الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما الخلاف الذي بين الفلاسفة فلا يحصيه أحد لكثرته ولتفرقهم [1] ، فإن الفلسفة التي [2] عند المتأخرين كالفارابي وابن سينا ومن نسج على منوالهما هي فلسفة أرسطو وأتباعه ، وهو صاحب التعاليم : المنطق ، والطبيعي ، وما بعد الطبيعة [3] . والذي [4] يحكيه الغزالي [ ص: 283 ] والشهرستاني [5] والرازي وغيرهم من مقالات الفلاسفة هو من كلام ابن سينا .

                  والفلاسفة أصناف مصنفة غير هؤلاء . ولهذا يذكر القاضي أبو بكر في دقائق الكلام [6] وقبله أبو الحسن الأشعري في كتاب مقالات غير الإسلاميين [7] ، وهو كتاب كبير أكبر من مقالات الإسلاميين أقوالا كثيرة للفلاسفة لا يذكرها هؤلاء الذين يأخذون عن ابن سينا . وكذلك غير الأشعري مثل أبي عيسى الوراق [8] والنوبختي [9] وأبي علي [10] وأبي هاشم [11] وخلق كثير من أهل الكلام والفلسفة .

                  والمقصود أن كتب أهل الكلام يستفاد منها رد بعضهم على بعض . وهذا لا يحتاج إليه من لا يحتاج إلى رد المقالة الباطلة لكونها لم تخطر بقلبه ، ولا هناك من يخاطبه بها ، ولا يطالع كتابا هي فيه ، ولا ينتفع به من لم يفهم الرد ، بل قد يستضر به من عرف الشبهة ولم يعرف فسادها .

                  ولكن المقصود هنا أن هذا هو العلم الذي في كتبهم ; فإنهم يردون باطلا بباطل ، وكلا القولين باطل ، ولهذا كان مذموما ممنوعا منه عند السلف والأئمة ، وكثير منهم أو أكثرهم لا يعرف أن الذي يقوله باطل .

                  [ ص: 284 ] وبكل حال فهم يذكرون من عيوب باطل غيرهم وذمه ما قد ينتفع به .

                  مثال ذلك تنازعهم في مسائل الأسماء والأحكام ، والوعد والوعيد . فالخوارج والمعتزلة يقولون : صاحب الكبائر الذي لم يتب منها مخلد في النار ، ليس معه شيء من الإيمان . ثم الخوارج تقول : هو كافر ، والمعتزلة توافقهم على الحكم لا على الاسم . والمرجئة تقول : هو مؤمن تام [12] الإيمان ، لا نقص في إيمانه ، بل إيمانه كإيمان الأنبياء والأولياء . وهذا نزاع في الاسم . ثم تقول فقهاؤهم ما تقوله الجماعة في أهل الكبائر : فيهم من يدخل النار ، وفيهم من لا يدخل . كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة ، واتفق عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان .

                  فهؤلاء لا ينازعون أهل السنة والحديث في حكمه في الآخرة ، وإنما ينازعونهم في الاسم . وينازعون أيضا فيمن قال ولم يفعل . وكثير من متكلمة المرجئة تقول : لا نعلم أن أحدا [13] من أهل القبلة من أهل الكبائر يدخل النار ، ولا أن أحدا منهم لا يدخلها ، بل يجوز أن يدخلها جميع الفساق ، ويجوز أن لا يدخلها أحد منهم ، ويجوز دخول بعضهم . ويقولون : من أذنب وتاب لا يقطع بقبول توبته ، بل يجوز أن يدخل النار أيضا ، فهم يقفون في هذا كله ، ولهذا سموا الواقفة . وهذا قول القاضي أبي بكر وغيره من الأشعرية وغيرهم .

                  فيحتج أولئك بنصوص الوعيد وعمومها ، ويعارضهم هؤلاء بنصوص الوعد وعمومها . فقال أولئك : الفساق لا يدخلون في الوعد ، لأنهم [14] لا [ ص: 285 ] حسنات لهم [15] ، لأنهم لم يكونوا من المتقين . وقد قال الله - تعالى - : إنما يتقبل الله من المتقين [ سورة المائدة : 27 ] . وقال - تعالى - : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [ سورة البقرة : 264 ] . وقال : لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون [ سورة الحجرات : 2 ] . وقال : ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [ سورة محمد : 28 ] .

                  فهذه النصوص وغيرها تدل على أن الماضي من العمل قد يحبط بالسيئات ، وأن العمل لا يقبل إلا مع التقوى . والوعد إنما هو للمؤمن ، وهؤلاء ليسوا مؤمنين [16] ; بدليل قوله : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [ سورة الأنفال : 2 ] ، وقوله : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون [ سورة الحجرات : 15 ] ، وبقوله [17] : أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون [ سورة السجدة : 18 ] . والفاسق ليس بمؤمن فلا يتناوله الوعد .

                  وبما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح أنه قال : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن " [18] وقوله : " من غشنا فليس منا ، ومن حمل علينا السلاح فليس منا " [19] ونحو ذلك .

                  [ ص: 286 ] وتقول المرجئة : قوله - تعالى - : إنما يتقبل الله من المتقين [ سورة المائدة : 27 ] المراد به : من اتقى الشرك . ويقولون : الأعمال لا تحبط إلا بالكفر ، قال تعالى : لئن أشركت ليحبطن عملك [ سورة الزمر 65 ] وقال : ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله [ سورة المائدة : 5 ] .

                  ويقولون : قد قال تعالى : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها [ سورة فاطر 32 - 33 ] فقد أخبر أن الثلاثة يدخلون الجنة . وقد حكي عن بعض غلاة المرجئة أن أحدا من أهل التوحيد لا يدخل النار . ولكن هذا لا أعرف به قائلا معينا فأحكيه عنه . ومن الناس من يحكيه [20] عن مقاتل بن سليمان ، والظاهر أنه غلط عليه .

                  [ ص: 287 ] وهؤلاء قد يحتجون بهذه الآية ، ويحتجون بقوله : فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى [ سورة الليل : 14 - 16 ] وقد يحتج بعض الجهال بقوله : ذلك يخوف الله به عباده [ سورة الزمر : 16 ] قال : فالوعيد شيء يخوفكم به .

                  ويقولون : أما قوله : ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم [ سورة محمد : 9 ] فهذه في الكفار ; فإنه قال : والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم [ سورة محمد : 8 - 9 ] . وكذلك قوله : إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [ سورة محمد : 25 - 28 ] ، فقد أخبر - سبحانه - أن هؤلاء ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ، وأن الشيطان سول لهم وأملى لهم ، أي : وسع لهم في العمر ، وكان هذا بسبب وعدهم للكفار [21] بالموافقة ، فقال : ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية