الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  قالت المرجئة : وقوله [1] : " ليس منا " أي ليس مثلنا ، أو ليس من خيارنا . فقيل لهم : فلو لم [2] يغش ولم يحمل السلاح ، أكان يكون مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ أو كان يكون من خيارهم بمجرد هذا الكلام ؟ .

                  وقالت المرجئة : نصوص الوعيد عامة ، ومنا من ينكر صيغ العموم . [ ص: 294 ] ومن أثبتها قال : لا يعلم [3] تناولها [4] لكل فرد من أفراد العام [5] ، فمن لم يعذب [6] لم يكن اللفظ قد شمله .

                  فقيل للواقفة منهم : عندكم يجوز أن لا يحصل الوعيد بأحد من أهل القبلة ، فيلزم تعطيل نصوص الوعيد ، ولا تبقى لا خاصة ولا عامة .

                  وليس مقصودنا هنا استيفاء الكلام في المسألة ، وإنما الغرض التمثيل بالمناظرات من الطرفين . وأهل السنة والحديث ، وأئمة الإسلام المتبعون للصحابة ، متوسطون بين هؤلاء وهؤلاء . لا يقولون بتخليد أحد من أهل القبلة في النار ، كما تقول الخوارج والمعتزلة . لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في [7] الأحاديث الصحيحة أنه يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان [8] وإخراجه من النار من يخرج بشفاعة نبينا - صلى الله عليه وسلم - فيمن يشفع له من أهل الكبائر من أمته [9] .

                  [ ص: 295 ] [ وهذه أحاديث كثيرة مستفيضة متواترة عند أهل العلم بالحديث ، ولا يقولون : إنا نقف في الأحكام المطلقة ، بل نعلم أن الله يدخل النار من يدخله من أهل الكبائر ] [10] ، وناس آخرون لا يدخلونها لأسباب . لكن تنازعوا : هل يكون الداخلون بسبب اقتضى ذلك ، كعظم [11] الذنوب وكثرتها ، والذين لم يدخلوها بسبب منع ذلك ، كالحسنات المعارضة ونحوها ؟ وأنه - سبحانه وتعالى - يفعل ما يفعله بحكمة وأسباب ؟ أم قد يفرق بين المتماثلين بمحض المشيئة ، فيعذب الشخص ويعفو عمن هو مثله من كل وجه بمحض المشيئة ؟ هذا لهم فيه قولان والنصوص وأقوال السلف توافق الأول .

                  وإنما قد نقف في الشخص المعين ; فلا نشهد له بجنة ولا نار إلا عن علم ، لأن حقيقة باطنه وما مات عليه لا نحيط به ، لكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيء .

                  ولهم في الشهادة بالجنة ثلاثة أقوال : منهم من لا يشهد بالجنة لأحد إلا للأنبياء . وهذا قول محمد ابن الحنفية والأوزاعي .

                  والثاني : أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه نص . وهذا قول كثير من أهل الحديث .

                  والثالث : يشهد بالجنة لهؤلاء ولمن شهد له المؤمنون . كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أنتم شهداء الله في الأرض " [12] . وقال : " يوشك أن [ ص: 296 ] تعلموا أهل الجنة من أهل النار " قالوا : بم يا رسول الله ؟ قال : " بالثناء الحسن والثناء السيئ " [13] فأخبر أن ذلك مما يعلم به أهل الجنة وأهل النار . وكان أبو ثور يقول : " أشهد أن أحمد بن حنبل في الجنة " ويحتج بهذا . وبسط هذه المسألة له موضع آخر .

                  والإيمان عندهم يتفاضل ، فيكون إيمان أكمل من إيمان . كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا " [14] فيقولون : قوله : إنما يتقبل الله من المتقين [ سورة المائدة : 27 ] أي ممن اتقاه في ذلك العمل ، ليس المراد به الخلو من الذنوب ، ولا مجرد الخلو من الشرك ، بل من اتقاه في عمل قبله منه وإن كانت له ذنوب أخرى ، بدليل قوله : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات [ سورة هود : 114 ] فلو كانت الحسنة لا تقبل من صاحب السيئة لم تمحها .

                  وقد ثبت بالكتاب والسنة المتواترة [15] الموازنة بين الحسنات والسيئات ، فلو كانت الكبيرة تحبط الحسنات لم تبق حسنة توزن معها .

                  [ ص: 297 ] وقد ثبت في الصحيحين أن بغيا سقت كلبا فغفر الله [16] لها بسقيه [17] .

                  قالوا : وابنا آدم لم يكن أحدهما مشركا ، ولكن لم يقصد التقرب إلى الله بالطيب من ماله ، كما جاء في الأثر . فلهذا لم يتقبل الله قربانه .

                  وقد قال - تعالى - في حق المنافقين : وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون [ سورة التوبة : 54 ] فجعل هذه موانع قبول النفقة دون مطلق الذنوب .

                  قال أهل الحديث والسنة [18] : ومن نفى عنه الإيمان فلأنه ترك بعض واجباته . والعبادة ينفى اسمها بنفي بعض واجباتها ، لأنها لم تبق كاملة ، ولا يلزم من ذلك أن لا يبقى منه شيء ، بل قد دلت النصوص على أنه يبقى بعضه ، ويخرج من النار من بقي معه بعضه .

                  ومعلوم أن العبادات فيها واجب كالحج ، فيه واجب إذا تركه كان حجه ناقصا ، يأثم بما ترك ، ولا إعادة عليه ، بل يجبره بدم ، كرمي الجمار ، وإن لم يجبره بقي في ذمته . فكذلك الإيمان ينقص بالذنوب ، فإن تاب عاد ، وإلا بقي ناقصا نقصا يأثم به . وقد يحرم في الحج أفعال إذا فعلها [ ص: 298 ] نقص حجه ولم يبطل ، كالتطيب ولبس الثياب ، بل يجبر ذلك ولا يفسده من المحرمات إلا الجماع .

                  فكذلك لا يزيل الإيمان كله إلا الكفر المحض ، الذي لا يبقى مع صاحبه شيء من الإيمان . قالوا : وهذا هو الذي يحبط جميع الأعمال . وأما ما دون ذلك فقد يحبط بعض العمل ، كما في آية المن والأذى ; فإن ذلك يبطل تلك الصدقة ، لا يبطل سائر أعماله [19] .

                  والذين كرهوا ما أنزل الله كفار ، وأعمال القلوب ، مثل حب الله ورسوله ، وخشية الله ، ونحو ذلك ، كلها من الإيمان . وكراهة ما أنزل الله كفر . وأوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله .

                  وقد قال - تعالى - : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله [ سورة المجادلة : 22 ] .

                  وقوله في السابق والمقتصد والظالم لنفسه : جنات عدن يدخلونها [ سورة الرعد : 23 ] لا يمنع أن يكون الظالم لنفسه قد عذب قبل هذا ثم يدخلها .

                  وقوله : لا يصلاها إلا الأشقى [ سورة الليل : 15 ] لا يخلو إما أن يكون المراد بالصلي نوعا من التعذيب ; كما قيل : إن الذي تصليه النار هو الذي تحيط به ، وأهل القبلة لا تحرق النار منهم مواضع السجود ، أو تكون نارا مخصوصة .

                  وقوله : يخوف الله به عباده [ سورة الزمر : 16 ] كقول النبي - صلى الله [ ص: 299 ] عليه وسلم - في الشمس والقمر : " إنهما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده " [20] .

                  وقد قال تعالى : وما نرسل بالآيات إلا تخويفا [ سورة الإسراء : 59 ] والآيات التي خوف الله بها عباده [21] تكون سببا في شر ينزل بالناس ، فمن اتقى الله بفعل ما أمر به وقي ذلك الشر . ولو كان مما لا حقيقة له أصلا لم يخف أحد إذا علم أنه لا شر في الباطن ، وإنما يبقى التخويف للجاهل الفدم [22] كما يفزع الصبيان بالخيال .

                  وقد قال - تعالى - : ذلك يخوف الله به عباده ياعباد فاتقون [ سورة الزمر : 16 ] فخوف العباد مطلقا ، وأمرهم بتقواه ، لئلا ينزل المخوف ، وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين ، والإنذار هو الإعلام بما يخاف منه ، وقد وجدت المخوفات في الدنيا ، وعاقب الله على الذنوب أمما كثيرة ، كما قصه في كتابه ، وكما شوهد من الآيات ، وأخبر عن دخول أهل النار النار في غير موضع من القرآن .

                  وقال - تعالى - : إنما يخشى الله من عباده العلماء [ سورة فاطر : 28 ] ولو كان الأمر كما يتوهمه الجاهل لكان إنما يخشاه من عباده الجهال الذين [ ص: 300 ] يتخيلون ما لا حقيقة له . وهذا كله [23] مبسوط في موضعه ، وإنما الغرض هنا التمثيل بأقوال المختلفين [24] التي كلها باطلة .

                  ومثال ذلك : إذا تنازع في القدر القدرية من المعتزلة وغيرهم ، والقدرية المجبرة [25] من الجهمية وغيرهم ، فقالوا جميعا : إرادة الله هي محبته وهي رضاه [26] . ثم قالت المعتزلة : وهو سبحانه يحب الإيمان والعمل الصالح ، ويكره الكفر والفسوق والعصيان ، فلا يكون مريدا له .

                  قالوا : والدليل على ذلك قوله : ولا يرضى لعباده الكفر [ سورة الزمر : 7 ] وقوله : إذ يبيتون ما لا يرضى من القول [ سورة النساء : 10 ] ، وقوله : والله لا يحب الفساد [ سورة البقرة : 205 ] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية