الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ولا ريب أنه لآل محمد - صلى الله عليه وسلم - حقا على الأمة لا يشركهم فيه غيرهم ، ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة ما لا يستحقه سائر بطون قريش ، كما أن قريشا يستحقون

                  [1] من المحبة والموالاة ما لا يستحقه غير قريش من القبائل ، كما أن جنس العرب يستحق من المحبة والموالاة ما لا يستحقه سائر أجناس بني آدم . وهذا على مذهب الجمهور الذين يرون فضل العرب على غيرهم ، وفضل قريش على سائر العرب ، وفضل بني هاشم على سائر قريش . وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره .

                  والنصوص دلت على هذا القول

                  [2] ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في [ الحديث ] الصحيح :

                  [3] " إن الله اصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم "

                  [4] . وكقوله في [ الحديث ] الصحيح :

                  [5] " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ; خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا "

                  [6] ، وأمثال ذلك .

                  [ ص: 600 ] وذهبت طائفة إلى عدم التفضيل بين هذه الأجناس . وهذا قول طائفة من أهل الكلام ، كالقاضي أبي بكر بن الطيب وغيره ، وهو الذي ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد . وهذا القول يقال له مذهب الشعوبية

                  [7] ، وهو قول ضعيف من أقوال أهل البدع ، كما بسط في موضعه ، وبينا أن تفضيل الجملة على الجملة لا يقتضي تفضيل كل فرد على كل فرد ، كما أن تفضيل القرن الأول على الثاني والثاني على الثالث لا يقتضي ذلك ، بل في القرن الثالث من هو خير

                  [8] من كثير من القرن الثاني .

                  وإنما تنازع العلماء : هل في غير الصحابة من هو خير من بعضهم ؟ على قولين . ولا ريب أنه قد ثبت اختصاص قريش بحكم شرعي ، وهو كون الإمامة فيهم دون غيرهم . وثبت اختصاص بني هاشم بتحريم الصدقة عليهم ، وكذلك استحقاقهم من الفيء عند أكثر العلماء ، وبنو المطلب معهم في ذلك ، فالصلاة عليهم من هذا الباب ، فهم مخصوصون بأحكام لهم وعليهم ، وهذه الأحكام تثبت للواحد منهم وإن لم يكن رجلا صالحا ، بل كان عاصيا .

                  وأما نفس ترتيب الثواب والعقاب على القرابة ، ومدح الله عز وجل للشخص المعين ، وكرامته عند الله تعالى - فهذا لا يؤثر فيه النسب ، وإنما [ ص: 601 ] يؤثر فيه الإيمان والعمل الصالح ، وهو التقوى . كما قال تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) .

                  و [ قد ثبت ] في الصحيح أن النبي

                  [9] - صلى الله عليه وسلم - سئل : أي الناس أكرم ؟ فقال : " أتقاهم " . فقالوا : ليس عن هذا نسألك . قال : " فيوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن إسحاق نبي الله ابن إبراهيم خليل الله " قالوا : ليس عن هذا نسألك . قال : " أفعن معادن العرب تسألوني ؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا
                  "

                  [10] .

                  و [ ثبت عنه ] في الصحيح

                  [11] أنه قال : " من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه " رواه مسلم

                  [12] .

                  ولهذا أثنى الله في القرآن على [ السابقين الأولين من ] المهاجرين

                  [13] [ ص: 602 ] والأنصار ، وأخبر أنه رضي عنهم ، كما أثنى على المؤمنين عموما . فكون الرجل مؤمنا وصف استحق به

                  [14] المدح والثواب [ عند الله ، وكذلك كونه ممن آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه وصف يستحق به المدح والثواب ]

                  [15] . ثم هم متفاوتون في الصحبة ، فأقومهم بما أمر الله به ورسوله في الصحبة ، أفضل ممن هو دونه ، كفضل السابقين الأولين على من دونهم ، وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا . ومنهم أهل

                  [16] بيعة الرضوان
                  ، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة ، وهؤلاء لا يدخل النار منهم أحد ، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [17] .

                  وأما نفس القرابة فلم يعلق بها ثوابا ولا عقابا ، ولا مدح [ أحدا ]

                  [18] بمجرد ذلك ، وهذا لا ينافي ما ذكرناه من أن بعض الأجناس والقبائل أفضل من بعض ، فإن هذا التفضيل معناه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " ، فالأرض إذا كان فيها معدن ذهب ومعدن فضة ، كان معدن الذهب خيرا ، لأنه مظنة وجود أفضل الأمرين فيه ، فإن قدر أنه تعطل ولم يخرج ذهبا ، كان ما يخرج الفضة أفضل منه .

                  فالعرب في الأجناس ، وقريش فيها ثم هاشم في قريش مظنة أن يكون فيهم من

                  [19] الخير أعظم مما يوجد في غيرهم . ولهذا كان في بني هاشم النبي [ ص: 603 ] - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يماثله أحد في قريش ، فضلا عن وجوده في سائر العرب [ وغير العرب ]

                  [20] ، وكان في قريش الخلفاء الراشدون وسائر العشرة وغيرهم ممن لا يوجد له نظير في العرب وغير العرب ، وكان في العرب من السابقين الأولين من لا يوجد له نظير في سائر الأجناس .

                  فلا بد أن يوجد في الصنف الأفضل ما لا يوجد مثله في المفضول ، وقد يوجد في المفضول ما يكون أفضل من كثير مما يوجد في الفاضل . كما أن الأنبياء الذين ليسوا من العرب أفضل من العرب الذين ليسوا بأنبياء ، والمؤمنون المتقون من غير قريش أفضل من القرشيين الذين ليسوا مثلهم في الإيمان والتقوى ، وكذلك المؤمنون المتقون من قريش وغيرهم أفضل ممن ليس مثلهم في الإيمان والتقوى من بني هاشم .

                  فهذا هو الأصل المعتبر في هذا الباب دون من ألغى فضيلة الأنساب

                  [21] مطلقا ، ودون من ظن أن الله تعالى يفضل الإنسان بنسبه على من هو مثله في الإيمان والتقوى ، فضلا عمن هو أعظم إيمانا وتقوى . فكلا القولين خطأ ، وهما متقابلان . بل الفضيلة بالنسب

                  [22] فضيلة جملة ، وفضيلة لأجل المظنة والسبب ، والفضيلة بالإيمان والتقوى فضيلة تعيين وتحقيق وغاية ; فالأول يفضل به لأنه سبب وعلامة ، ولأن الجملة أفضل من جملة تساويها في العدد . والثاني : يفضل به لأنه الحقيقة والغاية

                  [23] ، ولأن كل من كان أتقى [ ص: 604 ] لله كان أكرم عند الله ، والثواب من الله يقع على هذا ، لأن الحقيقة قد وجدت ، فلم يعلق الحكم بالمظنة ، ولأن الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه ، فلا يستدل بالأسباب والعلامات .

                  ولهذا كان رضا الله عن السابقين الأولين أفضل من الصلاة على آل محمد ، لأن ذلك إخبار برضا الله عنهم ، فالرضا قد حصل ، وهذا طلب وسؤال لما لم يحصل

                  [24] . ومحمد - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر الله [ عنه ]

                  [25] أنه يصلي عليه هو وملائكته بقوله : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ) [ سورة الأحزاب : 56 ] فلم تكن فضيلته بمجرد كون الأمة يصلون عليه ، بل بأن الله تعالى وملائكته يصلون عليه بخصوصه ، وإن كان الله وملائكته يصلون على المؤمنين عموما ، كما قال تعالى : ( هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور ) [ سورة الأحزاب : 43 ] ، ويصلون على معلمي

                  [26] الناس الخير ، كما في الحديث : " إن الله وملائكته يصلون على معلمي

                  [27] الناس الخير
                  "

                  [28] .

                  [ ص: 605 ] فمحمد

                  [29] - صلى الله عليه وسلم - لما كان أكمل الناس فيما يستحق به الصلاة من الإيمان وتعليم الخير وغير ذلك ، كان له من الصلاة عليه خبرا

                  [30] وأمرا ، خاصية لا يوجد [ مثلها ]

                  [31] لغيره - صلى الله عليه وسلم - .

                  فبنو هاشم لهم حق وعليهم حق ، والله تعالى إذا أمر الإنسان بما لم يأمر به غيره ، لم يكن أفضل من غيره بمجرد ذلك ، بل إن امتثل ما أمر الله به كان أفضل من غيره بالطاعة ، كولاة الأمور وغيرهم ممن أمر بما لم يؤمر به غيره : من أطاع منهم كان أفضل ، لأن طاعته أكمل ، ومن لم يطع منهم كان من هو أفضل منه في التقوى أفضل منه . ولهذا فضل الخلفاء الراشدون على سائر الناس ، وفضل من فضل من أمهات المؤمنين على سائر النساء ; لأن الله أمر الخلفاء بما لم يأمر به غيرهم ، فقاموا من الأعمال الصالحة بما لم يقم غيرهم بنظيره ، فصاروا أفضل . وكذلك أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الله لهن : ( من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما ) [ سورة الأحزاب : 13،30 ] وهن - ولله الحمد

                  [32] - قنتن لله ورسوله وعملن صالحا ، فاستحققن الأجر مرتين ، فصرن أفضل لطاعة الأمر ، لا لمجرد الأمر . ولو قدر - والعياذ بالله - أن واحدة تأتي بفاحشة مبينة

                  [33] لضوعف لها العذاب ضعفين .

                  [ ص: 606 ] وقد روي عن علي بن الحسين أنه جعل هذا الحكم عاما في آل البيت ، وأن عقوبة الواحد منهم تضاعف ، وتضاعف حسناته ، كما تضاعف العقوبة والثواب على من كان في المسجد الحرام ، وعلى من فعل ذلك في شهر رمضان

                  [34] ، ونحو ذلك .

                  وهذا كله مما يبين أن كرامة الله تعالى [ لعباده ]

                  [35] إنما هي بالتقوى فقط . كما في الحديث الذي في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأسود

                  [36] على أبيض ، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى . الناس من آدم وآدم من تراب
                  "

                  [37] .

                  وقال : " إن الله تعالى أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء ، الناس رجلان : : مؤمن تقي ، وفاجر شقي "

                  [38] .

                  فالصلاة على آل محمد حق لهم عند المسلمين ، وذلك سبب لرحمة الله تعالى لهم بهذا النسب

                  [39] ، لأن ذلك يوجب أن يكون كل واحد من بني [ ص: 607 ] هاشم لأجل الأمر بالصلاة عليه تبعا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل ممن لم يصل عليه . ألا ترى أن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ) [ سورة التوبة : 103 ] .

                  وفي الصحيحين عن ابن أبي أوفى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتاه بصدقتهم صلى عليهم ، وإن أبي أتاه بصدقته فقال : " اللهم صل على آل أبي أوفى "

                  [40] .

                  فهذا فيه إثبات فضيلة لمن صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن كان يأتيه بالصدقة ، ولا يلزم من هذا أن يكون كل من لم يأته بصدقة

                  [41] لفقره دون من أتاه بصدقة

                  [42] وصلى عليه ; بل قد يكون من فقراء المهاجرين الذين ليس لهم صدقة يأتونه بها من هو أفضل من كثير ممن أتاه بالصدقة وصلى عليه ، وقد يكون بعض من يأخذ الصدقة أفضل من بعض من يعطيها ، وقد يكون فيمن يعطيها أفضل من بعض من يأخذها ، وإن كانت اليد العليا خيرا من اليد السفلى .

                  فالفضيلة بنوع لا تستلزم أن يكون صاحبها أفضل مطلقا . ولهذا كان في الأغنياء من هو أفضل من جمهور الفقراء ، وفي الفقراء من هو أفضل من [ ص: 608 ] جمهور الأغنياء ; فإبراهيم وداود وسليمان ويوسف وأمثالهم أفضل من أكثر الفقراء ، ويحيى وعيسى ونحوهما أفضل من أكثر الأغنياء .

                  فالاعتبار العام هو التقوى ، كما قال تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) . فكل من كان أتقى كان أفضل مطلقا ، وإذا تساوى اثنان في التقوى استويا في الفضل ، سواء كانا - أو أحدهما -

                  [43] غنيين أو فقيرين ، أو أحدهما غنيا والآخر فقيرا ، وسواء كانا - أو أحدهما -

                  [44] عربيين أو أعجميين ، أو قرشيين أو هاشميين ، أو كان أحدهما من صنف والآخر من صنف آخر . وإن قدر أن أحدهما له من سبب الفضيلة ومظنتها [ ما ليس للآخر ]

                  [45] ، فإذا كان ذاك [ قد ]

                  [46] أتى بحقيقة الفضيلة كان أفضل ممن لم يأت بحقيقتها ، وإن كان أقدر على الإتيان بها ، فالعالم خير من الجاهل ، وإن كان الجاهل أقدر على تحصيل العلم ، والبر أفضل من الفاجر ، وإن كان الفاجر أقدر على البر ، والمؤمن الضعيف خير من الكافر القوي ، وإن كان ذاك يقدر على الإيمان أكثر من المؤمن القوي . وبهذا تزول شبه كثيرة تعرض في مثل هذه الأمور

                  [47] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية