الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( فصل )

                  وقد اعترف طوائف بأنه يستحق أن يحب ، وأنكروا أنه يحب غيره إلا بمعنى الإرادة العامة ، فإن محبة المؤمنين لربهم أمر موجود في القلوب [1] والفطر ، شهد به الكتاب والسنة ، واستفاض عن سلف الأمة وأهل الصفوة ، واتفق عليه أهل المعرفة بالله .

                  وقد ثبت أن التذاذ المؤمنين يوم القيامة بالنظر إلى الله أعظم لذة في الجنة ، ففي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة : إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه . فيقولون : ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا ، ويثقل موازيننا ، ويدخلنا الجنة ، ويجرنا من النار ؟ قال : فيكشف الحجاب فينظرون إليه ، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه . وهو الزيادة " [2] .

                  وفي حديث آخر رواه النسائي وغيره : " أسألك لذة النظر إلى وجهك ، والشوق إلى لقائك ، في غير ضراء مضرة ، ولا فتنة مضلة [3] " .

                  [ ص: 389 ] فقوله في الحديث الصحيح : " فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه " يبين أن اللذة الحاصلة بالنظر إليه أعظم من كل لذة في الجنة ، والإنسان في الدنيا يجد في قلبه بذكر الله ، وذكر محامده ، وآلائه ، وعبادته ، من اللذة ما لا يجده بشيء آخر .

                  وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " جعلت قرة عيني في الصلاة " [4] ، وكان يقول : " أرحنا بالصلاة يا بلال " [5] وفي الحديث : " إذا مررتم [ ص: 390 ] برياض الجنة فارتعوا " . قالوا : وما رياض الجنة ؟ قال : " مجالس الذكر " [6] . ومن هذا الباب قوله : " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " [7] ; فإن هذا كان أعظم مجالس الذكر .

                  والمنكرون لرؤيته من الجهمية والمعتزلة تنكر هذه اللذة ، وقد يفسرها من يتأول [8] الرؤية بمزيد العلم على لذة العلم به ، كاللذة التي في الدنيا بذكره ، لكن تلك أكمل .

                  وهذا قول متصوفة الفلاسفة والنفاة ، كالفارابي ، وكأبي حامد ، وأمثاله ، فإن ما في كتبه من " الإحياء " وغيره من لذة النظر إلى وجهه هو بهذا المعنى [9] ، [ والفلاسفة تثبت اللذة العقلية ، وأبو نصر الفارابي [ ص: 391 ] وأمثاله [10] من المتفلسفة يثبت الرؤية لله ، ويفسرها بهذا المعنى ] [11] .

                  وهذه اللذة أيضا ثابتة بعد الموت ، لكنهم مقصرون في تحقيقها ، وإثبات غيرها من لذات الآخرة ، كما هو مبسوط في موضعه .

                  وأما أبو المعالي ، وابن عقيل ، ونحوهما فينكرون أن يلتذ أحد بالنظر إليه . وقال أبو المعالي : يمكن أن يحصل [12] مع النظر إليه لذة ببعض [ ص: 392 ] المخلوقات من الجنة ، فتكون اللذة مع النظر بذلك المخلوق [13] .

                  وسمع ابن عقيل رجلا يقول : أسألك لذة النظر إلى وجهك . فقال : هب أن له وجها أفتلتذ بالنظر إليه ؟ ! .

                  وهذا ونحوه مما أنكر على ابن عقيل ; فإنه كان فاضلا ذكيا ، وكان تتلون آراؤه في هذه المواضع ; ولهذا يوجد في كلامه كثير مما يوافق فيه قول المعتزلة والجهمية ، وهذا من ذاك .

                  وكذلك أبو المعالي بنى هذا على أصل الجهمية الذي وافقهم فيه الأشعري ومن وافقه ، كالقاضي أبي بكر ، والقاضي أبي يعلى وغيرهما : أن الله لا يحب ذاته ، ويزعمون أن الخلاف في ذلك مع الصوفية .

                  وهذا القول من بقايا أقوال جهم بن صفوان ، وأول من عرف في الإسلام أنه أنكر أن الله يحب أو يحب الجهم بن صفوان وشيخه الجعد بن درهم ، وكذلك هو أول من عرف أنه أنكر حقيقة تكليم الله لموسى وغيره ، وكان جهم ينفي الصفات والأسماء ، ثم انتقل بعض [14] ذلك إلى المعتزلة وغيرهم ; فنفوا الصفات دون الأسماء .

                  وليس هذا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها [15] ، بل كلهم متفقون على أن الله يستحق أن يحب ، وليس شيء أحق بأن يحب من الله سبحانه ، بل لا يصلح أن يحب غيره إلا لأجله وكل ما يحبه المؤمن من طعام وشراب ولباس وغير ذلك لا ينبغي أن يفعله إلا ليستعين به على عبادته [ ص: 393 ] سبحانه ، المتضمنة لمحبته ، فإن الله إنما خلق الخلق لعبادته ، وخلق فيهم الشهوات ليتناولوا بها ما يستعينون به [16] على عبادته ، ومن لم يعبد الله فإنه فاسد هالك ، والله لا يغفر أن يشرك به فيعبد معه غيره ، فكيف بمن عطل عبادته فلم يعبده البتة كفرعون وأمثاله ؟ ! .

                  وقد قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ سورة النساء : 48 ] ، [ والتعطيل ليس دون الشرك ، بل أعظم منه ، فالمستكبرون عن عبادته أعظم جرما من الذين يعبدونه ويعبدون معه غيره ، وهو لا يغفر لهم ، فأولئك أولى [17] ، وما من مؤمن إلا وفي قلبه حب الله ] [18] ، ولو أنكر ذلك بلسانه .

                  وهؤلاء الذين أنكروا محبته من أهل الكلام - وهم مؤمنون - لو رجعوا إلى فطرتهم التي فطروا عليها ، واعتبروا أحوال قلوبهم عند عبادته ; لوجدوا في قلوبهم من محبته ما لا يعبر عن قدره ، وهم من أكثر الناس نظرا في العلم به وبصفاته وذكره ، وذلك كله من محبته [19] ، وإلا فما لا يحب لا تحرص النفوس على ذكره إلا لتعلق حاجتها به ; ولهذا يقال : من أحب شيئا أكثر من ذكره .

                  والمؤمن يجد نفسه محتاجة إلى الله في تحصيل مطالبه ، ويجد في قلبه محبة الله غير هذا ، فهو محتاج إلى الله من جهة أنه ربه ، ومن جهة [ ص: 394 ] أنه إلهه ، قال تعالى : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ، فلا بد أن يكون العبد عابدا لله ، ولا بد أن يكون مستعينا به ; ولهذا كان هذا فرضا على كل مسلم أن يقوله في صلاته .

                  وهذه الكلمة بين العبد وبين الرب ، وقد روي عن [20] الحسن البصري - رحمه الله - : أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب ، جمع سرها في الأربعة ، وجمع سر الأربعة في القرآن ، وجمع سر [21] القرآن في الفاتحة ، وجمع [22] سر الفاتحة في هاتين الكلمتين : [ إياك نعبد وإياك نستعين ) ] [23] ; ولهذا ثناها الله [ في كتابه ] [24] في غير موضع من القرآن ، كقوله : ( فاعبده وتوكل عليه ) [ سورة هود : 123 ] ، وقوله : ( عليه توكلت وإليه أنيب ) [ سورة هود : 88 ] ، وقوله : ( عليه توكلت وإليه متاب ) [ سورة الرعد : 30 ] ، وقوله : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) [ سورة الطلاق : 2 - 3 ] وأمثال ذلك .

                  وهم يتأولون محبته على محبة عبادته وطاعته .

                  فيقال لهم : فيمتنع في الفطرة أن يحب الإنسان طاعة مطاع وعبادته ، إلا أن يكون محبا لله ، وإلا فما لا يحب في نفسه [25] لا يحب الإنسان لا [ ص: 395 ] طاعته ولا عبادته ، ومن كان إنما يحب الطاعة والعبادة للعوض المخلوق ، فهو لا يحب إلا ذلك العوض ، ولا يقال : إن هذا يحب الله .

                  ألا ترى أن الكافر والظالم ومن يبغضه المؤمن قد يستأجر المؤمن على عمل يعمله ، فيعمل المؤمن لأجل ذلك العوض ، ولا يكون المؤمن محبا للكافر ولا للظالم إذا عمل له بعوض ; لأنه ليس مقصوده إلا العوض . فمن كان لا يريد من الله إلا العوض على عمله ، فإنه لا يحبه [ قط ] [26] إلا كما يحب الفاعل لمن يستأجره [27] ويعطيه العوض [ على عمله ] [28] ، فإن كل محبوب ، إما أن يحب لنفسه ، وإما أن يحب لغيره ، فما أحب لغيره فالمحبوب في نفس الأمر هو ذلك الغير ، وأما هذا فإنما أحب لكونه وسيلة إلى المحبوب ، والوسيلة قد تكون مكروهة غاية الكراهة ، لكن يتحملها [29] الإنسان لأجل المقصود ، كما يتجرع المريض الدواء الكريه لأجل محبته للعافية ، ولا يقال : إنه يحب ذلك الدواء الكريه .

                  فإن كان الرب سبحانه لا يحب إلا لما يخلقه من النعم ، فإنه لا يحب ، وقد قال تعالى : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ) [ سورة البقرة : 165 ] ، فأخبر أن المؤمنين أشد حبا لله من المشركين ، وأن المشركين يحبون الأنداد كحب الله .

                  [ ص: 396 ] ومن المعلوم أن المشركين يحبون آلهتهم محبة قوية ، كما قال تعالى : ( وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ) [ سورة البقرة : 93 ] ، وهذا وإن كان يقال : [ إنه ] [30] لما يظنونه فيهم من أنها تنفعهم ، فلا ريب أن الشيء يحب لهذا ولهذا ، ولكن إذا ظن فيه أنه متصف بصفات الكمال كانت محبته [31] أشد ، مع قطع النظر عن نفعه .

                  والحديث الذي يروى : " أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه ، وأحبوني بحب الله ، وأحبوا أهل بيتي بحبي " إسناده ضعيف [32] ; فإن الله يحب أن يحب لذاته ، وإن كانت محبته واجبة لإحسانه .

                  وقول القائل : المحبة للإحسان محبة العامة ، وتلك محبة الخاصة - ليس بشيء ، بل كل مؤمن فإنه يحب الله لذاته ، ولو أنكر ذلك بلسانه . ومن لم يكن الله ورسوله أحب إليه مما سواهما لم يكن مؤمنا . ومن قال : إني لا أجد [33] هذه المحبة في قلبي لله ورسوله ، فأحد الأمرين لازم : إما أن يكون صادقا في هذا الخبر ، فلا يكون مؤمنا ، فإن أبا جهل وأبا لهب [ ص: 397 ] وأمثالهما إذا قالوا ذلك كانوا صادقين في هذا الخبر ، وهم كفار أخبروا عما في نفوسهم من الكفر ، مع أن هؤلاء في قلوبهم محبة الله [34] لكن مع الشرك به ، فإنهم اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ; ولهذا أبغضوا الرسول وعادوه ; لأنه دعاهم إلى عبادة الله وحده ، ورفض ما يحبونه معه ، فنهاهم أن يحبوا شيئا كحبه [35] ، فأبغضوه على هذا . فقد يكون بعض هؤلاء المشركين الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ، يفضل ذلك الند على الله في أشياء . وهؤلاء قد يعلمون أن الله أجل وأعظم ، لكن تهوى نفوسهم ذلك الند أكثر .

                  والرب تعالى إذا جعل من يحب الأنداد كحبه مشركين ، فمن أحب الند أكثر كان أعظم شركا وكفرا ، كما قال تعالى : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) [ سورة الأنعام : 108 ] ، فلولا تعظيمهم لآلهتهم على الله لما سبوا الله إذا سبت آلهتهم .

                  وقال تعالى : ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون ) [ سورة الأنعام : 136 ] ، وقال أبو سفيان يوم أحد : أعل هبل أعل هبل . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ألا تجيبوه ؟ فقالوا : وما نقول ؟ قال : قولوا : الله أعلى وأجل . وقال أبو سفيان : إن لنا العزى ، ولا عزى لكم . قال : ألا تجيبوه ؟ قالوا : [ ص: 398 ] وما نقول ؟ قال : قولوا : الله مولانا ، ولا مولى لكم [36] .

                  ويوجد كثير من الناس يحلف بند جعله لله ، وينذر له ، ويوالي في محبته ، ويعادي من يبغضه ، ويحلف به فلا يكذب ، ويوفي بما نذره له [37] ، وهو يكذب إذا حلف بالله ، ولا يوفي بما نذره لله ، ولا يوالي في محبة الله ، ولا يعادي في الله ، كما يوالي ويعادي لذلك الند .

                  فمن قال : إني لا أجد في قلبي أن الله أحب إلي مما سواه ، فأحد الأمرين لازم : إما أن يكون صادقا فيكون كافرا مخلدا في النار ، من الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ، وإما أن يكون غالطا في قوله : لا أجد في قلبي هذا .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية