الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  والأمر بالسنة والنهي عن البدعة هو [1] أمر بمعروف ونهي عن منكر ، وهو من أفضل الأعمال الصالحة ، فيجب أن يبتغي به وجه الله ، وأن يكون مطابقا للأمر .

                  وفي الحديث : " من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فينبغي أن يكون عليما [2] بما يأمر به ; عليما [3] بما ينهى عنه ، رفيقا فيما يأمر به ، [ رفيقا فيما [ ص: 254 ] ينهى عنه ] [4] ، حليما فيما يأمر به ، حليما فيما ينهى عنه " [5] . فالعلم قبل الأمر ، والرفق مع الأمر ، والحلم بعد [6] الأمر ; فإن لم يكن عالما لم يكن له أن يقفو ما [7] ليس له به علم ، وإن كان عالما ولم يكن رفيقا ، كان كالطبيب الذي لا رفق فيه ، فيغلظ على المريض فلا يقبل منه ، وكالمؤدب الغليظ الذي لا يقبل منه الولد .

                  وقد قال تعالى لموسى وهارون : فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى [ سورة طه : 44 ] .

                  ثم إذا أمر ونهى [8] فلا بد أن يؤذى في العادة ، فعليه أن يصبر ويحلم . كما قال تعالى : وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور [ سورة : لقمان 17 ] .

                  وقد أمر الله نبيه بالصبر على أذى المشركين في غير موضع ، وهو إمام الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر . فإن الإنسان عليه أولا أن يكون أمره لله ، وقصده طاعة الله فيما أمره به [9] . وهو يحب صلاح المأمور ، أو إقامة الحجة عليه فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته ، وتنقيص غيره كان ذلك حمية [10] لا يقبله الله ، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطا . ثم إذا رد عليه ذلك وأوذي [11] أو [ ص: 255 ] نسب إلى أنه مخطئ وغرضه فاسد ، طلبت نفسه الانتصار لنفسه ، وأتاه الشيطان ، فكان مبدأ عمله لله ، ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه ، وربما اعتدى على ذلك المؤذي .

                  وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة ، إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه ، وأنه على السنة ; فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم ، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا ، وأن يكون الدين كله لله ، بل يغضبون على من خالفهم ، وإن كان مجتهدا معذورا لا يغضب الله عليه ، ويرضون عمن يوافقهم [12] ، وإن كان جاهلا سيئ القصد ، ليس له علم ولا حسن قصد ، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله . ويذموا من لم يذمه الله ورسوله . وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله .

                  وهذا حال الكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم ، ويقولون : هذا صديقنا وهذا عدونا ، وبلغة المغل : هذا بال ، هذا باغ ، لا ينظرون إلى موالاة الله ورسوله ، ومعاداة الله ورسوله .

                  ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس . قال الله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله [ سورة الأنفال : 39 ] ، فإذا لم يكن الدين كله لله وكانت فتنة .

                  وأصل الدين أن يكون الحب لله ، والبغض لله ، والموالاة لله ، والمعاداة لله ، والعبادة لله ، والاستعانة بالله ، والخوف من الله ، والرجاء [ ص: 256 ] لله ، والإعطاء لله ، والمنع لله . وهذا إنما يكون بمتابعة رسول الله ، الذي أمره أمر الله ، ونهيه نهي الله ، ومعاداته معاداة الله ، وطاعته طاعة الله ، ومعصيته معصية الله .

                  وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه ، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ، ولا يطلبه ، ولا يرضى لرضا الله ورسوله ، ولا يغضب لغضب الله ورسوله ، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه ، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه ، ويكون مع ذلك معه شبهة دين : أن الذي يرضى له ويغضب له أنه [13] السنة ، وهو الحق ، وهو الدين ، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام ، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله ، وأن تكون كلمة الله هي العليا ، بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء ، ليعظم هو ويثنى عليه ، أو فعل ذلك شجاعة وطبعا ، أو لغرض من الدنيا لم يكن لله ، ولم يكن مجاهدا في سبيل الله . فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة هو كنظيره ، معه حق وباطل ، وسنة وبدعة ، ومع خصمه حق وباطل ، وسنة وبدعة ؟ .

                  وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ، وكفر بعضهم بعضا ، وفسق بعضهم بعضا . ولهذا قال تعالى فيهم : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة [ سورة البينة : 4 - 5 ] .

                  وقال تعالى : كان الناس أمة واحدة [ سورة البقرة : 213 ] ، يعني : [ ص: 257 ] فاختلفوا ، كما في سورة يونس ، وكذلك في قراءة بعض الصحابة . وهذا على قراءة الجمهور من الصحابة والتابعين : أنهم كانوا على دين الإسلام . وفي تفسير ابن عطية عن ابن عباس : أنهم كانوا على الكفر [14] . وهذا ليس بشيء . وتفسير ابن عطية عن ابن عباس ليس بثابت عن ابن عباس ، بل قد ثبت عنه أنه قال : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام .

                  وقد قال في سورة يونس : وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا [ سورة يونس : 19 ] فذمهم على الاختلاف بعد أن كانوا على دين واحد ، فعلم أنه كان حقا .

                  والاختلاف في كتاب الله على وجهين : أحدهما : أن يكون كله مذموما ، كقوله : وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد [ سورة البقرة : 176 ] .

                  والثاني : أن يكون بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل ، كقوله : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد [ ص: 258 ] [ سورة البقرة : 253 ] . لكن إذا أطلق الاختلاف فالجميع مذموم كقوله : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم [ سورة هود : 118 - 119 ] . وقول النبي - صلى الله عليه وسلم : " إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم " . [15]

                  ولهذا فسروا الاختلاف في هذا الموضع بأنه كله مذموم . قال الفراء : في اختلافهم وجهان : أحدهما : كفر بعضهم بكتاب بعض ، والثاني : تبديل ما بدلوا . وهو كما قال ; فإن المختلفين كل منهم يكون معه حق وباطل ، فيكفر بالحق الذي مع الآخر ، ويصدق بالباطل الذي معه ، وهو تبديل ما بدل .

                  فالاختلاف لا بد أن يجمع النوعين . ولهذا ذكر كل من السلف أنواعا [16] من هذا : أحدها : الاختلاف في اليوم الذي يكون فيه الاجتماع ، فاليوم الذي أمروا به يوم [17] الجمعة ، فعدلت عنه الطائفتان ; فهذه أخذت السبت ، وهذه أخذت الأحد .

                  وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من [ ص: 259 ] بعدهم ، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له ، الناس لنا فيه تبع ، اليوم لنا ، وغدا لليهود ، وبعد غد للنصارى " [18] .

                  وهذا الحديث يطابق قوله تعالى : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه [ سورة البقرة : 203 ] .

                  وفي صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل يصلي يقول : " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلفوا فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " [19]

                  والحديث الأول يبين أن الله - تعالى - هدى المؤمنين لغير ما كان فيه المختلفون ; فلا كانوا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء ، وهو مما يبين أن الاختلاف كله مذموم .

                  والنوع الثاني : القبلة . فمنهم من يصلي إلى المشرق ، ومنهم من يصلي إلى المغرب . وكلاهما مذموم لم يشرعه الله .

                  والثالث : إبراهيم . قالت اليهود كان يهوديا ، وقالت النصارى كان [ ص: 260 ] نصرانيا . وكلاهما كان من الاختلاف المذموم : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين [ سورة آل عمران : 67 ] .

                  والرابع : عيسى . جعلته اليهود لغية [20] ، وجعلته النصارى إلها .

                  والخامس : الكتب المنزلة . آمن هؤلاء ببعض ، وهؤلاء ببعض .

                  والسادس : الدين . أخذ هؤلاء بدين ، وهؤلاء بدين . ومن هذا الباب قوله تعالى : وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء [ سورة البقرة : 113 ] . وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : اختصمت يهود المدينة ونصارى نجران عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت اليهود : ليست النصارى على شيء ، ولا يدخل الجنة إلا من كان يهوديا ، وكفروا بالإنجيل وعيسى . وقالت النصارى : ليست اليهود على شيء ، وكفروا بالتوراة وموسى ، فأنزل الله هذه الآية والتي قبلها [21] .

                  واختلاف أهل البدع هو من هذا النمط ; فالخارجي يقول : ليس الشيعي على شيء . والشيعي يقول : ليس الخارجي على شيء . والقدري النافي يقول : ليس المثبت على شيء . والقدري الجبري المثبت يقول : ليس النافي على شيء . والوعيدية تقول : ليست المرجئة على شيء . والمرجئة تقول : ليست الوعيدية على شيء .

                  بل ويوجد شيء من هذا بين أهل المذاهب الأصولية والفروعية [ ص: 261 ] المنتسبين إلى السنة . فالكلابي يقول : ليس الكرامي على شيء . والكرامي يقول : ليس الكلابي على شيء . والأشعري يقول : ليس السالمي على شيء . والسالمي يقول : ليس الأشعري على شيء .

                  ويصنف [22] السالمي كأبي علي الأهوازي كتابا في مثالب الأشعري [23] ويصنف [24] الأشعري كابن عساكر كتابا يناقض ذلك من كل وجه ، وذكر فيه مثالب السالمية [25] .

                  وكذلك أهل المذاهب الأربعة وغيرها ، لا سيما وكثير منهم قد تلبس ببعض المقالات الأصولية ، وخلط هذا بهذا فالحنبلي والشافعي والمالكي يخلط بمذهب مالك والشافعي وأحمد شيئا من أصول الأشعرية والسالمية وغير ذلك . ويضيفه إلى مذهب مالك والشافعي وأحمد . وكذلك الحنفي يخلط بمذاهب أبي حنيفة شيئا من أصول المعتزلة والكرامية والكلابية ، ويضيفه إلى مذهب أبي حنيفة .

                  وهذا من جنس الرفض والتشيع ، لكنه تشيع في تفضيل بعض الطوائف والعلماء ، لا تشيع في تفضيل بعض الصحابة .

                  والواجب على كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله [ ص: 262 ] وأن محمدا رسول الله أن يكون أصل قصده توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له وطاعة رسوله ، يدور على ذلك ، ويتبعه أين وجده ، ويعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة ، فلا ينتصر لشخص انتصارا مطلقا عاما ، إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا لطائفة انتصارا مطلقا عاما ، إلا للصحابة - رضي الله عنهم أجمعين . فإن الهدى يدور مع الرسول حيث دار ، ويدور مع أصحابه دون أصحاب غيره حيث داروا ; فإذا أجمعوا لم يجمعوا [26] على خطأ قط ، بخلاف أصحاب عالم من العلماء ، فإنهم قد يجمعون [27] على خطأ ، بل كل قول قالوه ولم يقله غيرهم من الأمة [28] لا يكون إلا خطأ ; فإن الدين الذي بعث الله به رسوله [29] ليس مسلما إلى عالم واحد وأصحابه ، ولو كان كذلك لكان ذلك الشخص نظيرا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو شبيه بقول الرافضة في الإمام المعصوم .

                  ولا بد أن يكون الصحابة والتابعون يعرفون ذلك الحق الذي بعث الله [30] به الرسول ، قبل وجود المتبوعين الذين تنسب إليهم المذاهب في الأصول والفروع ، ويمتنع أن يكون هؤلاء جاءوا بحق يخالف ما جاء به الرسول ، فإن كل ما خالف الرسول فهو باطل ، ويمتنع أن يكون أحدهم علم من جهة الرسول ما يخالف الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، فإن أولئك لم يجتمعوا على ضلالة ، فلابد أن يكون قوله - إن [ ص: 263 ] كان حقا - مأخوذا عما جاء به الرسول ، موجودا فيمن قبله ، وكل قول قيل في دين الإسلام ، مخالف لما مضى عليه الصحابة والتابعون ، لم يقله أحد منهم بل قالوا خلافه ، فإنه قول باطل .

                  والمقصود هنا أن الله - تعالى - ذكر أن المختلفين جاءتهم البينة ، وجاءهم العلم ، وإنما اختلفوا بغيا . ولهذا ذمهم الله وعاقبهم ; فإنهم لم يكونوا مجتهدين مخطئين [31] ، بل كانوا قاصدين البغي ، عالمين بالحق ، [ معرضين عن القول وعن العمل به ] [32] .

                  ونظير هذا قوله : إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم [ سورة آل عمران : 19 ] قال الزجاج : اختلفوا للبغي لا لقصد البرهان .

                  وقال - تعالى - : ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون [ سورة يونس : 93 ] .

                  وقال - تعالى - : ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين هذا بصائر للناس وهدى ورحمة [ سورة الجاثية : 16 - 20 ] .

                  [ ص: 264 ] فهذه المواضع من القرآن تبين أن المختلفين ما اختلفوا حتى جاءهم العلم والبينات ، فاختلفوا للبغي والظلم ، لا لأجل اشتباه الحق بالباطل عليهم . وهذا حال أهل الاختلاف المذموم من أهل الأهواء كلهم ; لا يختلفون إلا من بعد أن يظهر لهم [33] الحق ; ويجيئهم ، العلم [34] فيبغي بعضهم على بعض . ثم المختلفون المذمومون كل منهم يبغي على الآخر ، فيكذب بما معه من الحق ، مع علمه أنه حق ، ويصدق بما مع نفسه من الباطل ، مع العلم [35] أنه باطل .

                  وهؤلاء كلهم مذمومون . ولهذا كان أهل الاختلاف المطلق [36] كلهم مذمومين في الكتاب والسنة ; فإنه ما منهم إلا من خالف حقا واتبع باطلا . ولهذا أمر الله الرسل أن تدعو إلى دين واحد ، وهو دين الإسلام ، ولا يتفرقوا فيه ، وهو دين الأولين والآخرين من الرسل وأتباعهم .

                  قال تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه [ سورة الشورى : 13 ] .

                  وقال في الآية الأخرى : ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون [ سورة المؤمنون : 51 - 53 ] [ ص: 265 ] أي كتبا ، اتبع كل قوم كتابا مبتدعا غير كتاب الله فصاروا متفرقين مختلفين ، لأن أهل التفرق والاختلاف ليسوا على الحنيفية المحضة ، التي هي الإسلام المحض ، الذي هو إخلاص الدين لله ، الذي ذكره الله في قوله : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة [ سورة البينة : 5 ] وقال في الآية الأخرى : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون [ سورة الروم : 30 - 32 ] ، فنهاه أن يكون من المشركين ، الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ، وأعاد حرف " من " ليبين أن الثاني بدل من الأول . والبدل هو المقصود بالكلام ، وما قبله توطئة له .

                  وقال تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم [ سورة هود : 110 ] إلى قوله : ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم [ سورة هود : 18 - 119 ] فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون .

                  وقد ذكر في غير موضع أن دين الأنبياء كلهم الإسلام . كما قال - تعالى - عن نوح : وأمرت أن أكون من المسلمين [ سورة النمل : 91 ] ، وقال عن إبراهيم : [ ص: 266 ] إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون [ سورة البقرة : 131 - 132 ] ، وقال يوسف : فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين [ سورة يوسف : 101 ] . وقال موسى ياقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين [ سورة يونس : 84 ] ، وقال عن السحرة : ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين [ سورة الأعراف : 126 ] .

                  وقال عن بلقيس : رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين [ سورة النمل : 44 ] .

                  وقال : يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار [ سورة المائدة : 44 ] . وقال : وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون [ سورة المائدة : 111 ] .

                  وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد " [37] . وتنوع الشرائع لا يمنع أن يكون الدين واحدا وهو [ ص: 267 ] الإسلام ، كالدين الذي بعث الله به محمدا - صلى الله عليه وسلم - فإنه هو دين الإسلام أولا وآخرا .

                  وكانت القبلة في أول الأمر بيت المقدس ، ثم صارت القبلة الكعبة ، وفي كلا الحالين الدين واحد ، وهو دين الإسلام .

                  فهكذا سائر ما شرع للأنبياء قبلنا . ولهذا حيث ذكر الله الحق في القرآن جعله واحدا ، وجعل الباطل متعددا .

                  كقوله : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله [ سورة الأنعام : 153 ] .

                  وقوله : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ سورة الفاتحة : 6 - 7 ] .

                  وقوله : اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم [ سورة النحل : 121 ] .

                  وقوله : ويهديك صراطا مستقيما [ سورة الفتح : 2 ] .

                  وقوله : الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات [ سورة البقرة : 257 ] .

                  وهذا يطابق ما في كتاب الله من أن الاختلاف المطلق كله مذموم ، بخلاف المقيد الذي قيل فيه : ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا [ سورة البقرة : 253 ] . فهذا قد بين أنه اختلاف بين أهل الحق والباطل ، كما قال : هذان خصمان اختصموا في ربهم [ سورة الحج : 19 ] .

                  [ ص: 268 ] وقد ثبت في الصحيحين [38] أنها نزلت في المقتتلين يوم بدر : في حمزة عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلي ابن عمه ، وعبيدة بن الحارث ابن عمه [39] ، والمشركين الذين بارزهم : عتبة ، وشيبة ، والوليد بن عتبة [40] .

                  وقد تدبرت كتب الاختلاف التي يذكر فيها مقالات الناس إما نقلا مجردا ، مثل كتاب المقالات لأبي الحسن الأشعري ، وكتاب الملل والنحل للشهرستاني ، ولأبي عيسى الوراق ، أو مع انتصار لبعض الأقوال ، كسائر ما صنفه أهل الكلام على اختلاف طبقاتهم فرأيت عامة الاختلاف الذي فيها من الاختلاف المذموم . وأما الحق الذي بعث الله به رسوله ، وأنزل به كتابه ، وكان عليه سلف الأمة فلا يوجد فيها في جميع مسائل الاختلاف ، بل يذكر أحدهم في المسألة عدة أقوال ، والقول الذي جاء به الكتاب والسنة لا يذكرونه ، وليس ذلك لأنهم يعرفونه ولا يذكرونه ، بل لا يعرفونه .

                  ولهذا كان السلف والأئمة يذمون هذا الكلام . ولهذا يوجد الحاذق [ ص: 269 ] منهم المنصف [41] الذي غرضه الحق في آخر عمره يصرح بالحيرة والشك ، إذ لم يجد في الاختلافات التي نظر فيها وناظر ما هو حق محض . وكثير منهم يترك الجميع ويرجع إلى دين العامة الذي عليه العجائز والأعراب .

                  كما قال أبو المعالي وقت السياق : " لقد خضت البحر الخضم ، وخليت أهل الإسلام وعلومهم ، ودخلت في الذي نهوني عنه . والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني ، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي " .

                  وكذلك أبو حامد في آخر عمره استقر أمره على الوقف والحيرة ، بعد أن نظر فيما كان عنده من طرق النظار : أهل الكلام والفلسفة ، وسلك ما تبين [42] له من طرق العبادة والرياضة والزهد ، وفي آخر عمره اشتغل بالحديث : بالبخاري ومسلم .

                  وكذلك الشهرستاني ، مع أنه كان [43] من أخبر هؤلاء المتكلمين بالمقالات والاختلاف ، وصنف فيها كتابه المعروف بنهاية الإقدام في علم الكلام ، وقال [44] : " قد [45] أشار علي [46] من إشارته غنم ، وطاعته حتم ، أن أذكر له من مشكلات [47] الأصول ما أشكل على ذوي العقول [48] ، ولعله [ ص: 270 ] استسمن [49] ذا ورم ، ونفخ في غير ضرم ، لعمري :

                  لقد طفت [50] المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم

                  فأخبر أنه لم يجد إلا حائرا شاكا ومرتابا ، أو من اعتقد ثم ندم لما تبين له خطؤه . فالأول في الجهل البسيط : كظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ، وهذا دخل في الجهل المركب ، ثم تبين له أنه جهل فندم ، ولهذا تجده في المسائل يذكر أقوال الفرق وحججهم [51] ، ولا يكاد يرجح شيئا للحيرة .

                  وكذلك الآمدي ، الغالب عليه الوقف والحيرة .

                  وأما الرازي فهو في الكتاب الواحد ، بل في الموضع الواحد منه ، ينصر قولا ، وفي موضع آخر منه أو من كتاب آخر ينصر نقيضه . ولهذا استقر أمره على الحيرة والشك . ولهذا لما ذكر أن أكمل العلوم العلم بالله [52] وبصفاته وأفعاله ، ذكر أن على كل منها إشكال [53] . وقد ذكرت [ ص: 271 ] كلامه ، وبينت ما أشكل عليه وعلى هؤلاء في مواضع .

                  فإن الله قد أرسل رسله بالحق ، وخلق عباده على الفطرة ، فمن كمل فطرته بما أرسل الله به رسله ، وجد الهدى واليقين الذي لا ريب فيه ، ولم يتناقض . لكن هؤلاء أفسدوا فطرتهم العقلية وشرعتهم السمعية ، بما حصل لهم من الشبهات والاختلاف ، الذي لم يهتدوا معه إلى الحق ، كما قد ذكر تفصيل ذلك في موضع غير هذا .

                  والمقصود هنا أنه لما ذكر ذلك قال : ومن الذي وصل إلى هذا الباب ومن الذي ذاق هذا [54] الشراب .

                  نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وقال [55] : " لقد تأملت الطرق الكلامية ، والمناهج الفلسفية ، فما رأيتها تشفي عليلا ، ولا تروي غليلا . ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ; اقرأ في الإثبات [56] : إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [ سورة فاطر : 10 ] [ ص: 272 ] ، الرحمن على العرش استوى [ سورة طه : 5 ] [57] واقرأ في النفي : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [ سورة الشورى : 11 ] [58] ، ولا يحيطون به علما [ سورة طه : 110 ] [59] ومن جرب مثل تجربتي ، عرف مثل معرفتي " .

                  وهو صادق فيما أخبر به أنه لم يستفد من بحوثه في الطرق الكلامية والفلسفية سوى أن جمع قيل وقالوا ، وأنه لم يجد فيها ما يشفي عليلا ، ولا يروي غليلا ، فإن من تدبر كتبه كلها [60] لم يجد فيها مسألة واحدة من مسائل أصول الدين موافقة للحق [ الذي يدل عليه ] [61] المنقول والمعقول ، بل يذكر في المسألة عدة أقوال ، والقول الحق لا يعرفه فلا يذكره . وهكذا غيره من أهل الكلام والفلسفة ، ليس هذا من خصائصه ، فإن الحق واحد ، ولا يخرج عما جاءت به الرسل ، وهو الموافق لصريح العقل : فطرة الله التي فطر الناس عليها [62] .

                  وهؤلاء لا يعرفون ذلك ، بل هم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ، وهم مختلفون في الكتاب : وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد [ سورة البقرة : 176 ] .

                  [ ص: 273 ] وقال الإمام أحمد في خطبة مصنفه الذي صنفه في محبسه [63] في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله قال [64] : " الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل ، بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله الموتى [65] ، ويبصرون بنور الله أهل الضلالة والعمى [66] ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من تائه ضال [67] قد [68] هدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس ، وما أقبح أثر [69] الناس عليهم .

                  ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، الذين عقدوا ألوية البدعة ، وأطلقوا عنان [70] الفتنة ، فهم مختلفون في الكتاب ، مخالفون للكتاب ، متفقون [71] على مفارقة الكتاب ، ( * يقولون على الله ، وفي الله ، وفي كتاب الله بغير علم * ) [72] ، يتكلمون بالمتشابه من الكلام ، ويخدعون جهال الناس بما يلبسون [73] عليهم " .

                  [ ص: 274 ] وهو كما وصفهم - رحمه الله - ; فإن المختلفين أهل المقالات المذكورة في كتب الكلام : إما نقلا مجردا للأقوال ، وإما نقلا وبحثا وذكرا للجدال [74] مختلفون في الكتاب ، كل منهم يوافق بعضا ويرد بعضا ، ويجعل ما يوافق رأيه هو المحكم الذي يجب اتباعه ، وما يخالفه [75] هو المتشابه الذي يجب تأويله أو تفويضه .

                  وهذا موجود في كل من صنف [76] في الكلام وذكر [77] النصوص التي [78] يحتج [79] بها ويحتج بها عليه ; تجده يتأول النصوص التي تخالف قوله تأويلات لو فعلها غيره لأقام القيامة عليه ، ويتأول الآيات بما يعلم بالاضطرار أن الرسول لم يرده ، وبما لا يدل عليه اللفظ أصلا [80] ، وبما هو خلاف [81] التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين ، وخلاف نصوص أخرى .

                  [ ص: 275 ] ولو ذكرت ما أعرفه من ذلك لذكرت خلقا ، ولا استثني أحدا من أهل البدع [82] : لا من المشهورين بالبدع الكبار من معتزلي ورافضي ونحو ذلك ، ولا من المنتسبين إلى السنة والجماعة من كرامي وأشعري وسالمي ونحو ذلك .

                  وكذلك من صنف على طريقهم من أهل المذاهب الأربعة وغيرها . هذا كله رأيته في كتبهم ، وهذا موجود في بحثهم في مسائل الصفات ، والقرآن ، ومسائل القدر ، ومسائل الأسماء والأحكام ، والإيمان [83] والإسلام ، ومسائل الوعد والوعيد ، وغير ذلك .

                  وقد بسطنا الكلام على ذلك [84] في مواضع من كتبنا غير هذا الكتاب [85] " درء تعارض العقل والنقل " وغيره . ومن أجمع الكتب التي رأيتها في مقالات الناس المختلفين [86] في أصول الدين كتاب أبي الحسن الأشعري ، وقد ذكر فيه من المقالات وتفاصيلها [87] ما لم يذكره غيره ، وذكر فيه مذهب أهل الحديث والسنة بحسب ما فهمه عنهم . وليس في جنسه أقرب إليهم منه ، ومع هذا نفس القول الذي جاء به الكتاب والسنة ، وقال به الصحابة [88] والتابعون لهم بإحسان : في القرآن ، والرؤية [89] ، [ ص: 276 ] والصفات ، والقدر ، وغير ذلك من مسائل أصول الدين ليس في كتابه ، وقد استقصى ما عرفه من كلام المتكلمين .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية