الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما الأمور التي يستقل بها العقل فمثل الأمور الطبيعية ، مثل كون هذا المرض ينفع فيه الدواء الفلاني ، فإن مثل هذا يعلم [1] بالتجربة والقياس وتقليد الأطباء الذين علموا ذلك بقياس أو تجربة . وكذلك مسائل الحساب والهندسة ونحو ذلك ، هذا مما [2] يعلم بالعقل . وكذلك مسألة الجوهر الفرد ، وتماثل الأجسام أو اختلافها ، وجواز بقاء الأعراض وامتناع بقائها ; فهذه ونحوها تعلم بالعقل .

                  وإذا كان كذلك فكون الرجل مؤمنا وكافرا وعدلا وفاسقا هو من المسائل الشرعية لا من المسائل العقلية ، فكيف يكون من خالف ما جاء به الرسول ليس كافرا ، ومن خالف ما ادعى غيره أنه معلوم بعقله كافرا ؟ وهل يكفر أحد بالخطأ في مسائل الحساب والطب ودقيق الكلام ؟ .

                  فإن قيل : هؤلاء لا يكفرون كل من خالف مسألة عقلية ، لكن يكفرون من خالف المسائل العقلية التي يعلم بها صدق الرسول ; فإن العلم بصدق الرسول مبني عليها [3] : [ على مسائل معينة ] [4] ، فإذا أخطأ فيها لم يكن عالما بصدق الرسول فيكون كافرا .

                  [ ص: 94 ] قيل : تصديق الرسول ليس مبنيا على مسائل معينة من مسائل النزاع ، بل ما جعله أهل الكلام المحدث أصلا للعلم بصدق الرسول ، كقول من قال من المعتزلة والجهمية : إنه لا يعلم صدق الرسول إلا بأن يعلم أن العالم حادث ، ولا يعلم ذلك إلا بأن يعلم [5] أن الأجسام محدثة ، ولا يعلم ذلك إلا بالعلم [6] بأنها لا تنفك من الحوادث : إما الأعراض مطلقا ، وإما الأكوان [7] ، وإما الحركات ، ولا يعلم حدوثها [8] حتى يعلم امتناع حوادث لا أول لها ، ولا يعلم أنه صادق حتى يعلم أن الرب غني ، ولا يعلم غناه حتى يعلم أنه ليس بجسم .

                  ونحو ذلك من الأمور التي تزعم طائفة من أهل الكلام أنها أصول لتصديق الرسول لا يعلم صدقه بدونها ، هي مما يعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه لم يكن يجعل إيمان الناس موقوفا عليها ، بل ولا دعا الناس إليها ، ولا ذكرت في كتاب ولا سنة ، ولا ذكرها أحد من الصحابة ، لكن الأصول التي بها يعلم [9] صدق الرسول مذكورة في القرآن ، وهي غير هذه ، كما قد بين [10] في غير هذا الموضع .

                  وهؤلاء الذين ابتدعوا أصولا زعموا أنه لا يمكن تصديق الرسول إلا بها ، وأن معرفتها شرط في الإيمان ، أو واجبة على الأعيان هم من أهل [ ص: 95 ] البدع عند السلف والأئمة ، وجمهور العلماء يعلمون أن أصولهم بدعة في الشريعة . لكن كثيرا من الناس يظن أنها صحيحة في العقل ، وأما الحذاق من الأئمة ومن اتبعهم فيعلمون أنها باطلة في العقل ، مبتدعة في الشرع ، وأنها تناقض ما جاء به الرسول .

                  وحينئذ فإن كان الخطأ في المسائل العقلية التي يقال إنها أصول الدين ، كفرا [11] ، فهؤلاء السالكون هذه الطرق الباطلة في العقل المبتدعة في الشرع هم الكفار لا من خالفهم ، وإن لم يكن الخطأ فيها كفرا ، فلا يكفر من خالفهم فيها فثبت أنه ليس كافرا في حكم الله ورسوله على التقديرين .

                  ولكن من شأن أهل البدع أنهم يبتدعون أقوالا يجعلونها واجبة في الدين ، بل يجعلونها من الإيمان الذي لا بد منه ويكفرون من خالفهم فيها ، ويستحلون دمه كفعل الخوارج والجهمية والرافضة والمعتزلة وغيرهم . وأهل السنة لا يبتدعون قولا ولا يكفرون من اجتهد فأخطأ ، وإن كان مخالفا لهم مكفرا لهم مستحلا لدمائهم ، كما لم تكفر الصحابة الخوارج ، مع تكفيرهم لعثمان وعلي ومن والاهما ، واستحلالهم لدماء المسلمين المخالفين لهم .

                  وكلام هؤلاء المتكلمين في هذه المسائل بالتصويب والتخطئة ، والتأثيم ونفيه [12] ، والتكفير ونفيه ، لكونهم بنوا على القولين المتقدمين : قول القدرية الذين يجعلون كل مستدل قادرا على معرفة الحق ، فيعذب كل من [ ص: 96 ] لم يعرفه ، وقول الجهمية الجبرية الذين يقولون : لا قدرة للعبد على شيء أصلا ، بل الله يعذب بمحض المشيئة ، فيعذب من لم يفعل ذنبا قط ، وينعم من كفر وفسق ، وقد وافقهم على ذلك كثير من المتأخرين ، وهؤلاء يقولون : يجوز أن يعذب الأطفال والمجانين وإن لم يفعلوا ذنبا قط ، ثم منهم من يجزم بعذاب أطفال الكفار في الآخرة ، ومنهم من يجوزه ويقول : لا أدري ما يقع ، وهؤلاء يجوزون أن يغفر لأفسق أهل القبلة بلا سبب أصلا ، ويعذب الرجل الصالح على السيئة الصغيرة ، وإن كانت له حسنات أمثال الجبال بلا سبب أصلا ، بل بمحض المشيئة .

                  وأصل الطائفتين أن القادر المختار يرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح . لكن هؤلاء الجهمية يقولون : إنه في كل حادث يرجح بلا مرجح ، وأولئك القدرية والمعتزلة والكرامية ، وطوائف غيرهم من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث وغيرهم يقولون : أصل الإحداث والإبداع كان ترجيحا بلا مرجح ، وأما بعد ذلك فقد خلق أسبابا وحكما علق الحوادث بها .

                  واختلفت القدرية والجهمية الجبرية في الظلم . فقالت القدرية : الظلم في حقه هو ما نعرفه من ظلم الناس بعضهم بعضا . فإذا قيل : إنه خالق أفعال العباد وإنه مريد لكل ما وقع ، وقيل مع ذلك : إنه يعذب العاصي ، كان هذا ظلما كظلمنا ، وسموا أنفسهم العدلية . وقالت الجهمية : الظلم في حقه هو ما يمتنع وجوده ، فأما كل ما يمكن وجوده فليس بظلم ; فإن الظلم إما مخالفة أمر من تجب طاعته ، وإما التصرف في ملك الغير بغير [ ص: 97 ] إذنه ؛ فالإنسان يوصف بالظلم لأنه مخالف لأمر ربه ، ولأنه قد [13] يتصرف في ملك غيره بغير إذنه . والرب تعالى ليس فوقه آمر ، ولا لغيره ملك ، بل إنما يتصرف في ملكه ، فكل ما يمكن فليس بظلم ؛ بل إذا نعم فرعون وأبا جهل وأمثالهما ممن كفر به وعصاه ، وعذب موسى ومحمدا ممن آمن به وأطاعه فهو مثل العكس ، الجميع بالنسبة إليه سواء . ولكن لما أخبر أنه ينعم المطيعين وأنه يعذب العصاة صار ذلك معلوم الوقوع لخبره الصادق ، لا لسبب اقتضى ذلك . والأعمال علامات على الثواب والعقاب ، ليست أسبابا .

                  فهذا قول جهم وأصحابه ، ومن وافقه كالأشعري ومن وافقه من أتباع الفقهاء الأربعة والصوفية وغيرهم . ولهذا جوز هؤلاء أن يعذب العاجز عن معرفة الحق ولو اجتهد ، فليس عندهم في نفس الأمر أسباب للحوادث ولا حكم ، ولا في الأفعال صفات لأجلها كانت مأمورا بها ومنهيا عنها ، بل عندهم يمتنع أن يكون في خلقه وأمره ( لام كي ) .

                  وأما القدرية فيثبتون له شريعة فيما يجب عليه ويحرم عليه بالقياس على عباده . وقد تكلمنا على قول الفريقين في مواضع ، وذكرنا فصلا في ذلك في هذا الكتاب فيما تقدم ، لما تكلمنا على ما نسبه هذا الرافضي إلى جميع [14] أهل السنة من قول هؤلاء الجهمية الجبرية ، وبينا أن هذه المسألة لا تتعلق بمسألة الإمامة والتفضيل ، بل من الشيعة من يقول بالجبر والقدر ، وفي أهل السنة من يقول بهذا وبهذا .

                  [ ص: 98 ] والمقصود هنا أن نبين أن الكلام في تصويب المتنازعين : مصيبين أو مخطئين ، مثابين أو معاقبين ، مؤمنين أو كفارا - هو فرع عن هذا الأصل العام الشامل لهذه المسائل وغيرها .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية