الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وقد أمر العباد [1] بالحسنات التي تنفعهم ، ونهاهم عن السيئات التي تضرهم . والحسنات محبوبة لله مرضية [2] والسيئات مكروهة له يسخطها ويسخط على أهلها ، وإن كان الجميع مخلوقا له ، فإنه خلق جبريل وإبليس ، وهو يحب جبريل ويبغض إبليس ، وخلق الجنة والنار ، وجعل الظلمات والنور ، وخلق الظل والحرور ، وخلق الموت والحياة ، و [ خلق ] الذكر والأنثى ، و [ خلق ] الأعمى [3] والبصير .

                  [ ص: 313 ] وقد قال : ( لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون ) [ سورة الحشر : 20 ] .

                  وقال : ( وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات ) [ سورة فاطر : 19 - 22 ] .

                  وقال : ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون ) [ سورة القلم : 35 - 36 ] .

                  وقال : ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ) [ سورة ص : 28 ] .

                  وقال : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ) [ سورة الجاثية : 21 ] .

                  وقد خلق الطيبات والخبائث ، وليس [4] الطيبات كالخبائث ، ولا الفواكه والحبوب كالبول والعذرة ، وهو - سبحانه - إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ، وهو طيب لا يقبل إلا طيبا ، وهو نظيف يحب النظافة ، وجميل يحب الجمال ، وليس كل ما خلقه يصعد إليه ، ويكون [ طيبا ] [5] محبوبا له مرضيا عنده ، بل إنما يسكن في جنته من يناسبها ويصلح لها ، وكذلك النار . قال تعالى : ( طبتم فادخلوها خالدين ) [ سورة الزمر : 73 ] .

                  [ ص: 314 ] وفي الصحيح أنه إذا عبر أهل الجنة الصراط ، وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتص لبعضهم [6] من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة ، فلا يدخلون الجنة إلا بعد التهذيب والتنقية [7] كما قال تعالى : ( طبتم فادخلوها خالدين ) [ سورة الزمر : 73 ] .

                  ولما قال إبليس : ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين ) [ سورة الأعراف : 12 - 13 ] ، فبين سبحانه أنه ليس لمن في الجنة أن يتكبر .

                  وفي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ، ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان " [8] قال رجل : يا رسول الله ، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا [9] أفمن الكبر ذاك ؟ قال : " لا . إن الله جميل يحب [ ص: 315 ] الجمال . الكبر بطر الحق وغمط الناس " [10] وقوله : " جميل يحب الجمال " أي : يحب أن يتجمل العبد له ويتزين ، كما قال تعالى : ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) [ سورة الأعراف : 31 ] .

                  وهو يكره أن يصلي العبد له عريانا ، بل يكره - سبحانه - أن تصلي المرأة له مكشوفة الرأس ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار " [11] .

                  ولهذا [ لما ] [12] كان المشركون يطوفون بالبيت عراة ، ويقولون : إن الله أمرنا بهذا ، قال تعالى : ( إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون ) [ سورة الأعراف : 28 ] .

                  فتحسين النعل والثوب لعبادة الله هو من التجمل الذي يحبه الله ، ولو تزين [ به ] [13] لمعصية [14] لم يحب ذلك . والمؤمن الذي نور الله قلبه بالإيمان يظهر نور الإيمان على وجهه ، ويكسى محبة ومهابة ، والمنافق [ ص: 316 ] بالعكس .

                  وأما الصورة المجردة ، سواء كانت حسنة مشتهاة ، كشهوة الرجال للنساء ، والنساء للرجال ، أو لم تكن مشتهاة ، فقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا أموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " [15] ، ويقال : ولا إلى لباسكم .

                  وقد قال - تعالى - : ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا ) [ سورة مريم : 73 - 74 ] ، والأثاث : اللباس والمال . والرئي : المنظر والصورة .

                  وقال - تعالى - [ عن المنافقين ] [16] : ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون ) [ سورة المنافقون : 4 ] ، فبين أن لهم أجساما ومناظر ، قال ابن عباس : كان ابن أبي جسيما ، فصيحا ، طلق [17] اللسان . قال المفسرون : وصفهم الله بحسن الصورة وإبانة المنطق ، ثم أبان أنهم في عدم الفهم والاستغفار بمنزلة الخشب المسندة الممالة إلى الجدار ، والمراد أنها ليست بأشجار تثمر [18] ، [ بل هي خشب مسندة إلى [ ص: 317 ] حائط ] [19] ، ثم عابهم بالجبن فقال : ( يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون ) أي : لا يسمعون صوتا إلا ظنوا أنهم قد أتوا ، لما في قلوبهم من الرعب أن يكشف الله أسرارهم .

                  فصاحب الصورة الجميلة إذا كان من أهل هذه الأعمال التي يبغضها الله ، كان الله يبغضه ولا يحبه لجماله ، فإن الله لا ينظر إلى صورته ، وإنما ينظر إلى قلبه وعمله .

                  ويوسف الصديق ، وإن كان أجمل من غيره من الأنبياء ، وفي الصحيح : " أنه أعطي شطر الحسن " [20] ، فلم يكن بذلك أفضل من غيره ، بل غيره أفضل منه ، كإبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد ، - صلوات الله عليهم أجمعين - ويوسف ، وإن كانت صورته أجمل ، فإن إيمان هؤلاء وأعمالهم كانت أفضل من إيمانه وعمله ، وهؤلاء أوذوا على نفس الإيمان والدعوة إلى الله ، فكان الذين عادوهم معادين لله ورسوله ، وكان صبرهم صبرا على توحيد الله وعبادته [ ص: 318 ] وطاعته ، وهكذا سائر قصص الأنبياء التي في القرآن .

                  ويوسف - عليه السلام - إنما آذاه إخوته لتقريب أبيه له ، حسدا على حظ من حظوظ الأنفس ، لا على دين . ولهذا كان صبره على التي راودته ، وحبس الذين حبسوه على ذلك ، أفضل له من صبره على أذى إخوته ، فإن هذا صبر على تقوى الله باختياره حتى لا يفعل المحرم ، وذلك صبر على أذى الغير الحاصل بغير اختياره ، فهذا من جنس صبر المصاب على مصيبته ، وذاك من جنس صبر المؤمن على الذين يأمرونه بالمعاصي ، ويدعونه إليها فيصبر على طاعة الله وعن معصيته ، ويغلب هواه وشهوته ، وهذا أفضل .

                  فأما صبر إبراهيم وموسى وعيسى ونبينا - صلوات الله وسلامه عليهم - على أذى الكفار ، وعداوتهم على الإيمان بالله ورسوله ، فذاك أفضل من هذا [21] كله ، كما أن التوحيد والإيمان أفضل من مجرد ترك الزنا ، وكما أن [ تلك ] [22] الطاعات أعظم ، فالصبر عليها وعلى معاداة أهلها أعظم .

                  وأيضا فهؤلاء كانوا يطلبون قتل من يؤمن وإهلاكه بكل طريق ، لا يحبون المؤمنين أصلا ، بخلاف يوسف فإنه إنما ابتلي بالحبس [23] ، وكانت المرأة تحبه فلم تعاقبه بأكثر من ذلك .

                  وقوله تعالى : ( نحن نقص عليك أحسن القصص ) [ سورة يوسف : 3 ] ، سواء كان القصص مصدر قص يقص قصصا ، أو كان مفعولا : أي أحسن [ ص: 319 ] المقصوص ، فذاك لا يختص بقصة يوسف ، بل قصة موسى أعظم منها قدرا وأحسن ، ولهذا [ كرر ] [24] ذكرها في القرآن وبسطها ، قال تعالى : ( فلما جاءه وقص عليه القصص ) [ سورة القصص : 25 ] ولهذا قال : ( بما أوحينا إليك هذا القرآن ) [ سورة يوسف : 3 ] وقد قرئ : ( أحسن القصص ) بالكسر ، ولا تختص بقصة يوسف ، بل كل ما قصه الله فهو أحسن القصص ، فهو أحسن مقصوص ، وقد قصه الله أحسن قصص .

                  وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله جميل يحب الجمال " قاله جوابا للسائل في بيان ما يحبه الله من الأفعال وما يكرهه ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ، ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان " [25] . ومعلوم أن هذا الكبر من كسب العبد الداخل تحت قدرته ومشيئته ، وهو منهي عنه ومأمور بضده ، فخاف السائل أن يكون ما يتجمل به [26] الإنسان ، فيكون أجمل به ممن لم يعمل مثله من الكبر المذموم ، فقال : إني أحب أن يكون ثوبي حسنا [ ونعلي حسنا ] [27] ، أفمن الكبر ذاك ؟

                  وحسن ثوبه ونعله هو مما حصل بفعله وقصده ، ليس هو شيئا مخلوقا فيه بغير كسبه كصورته ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله جميل يحب الجمال " ففرق بين الكبر الذي يمقته الله ، وبين الجمال [ ص: 320 ] الذي يحبه الله .

                  ومعلوم أن الله إذا خلق شخصا أعظم من شخص ، وأكبر منه في بعض الصفات : إما في جسمه ، وإما في قوته ، و [ إما في ] عقله [28] ، وذكائه ونحو ذلك ، لم يكن هذا مبغضا ، فإن هذا ليس باختيار العبد ، بل هذا خلق فيه بغير اختياره ، بخلاف ما إذا كان هو متكبرا على غيره ، بذلك أو بغيره ، فيكون هذا من عمله الذي يمقته الله عليه ، كما قال لإبليس : ( فما يكون لك أن تتكبر فيها ) [ سورة الأعراف : 13 ] .

                  كذلك من خلقه الله حسن اللون معتدل القامة جميل الصورة ، فهذا ليس من عمله الذي يحمد عليه أو يذم ، أو يثاب [29] أو يعاقب [30] ويحبه الله ورسوله عليه أو يبغضه [ عليه ، كما أنه إذا كان أسود أو قصيرا ، أو طويلا ونحو ذلك ، لم يكن هذا من عمله الذي يحمد عليه أو يذم ، ويثاب أو يعاقب [31] ، ويحبه الله ورسوله عليه أو يبغضه ] [32] ; ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأبيض على أسود ، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى " [33] .

                  ولهذا [ لما ] [34] كان المنافقون لهم جمال في الصورة ] وليس في [ ص: 321 ] قلوبهم إيمان ، شبههم الله - سبحانه - بالخشب المسندة اليابسة التي لا تثمر ، فالخشبة [ اليابسة ] إذا كانت [ لا ثمر فيها ] لا تمدح [35] ولو كانت عظيمة ، وهكذا الصورة مع القلب [36] ، نعم قد تكون الصورة عونا على الإيمان والعمل الصالح ، [ كما تكون القوة ] والمال [37] وغير ذلك ، فيحمد صاحبها إذا استعان بها [38] في طاعة الله وعف عن معاصيه ، ويكون حينئذ فيه الجمال الذي يحبه الله ولو كان أسود ، وفعل ما يحبه الله من الجمال كان أيضا فيه الجمال الذي يحبه الله .

                  والمقصود هنا ذكر ما يحبه الله ويرضاه ، وهو الذي يثاب أصحابه عليه ويدخلون الجنة . ومن المعلوم أن الفرق بين مطلق الإرادة وبين المحبة موجود في الناس وغيرهم ، فالإنسان يريد كل ما يفعله باختياره ، وإن كان في ذلك ما هو بغيض إليه مكروه له ; يريده لأنه وسيلة إلى ما هو محبوب له ، كما يريد المريض تناول [39] الدواء الذي يكرهه ويتألم منه ; لأنه وسيلة إلى ما يحبه من العافية ، وإلى زوال ما هو أبغض إليه من الآلام [40] .

                  والجهمية والقدرية إنما لم تفرق بين ما يشاؤه وما يحبه ; لأنهم لا يثبتون لله محبة لبعض الأمور المخلوقة دون بعض ، وفرحا بتوبة التائب . وكان أول من أنكر هذا : الجعد بن درهم ، فضحى به خالد بن [ ص: 322 ] عبد الله [ القسري ] [41] وقال : " ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني [42] مضح بالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما ، ولا اتخذ إبراهيم خليلا [43] ، تعالى الله عما يقول الجعد [ بن درهم ] [44] علوا كبيرا " ثم نزل [ عن المنبر ] [45] فذبحه [46] ، فإنه الخلة من توابع المحبة ، فمن كان من أصله : أن الله لا يحب ولا يحب ، لم يكن للخلة عنده معنى [47] ، والرسل - صلوات الله عليهم أجمعين - إنما جاءوا بإثبات هذا الأصل ، وهو أن الله يحب بعض الأمور المخلوقة [48] ويرضاها [49] ، ويسخط بعض الأمور ويمقتها ، وأن أعمال العباد ترضيه [ تارة ] [50] وتسخطه أخرى .

                  قال تعالى : ( ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم ) [ سورة محمد : 28 ] .

                  وقال - تعالى - : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم ) [ سورة الفتح : 18 ] .

                  وقال : ( فلما آسفونا انتقمنا منهم ) [ سورة الزخرف : 55 ] . عن ابن عباس : أغضبونا . قال ابن قتيبة : الأسف الغضب ، [ يقال : أسفت [ ص: 323 ] أسفا ، أي : غضبت ] [51] .

                  وقال الله تعالى : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ) [ سورة النساء : 93 ] .

                  و [ قد ثبت ] في الصحيح [52] من غير وجه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لله أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض دوية [53] مهلكة عليها طعامه وشرابه ، فطلبها فلم يجدها ، فقال [54] تحت شجرة ينتظر الموت ، فاستيقظ فإذا هو بدابته عليها طعامه وشرابه . فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته " [55] .

                  والفرح إنما يكون بحصول المحبوب ، والمذنب كالعبد الآبق من مولاه الفار منه ، فإذا تاب فهو كالعائد إلى مولاه وإلى طاعته . وهذا المثل [56] الذي ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - يبين من محبة الله وفرحه بتوبة العبد ، ومن كراهته لمعاصيه ، ما يبين أن ذلك أعظم من التمثيل بالعبد الآبق ، فإن الإنسان إذا فقد الدابة التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة [57] ، فإنه يحصل عنده ما الله به عليم من التأذي ، من جهة فقد الطعام والشراب والمركب ، وكون الأرض مفازة لا يمكن الخلاص منها ، وإذا طلبها فلم يجدها يئس واطمأن إلى الموت ، وإذا استيقظ فوجدها كان عنده من الفرح ما لا يمكن التعبير عنه بوجود [58] ما يحبه [ ص: 324 ] ويرضاه ، بعد الفقد المنافي لذلك .

                  وهذا يبين من محبة الله للتوبة المتضمنة للإيمان والعمل الصالح ، ومن كراهته لخلاف ذلك ، ما يرد على منكري الفرق من الجهمية والقدرية ، فإن الطائفتين تجعل جميع الأشياء بالنسبة إليه سواء . [ ثم ] [59] القدرية يقولون : هو يقصد نفع العبد لكون ذلك حسنا ، ولا يقصد الظلم لكونه قبيحا ، والجهمية يقولون : إذا كان لا فرق بالنسبة إليه بين هذا وهذا ، امتنع أن يكون عنده شيء حسن وشيء قبيح ، وإنما يرجع ذلك إلى أمور إضافية للعباد .

                  فالحسن بالنسبة إلى العبد ما يلائمه وما ترتب [60] عليه ثواب يلائمه ، والقبيح [61] بالعكس ، ومن هنا جعلوا المحبة والإرادة سواء ، فلو أثبتوا أنه - سبحانه - يحب ويفرح بحصول محبوبه - كما أخبر به الرسول - تبين لهم حكمته ، وتبين أيضا أنه يفعل الأفعال لحكمة . فإن الجهمية قالوا : إذا كانت الأشياء بالنسبة إليه سواء ، امتنع أن يفعل لحكمة ، [ والمعتزلة قالوا : يفعل لحكمة ] [62] تعود إلى العباد . فقالت لهم الجهمية : [ تلك الحكمة ] [63] يعود إليه منها حكم [64] أو لا يعود ؟ فالأول [65] خلاف الأصل الذي أصلتموه [66] . والثاني ممتنع ، فيمتنع أن أحدا يختار الحسن على [ ص: 325 ] القبيح [67] إن لم يكن له من فعل الحسن معنى يعود إليه ، فيكون فعل الحسن يناسبه ، بخلاف القبيح . فإذا قدر نفي ذلك امتنع أن يفعل لحكمة .

                  ثم إن هذه الصفة من أعظم صفات الكمال ، وكذلك كونه محبوبا لذاته هو [68] أصل دين الرسل ، فإنهم كلهم دعوا إلى عبادة الله وحده ، وأن لا إله إلا هو ، والإله هو المستحق أن يعبد ، والعبادة لا تكون إلا بتعظيم ومحبة ، وإلا فمن عمل لغيره لعوض [69] يعطيه إياه ، ولم يكن يحبه ، لم يكن عابدا [ له ] [70] .

                  وقد قال تعالى : ( يحبهم ويحبونه ) [ سورة المائدة : 54 ] ، وقال تعالى : ( والذين آمنوا أشد حبا لله ) [ سورة البقرة : 165 ] ، وهؤلاء الذين ينفون أن الله يحب ويحب آخر أمرهم أنه [71] لا يبقى عندهم فرق بالنسبة إلى الله بين أوليائه وبين أعدائه ، ولا بين الإيمان والكفر ، ولا بين ما أمر به وما نهى عنه ، ولا بين بيوته التي هي المساجد وبين الحانات ومواضع الشرك .

                  وغاية ما يثبتونه من الفرق أن هذا علم على لذة تحصل للإنسان ، وهذا علم على ألم يحصل للإنسان [72] ، فإن كانوا [73] من الصوفية الذين [ ص: 326 ] يجعلون الكمال في فناء العبد عن حظوظه ، دخلوا في مقام الفناء في توحيد الربوبية ، الذي يقولون فيه : [74] العارف لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة . ويجعلون [75] هذا غاية العرفان ، فيبقى عندهم لا فرق بين أولياء الله وأعدائه ، ولا بين الإيمان [76] والكفر به ، ولا بين حمده والثناء عليه وعبادته ، وبين سبه وشتمه ، وجعله ثالث ثلاثة ، ولا بين رسول الله وبين أبي جهل [77] ، ولا بين موسى وفرعون .

                  وقد بسطنا الكلام على هؤلاء [78] في غير هذا الموضع ، وإن كان من المتكلمين الذين يقولون : ما ثم إلا ما هو حظ للعبد من المخلوقات صاروا مسخرين في العبادات مستثقلين لها [79] ، وفي قلوبهم مرتع للشيطان ، فإنه يقع لهم : لم لا ينعم بالثواب بدون هذا التكليف [80] ؟ فإذا أجابوا أنفسهم بأن هذا ألذ [81] كان هذا [82] من أبرد الأجوبة وأسمجها [83] .

                  [ ص: 327 ] فإن هذا [ إنما ] [84] يقال في المناظرين [85] ، وأما رب العالمين فلا أحد إلا [ وهو ] [86] مقر بفضله وإحسانه ، ثم يقال : قد حصل بطلب الألذ من شقاوة الأكثرين ، ما كان خلقهم في الجنة ابتداء بلا هذا الألذ أجود لهم ، وهو قادر على خلق لذات عظيمة ، إلى أمثال هذه الأجوبة .

                  وإن كان من المرجئة ، الذين إيمانهم بالوعيد ضعيف ، استرسلت نفسه في المحرمات وترك الواجبات ، حتى يكون من شر الخلق . بخلاف من وجد حلاوة الإيمان بمحبة الله ، وعلمه بأنه يحب العبادات ، وأنه يحب أفعالا وأشخاصا ، ويبغض أفعالا وأشخاصا ، ويرضى عن هؤلاء ، ويغضب على هؤلاء ، ويفرح بتوبة التائبين ، إلى غير ذلك مما أخبر به[87] الرسول ، فإن هذا هو الإسلام الذي به يشهد العبد أن لا إله إلا الله .

                  ومن لم يقل بالفرق ، فلم يجعل الله معبودا محبوبا ، فإنما يشهد [88] أن لا رب إلا هو ، والمشركون كانوا يقرون بهذه الشهادة ، لم يشهدوا أن لا إله إلا الله [89] ، والرسل - عليهم الصلاة والسلام - بعثوا بتوحيد الألوهية ، المتضمن توحيد الربوبية .

                  [ وأما توحيد الربوبية ] [90] مجردا ، فقد كان المشركون يقرون [91] بأن الله [92] وحده [93] خالق السماوات والأرض ، كما أخبر الله بذلك عنهم [ في [ ص: 328 ] غير موضع من القرآن ] [94] .

                  قال تعالى : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ) [ سورة الزمر : 38 ] . وقال تعالى : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) [ سورة يوسف : 106 ] . وهذا قد بسطناه في موضع آخر .

                  وهؤلاء يدعون محبة الله في الابتداء ، ويعظمون أمر محبته ، ويستحبون السماع بالغناء والدفوف والشبابات ، ويرونه قربة ; لأن ذلك بزعمهم يحرك محبة الله في قلوبهم ، وإذا حقق أمرهم وجدت محبتهم تشبه محبة المشركين لا محبة الموحدين ، فإن محبة الموحدين بمتابعة الرسول والمجاهدة في سبيل الله .

                  قال تعالى : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ) [ سورة آل عمران : 31 ] .

                  وقال تعالى : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ) [ سورة التوبة : 24 ] .

                  وقال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) [ سورة المائدة : 54 ] .

                  وهؤلاء لا يحققون متابعة الرسول ، ولا الجهاد في سبيل الله ، بل كثير [ ص: 329 ] منهم - أو أكثرهم - يكرهون متابعة الرسول ، وهم من أبعد الناس عن الجهاد في سبيل الله ، بل يعاونون [95] أعداءه ، ويدعون محبته ; لأن محبتهم من جنس محبة المشركين الذين [96] قال الله فيهم : ( وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ) [ سورة الأنفال : 35 ] .

                  ولهذا يحبون سماع القصائد أعظم مما يحبون سماع القرآن ، ويجتهدون [97] في دعاء مشايخهم ، والاستغاثة بهم عند قبورهم ، وفي حياتهم في مغيبهم ، أعظم مما يجتهدون في دعاء الله ، والاستغاثة به في المساجد [ والبيوت ] [98] .

                  وهذا كله من فعل أهل الشرك ليس من فعل المخلصين لله دينهم ، كالصحابة والتابعين [ لهم بإحسان ] [99] ، فأولئك أنكروا محبته ، وهؤلاء دخلوا في محبة المشركين ، والطائفتان خارجتان عن الكتاب والسنة .

                  فنفس محبته أصل لعبادته ، والشرك في محبته أصل الإشراك في عبادته ، وأولئك فيهم شبه من اليهود [100] ، وعندهم كبر من جنس كبر اليهود . وهؤلاء فيهم شبه من النصارى ، وفيهم شرك من جنس شرك النصارى .

                  والنصارى ضالون لهم عبادة ورحمة ورهبانية لكن بلا علم ، ولهذا يتبعون أهواءهم بلا علم ، قال تعالى [ : ( ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق ) [ ص: 330 ] [ سورة النساء : 171 ] . وقال تعالى ] [101] : ( ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ) [ سورة المائدة : 77 ] أي : وسط الطريق ، وهي السبيل القصد الذي قال الله فيها : ( وعلى الله قصد السبيل ) [ سورة النحل : 9 ] ، وهي الصراط المستقيم ، فأخبر بتقدم ضلالهم ، ثم ذكر صفة ضلالهم .

                  والأهواء هي إرادات النفس [102] بغير علم ، فكل من فعل ما تريده نفسه بغير علم يبين أنه مصلحة فهو متبع هواه ، والعلم بالذي هو مصلحة العبد عند الله في الآخرة هو [ العلم ] [103] الذي [ جاءت ] [104] به الرسل . قال تعالى : ( فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ) [ سورة القصص : 50 ] .

                  وقال تعالى : ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير ) [ سورة البقرة : 120 ] .

                  وقال تعالى : ( فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ) [ سورة المائدة : 48 ] .

                  وقال تعالى : ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ) [ سورة الجاثية : 18 ] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية