المرجئة : وقوله [1] : " ليس منا " أي ليس مثلنا ، أو ليس من خيارنا . فقيل لهم : فلو لم قالت [2] يغش ولم يحمل السلاح ، أكان يكون مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ أو كان يكون من خيارهم بمجرد هذا الكلام ؟ .
وقالت المرجئة : نصوص الوعيد عامة ، ومنا من ينكر صيغ العموم . [ ص: 294 ] ومن أثبتها قال : لا يعلم [3] تناولها [4] لكل فرد من أفراد العام [5] ، فمن لم يعذب [6] لم يكن اللفظ قد شمله .
فقيل للواقفة منهم : عندكم يجوز أن لا يحصل الوعيد بأحد من أهل القبلة ، فيلزم تعطيل نصوص الوعيد ، ولا تبقى لا خاصة ولا عامة .
وليس مقصودنا هنا استيفاء الكلام في المسألة ، وإنما الغرض التمثيل بالمناظرات من الطرفين . وأهل السنة والحديث ، وأئمة الإسلام المتبعون للصحابة ، متوسطون بين هؤلاء وهؤلاء . لا يقولون بتخليد أحد من أهل القبلة في النار ، كما تقول الخوارج والمعتزلة . لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في [7] الأحاديث الصحيحة أنه يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان [8] وإخراجه من النار من يخرج بشفاعة نبينا - صلى الله عليه وسلم - فيمن يشفع له من أهل الكبائر من أمته [9] .
[ ص: 295 ] [ وهذه أحاديث كثيرة مستفيضة متواترة عند أهل العلم بالحديث ، ولا يقولون : إنا نقف في الأحكام المطلقة ، بل نعلم أن الله يدخل النار من يدخله من أهل الكبائر ] [10] ، وناس آخرون لا يدخلونها لأسباب . لكن تنازعوا : هل يكون الداخلون بسبب اقتضى ذلك ، كعظم [11] الذنوب وكثرتها ، والذين لم يدخلوها بسبب منع ذلك ، كالحسنات المعارضة ونحوها ؟ ؟ أم قد يفرق بين المتماثلين بمحض المشيئة ، فيعذب الشخص ويعفو عمن هو مثله من كل وجه بمحض المشيئة ؟ هذا لهم فيه قولان والنصوص وأقوال السلف توافق الأول . وأنه - سبحانه وتعالى - يفعل ما يفعله بحكمة وأسباب
وإنما قد نقف في ، لأن حقيقة باطنه وما مات عليه لا نحيط به ، لكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيء . الشخص المعين ; فلا نشهد له بجنة ولا نار إلا عن علم
ولهم في الشهادة بالجنة ثلاثة أقوال : . وهذا قول منهم من لا يشهد بالجنة لأحد إلا للأنبياء محمد ابن الحنفية . والأوزاعي
والثاني : أنه . وهذا قول كثير من أهل الحديث . يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه نص
والثالث : يشهد بالجنة لهؤلاء ولمن شهد له المؤمنون . كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " أنتم شهداء الله في الأرض [12] . وقال : " " يوشك أن [ ص: 296 ] تعلموا أهل الجنة من أهل النار " قالوا : بم يا رسول الله ؟ قال : " بالثناء الحسن والثناء السيئ [13] فأخبر أن ذلك مما يعلم به أهل الجنة وأهل النار . وكان أبو ثور يقول : " أشهد أن في الجنة " ويحتج بهذا . وبسط هذه المسألة له موضع آخر . أحمد بن حنبل
والإيمان عندهم يتفاضل ، فيكون إيمان أكمل من إيمان . كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا [14] فيقولون : قوله : إنما يتقبل الله من المتقين [ سورة المائدة : 27 ] أي ممن اتقاه في ذلك العمل ، ليس المراد به الخلو من الذنوب ، ولا مجرد الخلو من الشرك ، بل من اتقاه في عمل قبله منه وإن كانت له ذنوب أخرى ، بدليل قوله : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات [ سورة هود : 114 ] فلو كانت الحسنة لا تقبل من صاحب السيئة لم تمحها .
وقد ثبت بالكتاب والسنة المتواترة [15] الموازنة بين الحسنات والسيئات ، فلو كانت الكبيرة تحبط الحسنات لم تبق حسنة توزن معها .
[ ص: 297 ] وقد ثبت في الصحيحين أن بغيا سقت كلبا فغفر الله [16] لها بسقيه [17] .
قالوا : وابنا آدم لم يكن أحدهما مشركا ، ولكن لم يقصد التقرب إلى الله بالطيب من ماله ، كما جاء في الأثر . فلهذا لم يتقبل الله قربانه .
وقد قال - تعالى - في حق المنافقين : وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون [ سورة التوبة : 54 ] فجعل هذه موانع قبول النفقة دون مطلق الذنوب .
قال أهل الحديث والسنة [18] : ومن نفى عنه الإيمان فلأنه ترك بعض واجباته . والعبادة ينفى اسمها بنفي بعض واجباتها ، لأنها لم تبق كاملة ، ولا يلزم من ذلك أن لا يبقى منه شيء ، بل قد دلت النصوص على أنه يبقى بعضه ، ويخرج من النار من بقي معه بعضه .
ومعلوم أن العبادات فيها واجب كالحج ، فيه واجب إذا تركه كان حجه ناقصا ، يأثم بما ترك ، ولا إعادة عليه ، بل يجبره بدم ، كرمي الجمار ، وإن لم يجبره بقي في ذمته . فكذلك ، فإن تاب عاد ، وإلا بقي ناقصا نقصا يأثم به . وقد يحرم في الحج أفعال إذا فعلها [ ص: 298 ] نقص حجه ولم يبطل ، كالتطيب ولبس الثياب ، بل يجبر ذلك ولا يفسده من المحرمات إلا الجماع . الإيمان ينقص بالذنوب
فكذلك ، الذي لا يبقى مع صاحبه شيء من الإيمان . قالوا : وهذا هو الذي يحبط جميع الأعمال . وأما ما دون ذلك فقد يحبط بعض العمل ، كما في آية المن والأذى ; فإن ذلك يبطل تلك الصدقة ، لا يبطل سائر أعماله لا يزيل الإيمان كله إلا الكفر المحض [19] .
والذين كرهوا ما أنزل الله كفار ، وأعمال القلوب ، مثل حب الله ورسوله ، وخشية الله ، ونحو ذلك ، كلها من الإيمان . وكراهة ما أنزل الله كفر . . وأوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله
وقد قال - تعالى - : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله [ سورة المجادلة : 22 ] .
وقوله في السابق والمقتصد والظالم لنفسه : جنات عدن يدخلونها [ سورة الرعد : 23 ] لا يمنع أن يكون الظالم لنفسه قد عذب قبل هذا ثم يدخلها .
وقوله : لا يصلاها إلا الأشقى [ سورة الليل : 15 ] لا يخلو إما أن يكون المراد بالصلي نوعا من التعذيب ; كما قيل : إن الذي تصليه النار هو الذي تحيط به ، وأهل القبلة لا تحرق النار منهم مواضع السجود ، أو تكون نارا مخصوصة .
وقوله : يخوف الله به عباده [ سورة الزمر : 16 ] كقول النبي - صلى الله [ ص: 299 ] عليه وسلم - في الشمس والقمر : " " إنهما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده [20] .
وقد قال تعالى : وما نرسل بالآيات إلا تخويفا [ سورة الإسراء : 59 ] والآيات التي خوف الله بها عباده [21] تكون سببا في شر ينزل بالناس ، فمن اتقى الله بفعل ما أمر به وقي ذلك الشر . ولو كان مما لا حقيقة له أصلا لم يخف أحد إذا علم أنه لا شر في الباطن ، وإنما يبقى التخويف للجاهل الفدم [22] كما يفزع الصبيان بالخيال .
وقد قال - تعالى - : ذلك يخوف الله به عباده ياعباد فاتقون [ سورة الزمر : 16 ] فخوف العباد مطلقا ، وأمرهم بتقواه ، لئلا ينزل المخوف ، وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين ، والإنذار هو الإعلام بما يخاف منه ، وقد وجدت المخوفات في الدنيا ، وعاقب الله على الذنوب أمما كثيرة ، كما قصه في كتابه ، وكما شوهد من الآيات ، وأخبر عن دخول أهل النار النار في غير موضع من القرآن .
وقال - تعالى - : إنما يخشى الله من عباده العلماء [ سورة فاطر : 28 ] ولو كان الأمر كما يتوهمه الجاهل لكان إنما يخشاه من عباده الجهال الذين [ ص: 300 ] يتخيلون ما لا حقيقة له . وهذا كله [23] مبسوط في موضعه ، وإنما الغرض هنا التمثيل بأقوال المختلفين [24] التي كلها باطلة .
ومثال ذلك : إذا تنازع في القدر القدرية من المعتزلة وغيرهم ، والقدرية المجبرة [25] من الجهمية وغيرهم ، فقالوا جميعا : إرادة الله هي محبته وهي رضاه [26] . ثم قالت المعتزلة : وهو سبحانه يحب الإيمان والعمل الصالح ، ويكره الكفر والفسوق والعصيان ، فلا يكون مريدا له .
قالوا : والدليل على ذلك قوله : ولا يرضى لعباده الكفر [ سورة الزمر : 7 ] وقوله : إذ يبيتون ما لا يرضى من القول [ سورة النساء : 10 ] ، وقوله : والله لا يحب الفساد [ سورة البقرة : 205 ] .