( فصل )
وقد اعترف طوائف بأنه يستحق أن يحب ، وأنكروا أنه يحب غيره إلا بمعنى الإرادة العامة ، فإن محبة المؤمنين لربهم أمر موجود في القلوب [1] والفطر ، شهد به الكتاب والسنة ، واستفاض عن سلف الأمة وأهل الصفوة ، واتفق عليه أهل المعرفة بالله .
وقد ثبت أن ، ففي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " التذاذ المؤمنين يوم القيامة بالنظر إلى الله أعظم لذة في الجنة " إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة : إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه . فيقولون : ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا ، ويثقل موازيننا ، ويدخلنا الجنة ، ويجرنا من النار ؟ قال : فيكشف الحجاب فينظرون إليه ، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه . وهو الزيادة [2] .
وفي حديث آخر رواه وغيره : " النسائي أسألك لذة النظر إلى وجهك ، والشوق إلى لقائك ، في غير ضراء مضرة ، ولا فتنة مضلة [3] " .
[ ص: 389 ] فقوله في الحديث الصحيح : " " يبين أن اللذة الحاصلة بالنظر إليه أعظم من كل لذة في الجنة ، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه . والإنسان في الدنيا يجد في قلبه بذكر الله ، وذكر محامده ، وآلائه ، وعبادته ، من اللذة ما لا يجده بشيء آخر
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " جعلت قرة عيني في الصلاة [4] ، وكان يقول : " بلال " أرحنا بالصلاة يا [5] وفي الحديث : " " إذا مررتم [ ص: 390 ] برياض الجنة فارتعوا " . قالوا : وما رياض الجنة ؟ قال : " مجالس الذكر [6] . ومن هذا الباب قوله : " " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة [7] ; فإن هذا كان أعظم مجالس الذكر .
من والمنكرون لرؤيته الجهمية والمعتزلة تنكر هذه اللذة ، وقد يفسرها من يتأول [8] الرؤية بمزيد العلم على لذة العلم به ، كاللذة التي في الدنيا بذكره ، لكن تلك أكمل .
وهذا قول متصوفة الفلاسفة والنفاة ، ، كالفارابي وكأبي حامد ، وأمثاله ، فإن ما في كتبه من " الإحياء " وغيره من هو بهذا المعنى لذة النظر إلى وجهه [9] ، [ والفلاسفة تثبت اللذة العقلية ، [ ص: 391 ] وأمثاله وأبو نصر الفارابي [10] من المتفلسفة يثبت الرؤية لله ، ويفسرها بهذا المعنى ] [11] .
وهذه اللذة أيضا ثابتة بعد الموت ، لكنهم مقصرون في تحقيقها ، وإثبات غيرها من لذات الآخرة ، كما هو مبسوط في موضعه .
وأما أبو المعالي ، ، ونحوهما فينكرون أن يلتذ أحد بالنظر إليه . وقال وابن عقيل أبو المعالي : يمكن أن يحصل [12] مع النظر إليه لذة ببعض [ ص: 392 ] المخلوقات من الجنة ، فتكون اللذة مع النظر بذلك المخلوق [13] .
وسمع رجلا يقول : أسألك لذة النظر إلى وجهك . فقال : هب أن له وجها أفتلتذ بالنظر إليه ؟ ! . ابن عقيل
وهذا ونحوه مما أنكر على ; فإنه كان فاضلا ذكيا ، وكان تتلون آراؤه في هذه المواضع ; ولهذا يوجد في كلامه كثير مما يوافق فيه قول ابن عقيل المعتزلة والجهمية ، وهذا من ذاك .
وكذلك أبو المعالي بنى هذا على أصل الجهمية الذي وافقهم فيه ومن وافقه ، الأشعري كالقاضي أبي بكر ، وغيرهما : أن الله لا يحب ذاته ، ويزعمون أن الخلاف في ذلك مع الصوفية . والقاضي أبي يعلى
وهذا القول من بقايا أقوال ، جهم بن صفوان وشيخه الجهم بن صفوان الجعد بن درهم ، وكذلك هو أول من عرف أنه أنكر حقيقة تكليم الله وأول من عرف في الإسلام أنه أنكر أن الله يحب أو يحب لموسى وغيره ، وكان ينفي الصفات والأسماء ، ثم انتقل بعض جهم [14] ذلك إلى المعتزلة وغيرهم ; فنفوا الصفات دون الأسماء .
وليس هذا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها [15] ، بل كلهم متفقون على أن ، وليس شيء أحق بأن يحب من الله سبحانه ، بل لا يصلح أن يحب غيره إلا لأجله وكل ما يحبه المؤمن من طعام وشراب ولباس وغير ذلك لا ينبغي أن يفعله إلا ليستعين به على عبادته [ ص: 393 ] سبحانه ، المتضمنة لمحبته ، فإن الله إنما خلق الخلق لعبادته ، وخلق فيهم الشهوات ليتناولوا بها ما يستعينون به الله يستحق أن يحب [16] على عبادته ، ومن لم يعبد الله فإنه فاسد هالك ، والله لا يغفر أن يشرك به فيعبد معه غيره ، فكيف بمن عطل عبادته فلم يعبده البتة كفرعون وأمثاله ؟ ! .
وقد قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ سورة النساء : 48 ] ، [ ، فالمستكبرون عن عبادته أعظم جرما من الذين يعبدونه ويعبدون معه غيره ، وهو لا يغفر لهم ، فأولئك أولى والتعطيل ليس دون الشرك ، بل أعظم منه [17] ، وما من مؤمن إلا وفي قلبه حب الله ] [18] ، ولو أنكر ذلك بلسانه .
وهؤلاء من أهل الكلام - وهم مؤمنون - لو رجعوا إلى فطرتهم التي فطروا عليها ، واعتبروا أحوال قلوبهم عند عبادته ; لوجدوا في قلوبهم من محبته ما لا يعبر عن قدره ، وهم من أكثر الناس نظرا في العلم به وبصفاته وذكره ، وذلك كله من محبته الذين أنكروا محبته [19] ، وإلا فما لا يحب لا تحرص النفوس على ذكره إلا لتعلق حاجتها به ; ولهذا يقال : من أحب شيئا أكثر من ذكره .
والمؤمن يجد نفسه محتاجة إلى الله في تحصيل مطالبه ، ويجد في قلبه محبة الله غير هذا ، فهو محتاج إلى الله من جهة أنه ربه ، ومن جهة [ ص: 394 ] أنه إلهه ، قال تعالى : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ، فلا بد أن يكون العبد عابدا لله ، ولا بد أن يكون مستعينا به ; ولهذا كان هذا فرضا على كل مسلم أن يقوله في صلاته .
وهذه الكلمة بين العبد وبين الرب ، وقد روي عن [20] - رحمه الله - : أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب ، جمع سرها في الأربعة ، وجمع سر الأربعة في القرآن ، وجمع سر الحسن البصري [21] القرآن في الفاتحة ، وجمع [22] سر الفاتحة في هاتين الكلمتين : [ إياك نعبد وإياك نستعين ) ] [23] ; ولهذا ثناها الله [ في كتابه ] [24] في غير موضع من القرآن ، كقوله : ( فاعبده وتوكل عليه ) [ سورة هود : 123 ] ، وقوله : ( عليه توكلت وإليه أنيب ) [ سورة هود : 88 ] ، وقوله : ( عليه توكلت وإليه متاب ) [ سورة الرعد : 30 ] ، وقوله : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) [ سورة الطلاق : 2 - 3 ] وأمثال ذلك .
وهم يتأولون محبته على محبة عبادته وطاعته .
فيقال لهم : فيمتنع في الفطرة أن يحب الإنسان طاعة مطاع وعبادته ، إلا أن يكون محبا لله ، وإلا فما لا يحب في نفسه [25] لا يحب الإنسان لا [ ص: 395 ] طاعته ولا عبادته ، ومن كان إنما يحب الطاعة والعبادة للعوض المخلوق ، فهو لا يحب إلا ذلك العوض ، ولا يقال : إن هذا يحب الله .
ألا ترى أن الكافر والظالم ومن يبغضه المؤمن قد يستأجر المؤمن على عمل يعمله ، فيعمل المؤمن لأجل ذلك العوض ، ولا يكون المؤمن محبا للكافر ولا للظالم إذا عمل له بعوض ; لأنه ليس مقصوده إلا العوض . فمن كان لا يريد من الله إلا العوض على عمله ، فإنه لا يحبه [ قط ] [26] إلا كما يحب الفاعل لمن يستأجره [27] ويعطيه العوض [ على عمله ] [28] ، فإن كل محبوب ، إما أن يحب لنفسه ، وإما أن يحب لغيره ، فما أحب لغيره فالمحبوب في نفس الأمر هو ذلك الغير ، وأما هذا فإنما أحب لكونه وسيلة إلى المحبوب ، والوسيلة قد تكون مكروهة غاية الكراهة ، لكن يتحملها [29] الإنسان لأجل المقصود ، كما يتجرع المريض الدواء الكريه لأجل محبته للعافية ، ولا يقال : إنه يحب ذلك الدواء الكريه .
فإن كان الرب سبحانه لا يحب إلا لما يخلقه من النعم ، فإنه لا يحب ، وقد قال تعالى : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ) [ سورة البقرة : 165 ] ، فأخبر أن ، وأن المشركين يحبون الأنداد كحب الله . المؤمنين أشد حبا لله من المشركين
[ ص: 396 ] ومن المعلوم أن ، كما قال تعالى : ( المشركين يحبون آلهتهم محبة قوية وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ) [ سورة البقرة : 93 ] ، وهذا وإن كان يقال : [ إنه ] [30] لما يظنونه فيهم من أنها تنفعهم ، فلا ريب أن الشيء يحب لهذا ولهذا ، ولكن إذا ظن فيه أنه متصف بصفات الكمال كانت محبته [31] أشد ، مع قطع النظر عن نفعه .
والحديث الذي يروى : " " إسناده ضعيف أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه ، وأحبوني بحب الله ، وأحبوا أهل بيتي بحبي [32] ; فإن ، وإن كانت محبته واجبة لإحسانه . الله يحب أن يحب لذاته
وقول القائل : المحبة للإحسان محبة العامة ، وتلك محبة الخاصة - ليس بشيء ، بل كل مؤمن فإنه يحب الله لذاته ، ولو أنكر ذلك بلسانه . . ومن قال : إني لا أجد ومن لم يكن الله ورسوله أحب إليه مما سواهما لم يكن مؤمنا [33] هذه المحبة في قلبي لله ورسوله ، فأحد الأمرين لازم : إما أن يكون صادقا في هذا الخبر ، فلا يكون مؤمنا ، فإن أبا جهل وأبا لهب [ ص: 397 ] وأمثالهما إذا قالوا ذلك كانوا صادقين في هذا الخبر ، وهم كفار أخبروا عما في نفوسهم من الكفر ، مع أن هؤلاء في قلوبهم محبة الله [34] لكن مع الشرك به ، فإنهم اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ; ولهذا أبغضوا الرسول وعادوه ; لأنه دعاهم إلى عبادة الله وحده ، ورفض ما يحبونه معه ، فنهاهم أن يحبوا شيئا كحبه [35] ، فأبغضوه على هذا . فقد يكون بعض هؤلاء المشركين الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ، يفضل ذلك الند على الله في أشياء . وهؤلاء قد يعلمون أن الله أجل وأعظم ، لكن تهوى نفوسهم ذلك الند أكثر .
والرب تعالى إذا جعل من يحب الأنداد كحبه مشركين ، فمن أحب الند أكثر كان أعظم شركا وكفرا ، كما قال تعالى : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) [ سورة الأنعام : 108 ] ، فلولا تعظيمهم لآلهتهم على الله لما سبوا الله إذا سبت آلهتهم .
وقال تعالى : ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون ) [ سورة الأنعام : 136 ] ، يوم أبو سفيان أحد : أعل هبل أعل هبل . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ألا تجيبوه ؟ فقالوا : وما نقول ؟ قال : قولوا : الله أعلى وأجل . وقال : إن لنا العزى ، ولا عزى لكم . قال : ألا تجيبوه ؟ قالوا : [ ص: 398 ] وما نقول ؟ قال : قولوا : الله مولانا ، ولا مولى لكم أبو سفيان وقال [36] .
ويوجد كثير من الناس يحلف بند جعله لله ، وينذر له ، ويوالي في محبته ، ويعادي من يبغضه ، ويحلف به فلا يكذب ، ويوفي بما نذره له [37] ، وهو يكذب إذا حلف بالله ، ولا يوفي بما نذره لله ، ولا يوالي في محبة الله ، ولا يعادي في الله ، كما يوالي ويعادي لذلك الند .
فمن قال : إني لا أجد في قلبي أن الله أحب إلي مما سواه ، فأحد الأمرين لازم : إما أن يكون صادقا فيكون كافرا مخلدا في النار ، من ، وإما أن يكون غالطا في قوله : لا أجد في قلبي هذا . الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله