رغبة ولا رهبة .

                  وهب أن عمر وطائفة معه كانوا يشذون معه

                  [25] ، فليس هؤلاء أكثر ولا أعز من الذين كانوا مع معاوية - رضي الله عنه - ومع طلحة والزبير - رضي الله عنهما - ومع هذا فقد قاتلهم أعوان علي ، مع كونهم دون السابقين الأولين في العلم والدين ، وفيهم قليل من السابقين [ الأولين ]

                  [26] ، فهلا [ ص: 363 ] قاتلهم من هو أفضل من هؤلاء ؟ إذ كان إذ ذاك [ علي ] على الحق

                  [27] ، وعدوه على الباطل ، مع أن وليه إذ ذاك أكثر وأعز وأعظم علما وإيمانا ، وعدوه إذ ذاك - إن كان عدوا - أذل وأعجز وأضعف علما وإيمانا وأقل عدوانا ، فإنه لو كان الحق كما تقوله الرافضة لكان أبو بكر وعمر والسابقون الأولون من شرار أهل الأرض وأعظمهم جهلا وظلما ، حيث عمدوا عقب موت نبيهم - صلى الله عليه وسلم - فبدلوا وغيروا وظلموا الوصي ، وفعلوا بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ما لم تفعله اليهود والنصارى عقب موت موسى والمسيح

                  [28] - عليهما الصلاة والسلام - ; فإن اليهود والنصارى لم يفعلوا عقب موت أنبيائهم ما تقوله الرافضة إن هؤلاء فعلوه عقب موت النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى قولهم تكون هذه الأمة شر أمة أخرجت للناس ، ويكون سابقوها شرارها .

                  وكل هذا مما يعلم بالاضطرار فساده من دين الإسلام ، وهو مما يبين أن الذي ابتدع مذهب الرافضة كان زنديقا ملحدا عدوا لدين الإسلام

                  [29] وأهله ، ولم يكن من أهل البدع المتأولين كالخوارج والقدرية ، وإن كان قول الرافضة راج بعد ذلك على قوم فيهم إيمان لفرط جهلهم .

                  ومما يبين ذلك أن يقال : أي داع كان للقوم في أن ينصروا عائشة بنت أبي بكر ويقاتلوا معها عليا كما ذكروا

                  [30] ، ولا ينصرون فاطمة بنت رسول [ ص: 364 ] الله - صلى الله عليه وسلم - ويقاتلون معها ومع زوجها الوصي أبا بكر وعمر ؟ فإن كان [ القوم ]

                  [31] الذين فعلوا هذا يحبون الرياسة ويكرهون إمارة علي عليهم ، كان

                  [32] حبهم للرياسة يدعوهم إلى قتال أبي بكر بطريق الأولى ; فإن

                  [33] رياسة بيت

                  [34] علي أحب إليهم من رياسة بيت [35] أبي بكر .

                  ولهذا قال صفوان بن أمية يوم حنين لما ولوا مدبرين ، وقال بعض الطلقاء : لا ينتهي فلهم دون البحر ، وقال الآخر : بطل السحر ، فقال صفوان : والله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من ثقيف

                  [36] . وصفوان

                  [37] رأس الطلقاء - كان أن يربه

                  [38] رجل من بني عبد مناف أحب إليه من أن يربه رجل من بني تيم ، فحب الرياسة إذا كان هو الداعي كان يدعوهم إلى تقديم بني هاشم على بني تيم باتفاق العقلاء ، ولو لم يقدموا عليا لقدموا العباس ; فإن العباس كان أقرب إلى موافقتهم

                  [39] على المطالب الدنيوية من أبي بكر ، فإن كانوا قد أقدموا

                  [40] على ظلم [ ص: 365 ] الوصي الهاشمي لئلا يحملهم على الحق الذي يكرهونه ، كان تقديم

                  [41] من يحصل مطالبهم مع الرياسة الهاشمية - وهو العباس - أولى وأحرى من أبي بكر ، الذي لا يعينهم على مطالبهم كإعانة العباس ، ويحملهم على الحق المر أكثر ما يحملهم عليه علي ، فلو كره من علي حق مر لكان ذلك من

                  [42] أبي بكر أكره ، ولو أريد من أبي بكر دنيا حلوة لكان طلبها عند العباس وعلي أقرب ، فعدولهم عن علي وعن العباس وغيرهما إلى أبي بكر دليل على أن القوم وضعوا الحق في نصابه ، [ وأقروه في إهابه ]

                  [43] ، وأتوا الأمر الأرشد من بابه

                  [44] ، وأنهم علموا أن الله ورسوله كانا يرضيان تقديم أبي بكر - رضي الله عنه - .

                  وهذا أمر كان معلوما لهم علما ظاهرا بينا لما رأوه وسمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - مدة صحبتهم له ، فعلموا من تفضيل النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر بطول المشاهدة والتجربة

                  [45] والسماع ما أوجب تقديمه وطاعته . ولهذا قال عمر - رضي الله عنه - : " ليس فيكم

                  [46] من تقطع إليه

                  [47] الأعناق مثل أبي بكر "

                  [48] أراد أن فضيلته على غيره ظاهرة مكشوفة لا تحتاج إلى بحث ونظر .

                  [ ص: 366 ] ولهذا قال له بمحضر من المهاجرين والأنصار : " أنت خيرنا وسيدنا وأحبنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "

                  [49] ، وهم يقرونه على ذلك ، ولا ينازعه منهم أحد ، حتى إن المنازعين في الخلافة من الأنصار لم ينازعوا في هذا ، ولا قال أحد : بل علي أو غيره أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو خير منه أو أفضل

                  [50] .

                  ومن المعلوم أنه يمتنع في العادة ، لا سيما عادة الصحابة المتضمنة كمال دينهم وقولهم بالحق

                  [51] ، ألا يتكلم أحد منهم بالحق المتضمن تفضيل علي ، بل كلهم موافقون

                  [52] على تفضيل أبي بكر من غير رغبة فيه [53] ولا رهبة

                  [54] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية